حالما نبدأ في تحسس نتوءات اللغة الشعرية .. المنتثرة في فضاءات القصائد المفترقة / المتداخلة في آن .. نستشعر قوة اندفاع نزيف دموي .. يريق شعورنا حيث المساحات الواسعة من المعنى لا يحدها سوى طبيعة اللغة المقيدة / الحرة .. وانتقاء الشاعر لمفردات لا تجتمع بقدر ما تفترق على نحو مراوغ .. مرهق .. يجعل قارئ الديوان يتخبط بين زوايا متباينة .. مرتفعا تارة .. وتارة يهبط إلى قرار العمق حيث مترسبات الوجدان والوعي التي تنشر ضبابها .. متخفية بقدر انكشافها وترائيها المتوالي ..
يقتسم الديوان وحدتين لا ثالث لهما .. ناظر ومنظور له .. كائن أوحد وفضاءات متنوعة .. تستبيح قدراته وإمكاناته .. ونتييجة لا بد منها .. ولا شك أن الشاعر قاصد إلى يقينه بكل ثبات .. معلنا لغة لا تعترف بحدود الطبيعة بقدر ما تسعى لتخطي هذه الحدود .. سابحا مع طائره إلى حيث يأخذه مدى الرؤية والقدرة على الإبصار .. متأملان فضاءاته التي لا تنتهي .. والتي في نفس الوقت تمثل آلامه وإشكاليته الوجودية التي لا مفر منها .. غلا بقرار مسبق او لاحق بالفرار أو الانفلات ..
إن طائرنا ليس بضال أو مضل .. إنه ضليل .. المفرد / الحي .. الميقين أبعاد حدوده التي تنتهي عند حواف أطراف عوالمه .. وبالرغم من أنه مبصر فضاءاته على ابعد .. إلا أنه ضليل .. يتخبط المسير حيث يصعب الاختيار بل .. قل يصعب اجتياز هذه الفضاءات أو القفز عليها .. حتى إذا ما أدرك مدى مأساته . يطالعنا القرار بالانفلات والفرار والخروج على حدود عامله آخر المطاف ليقول لنا في آخر قصيدة وهي " ينفلت الطائر " : إنه راحل إلى مدن لا تنوح .. وليست تغني .. بعد أن ارتدى الرفيف المخامر وانتزع عظامه وريشته الباقية .." .. فأي رحيل يبغيه الشاعر .. ؟! أهو رحيل الكشف وارتياد عوالم أخرى .. ؟ أي محاولة التحليق في فضاءات مغايرة لما هجره الطائر الضليل ؟! .. أم أنه رحيل اليأس واغتراب النفس في عوالم لا نهاية لها .. بعدما فقد الطائر إمكانية اشتهاء الحياة لما لاقاه من مفارقات تتوزع فضاءاته الطارح ألوانها وملامحها .. ألوانها المعتمة وملامحها الضبابية .. ؟! فلنقتحم عوامل الشاعر ولنحلق في فضاءاته ليمكننا بعد ذلك اكتشاف المعنى وحدود قصائد الديوان المتداخلة المفترقة في آن .
(1)
يأتي القسم الأول بقصائده جميعا .. والذي يدور حول المحور الموضوعي / المنظور .. كمحيط خارجي معلنا عن تشكيل لغوي يفور حركةً وتقلبا ما بين مدارات متداخلة .. ليمثل مدار واسع يشمل مفردات القصائد المفردة .. لنستشعر في نهاية القسم و:ان الشاعر قد ارتحل بنا خلال عوامل صغيرة .. يشكل كل عالم منها أفق قائم بذاته بالرغم من إصرار الشاعر المسبق على إظهار هذه المجموعة كوحدة متداخلة لتشكل مفهوم المدارات المعنية والمقصودة في ذهنه مسبقا .. غلا أننا نرى من ناحية أخرى أن القصيدة المفردة تتمكن في نهاية الأمر من فرض كينونتها وإبداع وجودها كحالة من الإدراك غير الفجائي .. والوعي الراصد ليأتي رصد هذا الوجود من خلال جسد لغوي مفتوح البداية والنهاية ..
