بسم الله الرحمن الرحيمتشهد الساحة الثقافية اليوم صيحات ودعوات تنادي بضرورة تقدم الأمة ولحاقها بركب الحضارة التي سرت في بلدان كثيرة كما في أوربا وأمريكا ، التي تقدمت تقنياً وعلميا على نحو ما هو معلوم ومشاهد في الواقع المعاصر .
وكانت تلك الدعوات – لعلمها باعتزاز الأمة بتاريخها – تدَّعي أن تلك الحضارة المنادى بها ليست منبتَّة الجذور مقطوعة السبب عن تراثها وتاريخها الطويل الحافل ، بل هي حضارة تستمد وتستنير وتعتمد على جوانب مضيئة من ذلك التراث يقوم عليها بناء الحاضر وحلم المستقبل .
ولما كان التراث كذلك عندهم كان لا بد من تغييب بعض أحداث التراث وربما سواده الأعظم في تجسيد لمبدأ الانتقائية التي بلي بها مثقفوا هذا الزمان ورأوا ضرورة تلك الانتقائية لأن التراث يشتمل على جوانب لا تقدمية أو رجعية كما يقولون .
من أجل ذلك كان هذا الكتيب الذي ألفه الدكتور جورج طرابيشي ، والذي يحمل عنوان : ( مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة ) ، ويقع في مئة وست وثلاثين صفحة من القطع الصغير .
تقوم فكرة الكتاب على رصد لتلك المذبحة في تيارات متعددة تتفق جميعها في الجوهر وهو : الانتقاء من التراث بما يخدم الغرض وتغييب الباقي والذي عادة ما يكون جانباً كبيراً من التراث وكما وافراً منه .
يقول الدكتور طرابيشي : " لو كانت كل الخسائر المترتبة على منهج الإسقاط الأيدلوجي تتمثل في عجزه عن الوصول إلى حقيقة تاريخية لهان الخطب نسبياً ، ولكن منهج الإسقاط الأيدلوجي يتنطَّع لما هو أكثر من الفهم أو عدم الفهم ، فهو ينصب نفسه جراحاً يريد إخضاع التراث لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنها أورامه الخبيثة "(1) .
ويتكون الكتاب من ثلاثة مباحث هي :
1- المذبحة النظرية للتيار الماركسي .
2- المذبحة النظرية للتيار القومي .
3- المذبحة النظرية للتيار العلمي .
وفي البداية تحدث الدكتور طرابيشي عن مذبحة التيار الماركسي ، فقد كان (لينين) أول من طالب بانتقاء ما هو حضاري و ديموقراطي ومادي وعقلاني في التراث ، وهو ما انعكس عند الماركسيين العرب ، واختار الكتاب نموذجاً لهؤلاء الماركسيين ( سمير أمين ) الذي شارك في ندوة : ( أزمة الديموقراطية في الوطن العربي ) بورقة بعنوان : ( إشكالية الديموقراطية في الوطن العربي ) ، وفي رد على هجوم عليه بين أنه لا يرد التراث بل ينتقي منه على الطريقة اللينينيَّة ما يوافق الفكر الماركسي ويمتاز بالتقدمية المادية .
وفي التيار القومي جاء الكتاب بنموذجين يمثلان اتجاهات القومية العربية وهما:
1- النموذج القومي العلماني : ويمثله د/ زكي الأرسوزي ، والذي يدعو إلى انطلاق القومية من العصر الجاهلي كونه كان بعيداً عن اختلاط العرب بالأعاجم من فرس وروم .
ويشن د/ زكي على المأمون الخليفة العباسي حملة عنيفة كونه جعل جيشه من الفرس ويصفه بـ(الهجين) الذي تجرأ على انتهاك حرمة بلاد العرب .
2- النموذج القومي الإسلامي : ويدعو هذا التيار إلى العودة إلى عصر نشأة الإسلام والصدر الأول من المسلمين ، ويمثل هذا التيار : (محمد عمارة) في كتابه : (نظرة جديدة إلى التراث) .
يقول د/ طرابيشي : " وبالفعل ، إن ما يميز الداعية الإسلامي إلى القومية العربية الذي هو : محمد عمارة ، عن الداعية العلماني الذي كانه : زكي الأرسوزي هو أن العروبة عنده عروبة حضارة قبل أن تكون عروبة جنس ، وعروبة فكر قبل أن تكون عروبة لغة ، وعروبة عقل قبل أن تكون حدس "(2).
وفي مذبحة التيار العلمي يورد الكتاب نموذجين أيضاً هما :
1- النموذج العلمي البرغماتي : ويمثله : زكي نجيب محمود ، يقول : " نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقاً علمياً ، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة " (3) .
2- النموذج العلمي الأبستمولوجي : ويمثله : محمد عابد الجابري ، في كتابه : (نقد العقل العربي ) ويعلي فيه من شأن الفلاسفة والمناطقة في التراث الإسلامي كالحلاج وابن سينا وغيرهم ، ويتخذ نماذج تحديثيين في التراث يجب الاستنارة بهم والاستفادة منهم .
هذا هو كتاب د/ جورج طرابيشي ، أردت تسليط الضوء على فكرة الكتاب وموضوعاته . والله أسأل أن يوفقنا لما فيه الصالح والخير ..
والحمد لله رب العالمين .
-------------------
الهوامش :
(1) مذبحة التراث ص 11
(2) نفس المصدر ص 27
(3) نفس المصدر ص 59