يفتتح الشاعر عماد غزالي القسم الأول من ديوانه بمقدمة ضرورية تشمل القصيدة الأولى والثانية .. وهما " قبيل اختفاء النجوم .. " , " الجنازة " .. فقد جاءت القصيدتان كمدخل ضروري ومؤهل لما بعده من قصائد .. فما هذه المقدمة إلا المشهد الأخير .. مشهد الارتحال والانفلات .. مشهد الاحتضار أو الموت .. ففي قصيدة " قبيل اختفاء النجوم " نجده يقول : "
أكان من الضروري أن تراه .. منفجرا في البكاء .. وهم يحملونك من أمام ذلك الراقد .. وأنت تتساءل أهو ..؟! أين ذهب نصف وزنه إذن ..؟! ليس غير الدعاء مع الفجر .. وأم تخاطب السماء – قبيل اختفاء النجوم – له أولاد يا رب فلا تضيعه لأجلهم .. هو الذي سينجو من جرح إلى جرح .. ليبتاع لك الكتب المدرسية .. والملابس الرخيصة .. " أما في قصيدة " الجنازة " فنجده يقول : " أسفل الراقد هناك .. أصابع الأهلة المشرعة .. تبقيه هكذا .. والكائن الذي يدور حول محور غامض .. لو أنه فقط .. يرفع ناظريه لأعلى .. لأمكنه أن يرى الحرائق الكثيرة .. تخلخل الفراغ الكبير .. حول المرآة .. " إن الشاعر يحملنا هنا - من خلال لغة تصويرية مكثفة .. عبر ميتافيزيقا إنسانية تمثل نهاية المطاف .. والتي لا تتغير صورتها .. إن مشهد الوداع .. هو مشهد يتكرر عبر الوجود الإنساني .. إلا أن هذا المشهد التقليدي يحمل معاني مغايرة لما يحمله بالعادة .. فالشاعر يدخلنا إلى عمق التاريخ ليسرد لنا مأساة الإنسان مع الحياة .. ليمثل لنا المشهد الأول .. نهاية مثالية .. لذا كان منطلقا رائعا يؤكد امتلاك الشاعر القدرة على توظيف تكنيك التصوير السينمائي .. عندما يجعل النهاية منطلقا مشروعا للبداية .. حيث تبدأ بداية الشاعر من حيث انتهى إليه الموت . بداية القص والحكي ليدفع بنا إلى تمثل القدرة على تخيال وتوقع الأحداث قبل سردها .. كما أننا نلمس البعد الميتافيزيقي تنتشر أصداؤه عبر الديوان .. إنها حكاية موت قبل أن تكون حكاية حياة .. وكلاهما موظف لما يسعف الآخر وتأكيده عبر لغة شعرية موجزة .. وليبقى للقارئ حرية الاشتراط والتمثل والإدراك .. إدراك حقيقة الوجود التي تنتهي عند حدود القبر .. وهناك البعد الأيديولوجي الذي لا يمكن أن أغفله .. والذي من الممكن تفسير المشهد الأخير وتأويله بموت التراث والقديم بالنسبة للإنسان العربي .. ويبقى السؤال .. هل الموت يمثل بداية أم نهاية .. ؟ أما باقي العناصر في هذا القسم .. فنرى أن الشاعر قد اتخذ عناوين رئيسية ثم عناوين فرعية .. كأبواب وفصول .. يربط ما بين هذه الفصول خيط واحد .. أو معنى ما يسعى الشاعر لإظهاره أو الحديث حوله .. حتى إذا ما انتهى من باب انتقل إلى باب آخر وفصول أخرى .. هذه الفصول تتناول كل منها جزيء ما لتكون بمجموعها موضوع الباب وعنوانه .. إلى جانب القصيدة الواحدة المفردة القائمة بذاتها والمسماة بـ " في الطريق إليها " .. والتي تأتي كحد فاصل بين نهاية القسم الأول وبداية القسم الثاني .
(2)
وعند الحديث عن هذا الشكل من التشكيل اللغوي الشعري نقول : إن الشاعر قد وظف هذا التجزيء والتقسيم ليستطيع من خلاله إيجاز الدفقة الشعورية والتي في نفس الوقت تحدد المدى الإبداعي لديه .. فهذه العناوين الفرعية والتي يربطها عنوان واحد رئيسي منذ البداية يوحي لنا بإدراكك الشاعر المسبق بما سيقوله .. وأنه على وعي تام بالتخطيط والتشكيل اللغوي الذي سبني من خلاله بيته الشعري .. أو قصيدته الشعرية .. وعلى الرغم من انتماء النص للنوع الشعري إلا أن الشاعر قام بتوظيف عناصر القص والسرد .. والتوزيع المادي للغة سردية حكائية وإكسابها إمكانات شعرية خاصة بها .. بخلاف التوزيع الخطي للسطر الشعري ذاته وملحقاته .. وقد يكون هذا التجزيء ما هو إلا لطبيعة الصورة المرصودة .. حيث أنها تمثل نقاط تحول في حياة الشاعر / الطائر .. أو هي أهم التحولات التي عاصرها الطائر الضليل التي أفضت به على ما أفضت إليه من تحول كبير واختياره الانفلات .. والذي قد يجوز تأويله على أنه انفلات من أسر الماضي والانطلاق في فضاءات جديدة تخلق له ملامح جديدة مغايرة لملامحه القديمة .. والتي سوف يقتحم عوالمها في القسم الثاني .. فقد اعتمد عنصر التجزيء لتقديم صورة مأزق الإنسان العربي .. لذا جاءت مختصرة مكثفة .. حتى تحقق كثيرا من التبئير في الرؤية ما يفيد تحديد الهدف من الصورة أو من الدفقة الشعورية ذاتها .
وعند تحديد زاوية الرؤية الشعرية نجد أن تلك البداية أو المشهد / الموت مقدمة مشروعة لقصائد الديوان .. فقد بلغ الحماس بالشاعر بعد مشهد الواقع الأخير " الوداع " لأن يسترجع شريط الأحداث متضمنا المشهد الأخير .. وذلك من خلال استعادة الطائر أو الأب لحياة حافلة بالأحداث والتحولات لحظة الاحتضار .. لتصبح النهاية / الخاتمة .. مفتتح لقلب الحدث .. ويصبح المشهد الأول هو بداية البداية ونهاية النهاية .. هذا على مستوى الديوان .. أما على مستوى التأويل فهو يمثل نهاية النهاية وبداية البداية .. نهاية مرحلة .. وبداية مرحلة أخرى في ذات الوقت .. إنها الحقيقة التي استجمع الشاعر قواه لرصدها كبداية مشروطة استمدت مشروعيتها من خلال رصده لتلك الفضاءات المتباينة وما انتهت إليه في خاتمة المطاف ..
والتي سوف نطرح بعضا مما جاء منها في القسم الأول :
ففي قصيدة " سما لك الشوق " في الباب الأول المسمى بـ " فضاءات " نجده يقول معبرا عن إحساس بمعنى التحول والتغير والثبات .. معلنا في نهاية القصيدة سؤال أثير يعزز لدى القارئ إلحاح اللحظة الراهنة التي يعيشها العربي بالذات ما بين ماضيه وحاضره .. معلنا حيرته ما بين البقاء على البناء أو تقويضه فنجده يتساءل .. " فهل أقوض البناء ..؟ " إن تلك الحيرة ما بين الماضي والحاضر يرصدها أيضا في القصيدة السابقة : " ليس براحا .. تماما " فيقول : " .. وحالة تقيمها .. أ, برزخا تقده .. ورائحة لهوس لا يعود .. فقط .. يريد طقسا قديما .. أنت دليله .. " .. كما أنه يقيم مقارنة ما بين هذا العالم والعالم الجديد فنجده يقول : " الآخرون شوكة .. وأنت نافذ .. بحلق غفوة طويلة لتلعق عسلا رشيقا بلا زهرة ولا رقصة .. " . . إن هذه الأبيات الأخيرة قادرة على تصوير حال الإنسان العربي ما بين الارتكان .. – يحلق غفوة طويلة .. لتاريخ وتراث يمثل له مجلب الرحيق .. وعالم آخر ما هو إلا شوكة ..
وعند تأمل الضمائر المستخدمة في القصائد .. في هذا القسم .. نجدها تتراوح ما بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم وضمير الغائب .. هذا التناوب في استخدام الضمائر ما هو إلا تكثيف للصوت المعبر عن وجه الأزمة المعاصرة للإنسان العربي وسط دوامات الحياة المعاصرة والتراث الذي ما زال يفرض نفسه خطافا على وجدانه .
ففي الباب الثاني المسمى " من أسمائه " .. نجده مثلا يمثل خصائص التاريخ أو الإنسان العربي ذاته .. لذا جاء هذا الباب بضمير الغائب .. ليقدم لنا أيديولوجيا صارخة .. فمثلا يقول واصفا مأزقه الوجودي : " .. فضوليا يتلمس في كهف الذات نتوءات الأعماق .. " إلى جانب موقفه من حركة التاريخ فيقول : " ... حياديا .. يشتعل إذا مس الجذع الفائر ريش الطائر .. ويشذ بعيدا إن ناداه السرب .. " .
وعند الانتقال إلى الباب الثالث والمسمى بـ " لغة " فإننا نجد تقسيما مغايرا لمبدأ الفصول الذي تحدثنا عنه في الباب الأول .. حيث نجد أن هنا مجرد أرقام تقتسم القصيدة الكل .. فقد أخذ الشاعر على عاتقه مسؤولية الكلمة / اللغة كمعبر ( بكسر الباء ) أول حقيقي عن وجود الإنسان .. ليأتي في آخر قسم معلناً سخطه عليها .. حيث الفشل في تصور لغة حقيقية بالإنسان كإنسان تتجاوز حدود الواقع والحضارة .. ومشتاقا لعجمة اللسان فيقول : " .. هل لنا أن نعود إلى هناك .. حيث عجمة اللسان .. وعشوائية الأطراف .. وحيث تفرز الغدد فقط .. " هنا فقط نراه يقول ويؤكد أنها اللحظة التي سوف نكتشف فيها فضيحتنا .. حيث لا اختلاف بين البشر .. ذلك اننا : " سوف نصدر أصواتا متنوعة .. ولا صوت واحد منها .. سوف يؤدي معنى .. غير أن نشعر .. ولا صرخة واحدة .. سوف لا تدل علينا .. " .. إننا سوف نتساوى أمام الفطرة قبل تحويلها بفعل التطور والتحول .. لذا نجده قد استخدم نفي النفي لإثبات أن كل الصرخات وقتها سوف تدل علينا .. أي أن استخدام النفي هنا لإثبات الإثبات .
أما الباب الرابع .. فما هو غلا تنويعات على النغم الأصل .. أو المادة الأولى التي يمثلها الشاعر لنا بمأزق الإنسان العربي .. إنها حالات التوحد والانفلات من واقع الصدمة التي بدت وكأنها حالة من الانكشاف تراءى للشاعر من خلالها .. حقيقة واحدة هي التي نجدها في " دم عاشق " .. حيث نجده يقول : " .. عاشق لحروفي التي لم تقدني إلى أي فتح .. كما لم تقد أمة .. ,أرد عليها تهاويمها .. وأغني .. عاشق لدمى .. ربما لم تصغها يداي .. عاشق لبلاد .. تبدل عشاقها .. فغدوت غريبا .. " ليفاجئنا بعد مراحل الكشف المتوالية على خريطة التاريخ المتبدي لنا خلف عبارته المثقلة بالعدم .. بحلم هو أقرب للسؤال منه إلى الرجاء .. وذلك في قصيدة " دم البعيد " ذلك الحلم الذي يتوخاه الشاعر / الفرد حيث يقول : " أحلم بامرأة .. هي الاحتمال .. هي الممكن الذي كان .. أو يكون .. أحلم بك يا امرأة بعيدة .. " .. مما يؤكد على ألا حقيقة والبحث عن احتمال الممكن وإمكان المستحيل .. فلم تعد الحقيقة كامنة هنا أو هناك .. فلا حقيقة يقينية .. إنما هناك حقيقة ممكنة .. ومن ثم سقوط اليقين .. ولم يكتف بذلك العرض الشيق للهزائم المتوالية .. إنما يبثنا اعترافا صريحا بتلك الخطايا التي تثقل كاهله .. إنها الترائي المباشر للحقيقة والواقع الأليم ليقول لنا في صيغة اعتراف مشبع بالدهشة والسؤال في قصيدته .. " خطايا الدم " : " .. كله لي وحدي .. السرقات الصغيرة وتعذيب الآخرين .. سادية الأحلام .. التملق .. الكذب الدائم .. الكبت اللانهائي للغرائز .. عقوق الروح .. لي لي كله .. " متسائلا في خاتمتها بشيء من التمني .. : " أيتها الخطايا الجميلة .. كيف لو كنت دونك .. ؟!" حتى إذا انتهى إلى القصيدة الأخيرة في هذا الباب .. يقف حائرا متسائلا عما تسفر عنه النهايات التي وصل إليها .. فيقول متحاورا مع حال الواقع في قصيدة " رحيق الدم " .. قائلا .. : " .. على أي أرض سأرحل .. ؟! لا نجمة ستدل .. ولا راحلة .. ولا طائر .. سيحط على كتفي .. أو يشد الغمام إليً .. ولا نحلة تتراقص .. حتى تصب العبير .. على جبهتي .. إنها أمم من حجر .. ورسالات صمت .. تدبجها الريح .. حولي .. .. أهذا الطريق .. يؤدي إلى أي شئ ؟ ! " .. وأننا لنلحظ نبرة الاستسلام في نهاية السؤال .. حيث يقول : " إلى أي شيء .. " .. فأي شيء سوف يجده .. سيكفيه أو يرضيه .
وأخيرا يأتي الباب الخامس من القسم الأول على شكل قصيدة مطولة .. لا تقطيع فيها ولا وقفات .. إنما هي تواصل فعال .. حيث القرار .. في الطريق إليها .. الطريق إلى الحقيقة .. حقيقة الإنسان .. كما أن هذه القصيدة تمثل في واقعها لحظة الإدراك والتحول .. حيث النزوع والارتداد إلى مرحلة من الحلم والتمني ما بين ذات الطائر وضميره .. فالطفلة المتوخاة والمنتظرة .. ما هي إلا دنياه الجديدة .. يقول : " .. سأعود إلى البيت .. لي طفلة .. آن أن تحتويني .. قال .. بيننا واعتناق الرغائب .. هوة .. قلت .. وانعقدت في الفراغ الكثيف .. الحبيبات .. من عرق وانقسام .. أراهن أنها في المهد .. شمس .. تداعب كوكبة من ملائكة .. صامتين .. الدمى في يديها صورايخ .. تفشل في لحظة الانطلاق .. فتدمي .. عيون قراصنة العصر .. لي طفلة .. آن أن تحتويني .. وتبرق أحلامها بالبلاد .. وبالدمية الضاحكة .. صوبي .. صوبي في الفراغ .. لا تدعي منهم شبحا .. دون إصابة .. الظلام الثقيل يقهقه ملء الفضاء .. وأنت تدفعين مكرهم بمسدسات الماء .. " إن هذه الدنيا التي يفترضها ضمير الشاعر .. ما هي إلا دنيا الفطرة والنقاء .
(3)
أما القسم الثاني والذي يمثل الذات المدركة / الناظر يعني بتصوير أو يهتم اهتماما خاصا بالجانب الذاتي .. فكما قلت في البداية وكأن النص مقسم إلى ناظر ومنظور .. كان القسم الأول هو مادة الوعي والمنظور إليه .. أما هنا في القسم الثاني فمادته الذات الناظرة أو المدركة ( بكسر الراء ) والمقصود بذلك أحوال متباينة للطائر الضليل الذي يعني به الشاعر .. من خلال رصد حواراته الداخلية ليغدو الطائر حالات وصور .. يجمعها الشاعر من خلال رغبة واحدة .. بضرورة الانفلات .. بعد رصد صور الاغتراب المؤلم والذي يفعل فعله في نفس الطائر .. الذي هو في الحقيقة الشاعر ذاته .. وما تلك الصور والحالات إلا معاناة وآلام الشاعر وهذا ما يدل عليه آخر قسم من الديوان .
إن الشاعر قد أخذ لنفسه مهمة طرح أوجاعه لذا جاء الصوت عاليا .. مشبعا بإحساس السخط والنقد الساخر لما يرصده من أوضاع ومواقف .. وفي هذا القسم أيضا يوظف الكاتب نظام التقسيم .. فالقصيدة الواحدة قد تجتزئها أراقم متوالية .. أو عناوين فرعية جانبية .. بمعنى أن هذه الأجزاء يضمها حيز واحد .. أو هي تمثل سياقات يضمها سياق أكبر هو سياق الحدث الشعري .. حيث تعمل على توسيع نطاق القصيدة لتشمل مفردات أكثر ولكن فيما يخص الموضوع ذاته .
نجد هذا القسم يتناول الطائر الضليل .. كمفردة تصيغ عالمها الداخلي / الخارجي .. من خلال سبعة قصائد .. مترابطة الحدث ومنفصلة في آن واحد .. ففي القصيدة الأولى المسماة بـ " لوذان " .. نجد أن الشاعر يقدم لنا صورة خاطفة لأحوال هذا الطائر .. يبحث عن متكأ لجناحيه .. يلوذ من الشقوة .. بالشقوة .. تلك قوادمه غائصة في الطين .. تلك خوافيه غارقة في بئر اليأس المفرغ .. ريش يسًاقط كل صباح .. زغب يطلع .. يكبر يصبح ريشا يسًاقط عند تكامل دورته .. " لتصبح هذه القصيدة وكأنها كادر من التشريح .. وهي مقدمة ضرورية لما سيتلو بعدها من قصائد يترك فيها الشاعر زمام الحديث للطائر .. حيث تراوح الذات أماكنها من خلال تبادل ضمير المتكلم تارة .. والغائب تارة أخرى .. وكأن الطائر ذاته يحاور ذاته أو يقيم حوارا ذاتيا داخليا مسموعا .. وعندما يتحول الضمير إلى المخاطب تذوب المسافة بين الذات وذاتها .. في حوار الأنا / الآخر .. حتى إذا وصلنا إلى آخر الديوان في قصيدة " ينفلت الطائر " يأتي ضمير المتكلم / المخاطب .. في آن ختاما لمعاناة الكشف .. وهو حديث علني .. حيث يعلن من خلاله الشاعر / الطائر .. قراره بالانفلات .. إن الشاعر يراوح مكانه الداخلي / الخارجي .. من خلال مناجاة الآخر والذات .. وكأنه ينتزع الانفلات انتزاعا من داخله .. إذ أنه يبث ذاته مناجاة إرادوية .. فإذا وصلنا إلى منتهى القصيدة نجد الحوار وقد تحول إلى ضمير الغائب .. الذي يمثل صوت الشاعر الذي يسرد حال انفلات الطائر المتحقق بالفعل فيقول : " هل يخون المداجي أصابعه .. ؟ يعود إلى مدن .. لا تنوح .. وليست تغني .. ولا تعد الآبقين بنار .. وبلا ساعد .. يأكل النمل أطرافه .. ارتدي معطفا .. ليخوض السماوات .. من غير أجنحة .. فقط .. ريشة فاتها نفسه .. ومضى .. " .. في النهاية نقول أن الديوان ما هو غلا حالة من حالات الكشف المستمر والتي تؤكد على إمكانية صياغة شعرية جديدة .. ملآى بانشطارات ذاتية .. تبعث على الدهشة والتامل .