إن الزوايا الثقافية والاتجاه الفكري والمحطات التاريخية .. التي انطلقت منها لفهم أسباب الغزو الأمريكي للعراق .. كلها دلت على أنه لم يكن أمام أمريكا من خيار سوى غزو العراق .!
هنالك حقائق لامناص من الوقوف عندها والاعتراف بها .. وهي أننا الآن نقع خارج محيط الدائرة الفاعلة في التاريخ ؛ وأن موقعنا في التاريخ والجغرافيا هو مركز دائرة مناطق النفوذ وأسواق الاستهلاك - بالنسبة للدول العظمى والصناعية ؛ وأن الدول العظمى تتنافس من أجل الفوز بنا – لا من أجل الفوز علينا ؛ وأننا لا نـُشكّل خطراً مباشراً على مصالحها وأمنها ؛ وأنه من الناحية المنطقية والواقعية – فإن الأمر سيان بالنسبة لنا أكان تحالفنا مع أمريكا أو مع منافسيها .. والموقع الأمثل لنا هو الحياد مادمنا لا نملك أن نكون طرفاً مستقلاً وفاعلاً في المعادلة ، وليست لدينا القدرة على مساندة أحد ولا الدفاع عن أنفسنا ..!
إن أمريكا ممثلة في المؤسسات الاقتصادية العملاقة التي ترسم السياسة الخارجية لها ، والتي تـُدير عجلة الاقتصاد العالمي وتقود مسيرة التكنولوجيا في كل المجالات .. تخشى روسيا المنافس التاريخي لها ، وتخشى الصين المنافس القادم لها ، وتخشى الاتحاد الأوربي المنافس المتوقع لها – على مصالحها ومناطق نفوذها – لاسيما النفطية منها ، وأسواقها الاستهلاكية ..!
وقد وضعت السياسة العربية (العراقية هنا ) الإستراتيجية الأمريكية أمام أحد خيارين .. إما مواجهة مستقبلية مؤكدة مع أحد منافسيها الكبار الذين تـُخطط القيادة العراقية للتحالف معهم ؛ أو أن تستبق تلك المواجهة باحتلال العراق ..!
إن من بين الحقائق التي لم يستطع العرب فهمها أنهم اليوم : ليسوا أكثر من أسواق استهلاكية ومصادر للمواد الخام . بالإضافة إلى أن العرب والمسلمين لم يستطيعوا قراءة الفكر الغربي المادي .. حيث أن الغرب يحتاطون من كل تصريح سياسي وديني ، ويأخذونها على محمل الجد .
ومن يستمع إلى تصريحات العرب والمسلمين وإذاعاتهم وبرامجهم التلفزيونية وندواتهم الثقافية والشعرية .. يظن أن العرب بقوة أمريكا عسكرياً وبتعداد الصين شعبياً وبوعي الأوربيين ثقافياً وبقدرة اليابانيين علمياً وبأسرار الروس استخباراتياً ... بينما الحقيقة أنهم على النقيض من ذلك تماماً .
إن استمرار العرب والمسلمين في التغني بأمجاد الماضي ، وعدم قراءة الواقع كما هو .. قد صنفهم في الثقافة العالمية على أنهم العدو الضعيف في مواجهة الجميع .
كان السبب المباشر الأول الذي عجـّل بتحديد موعد غزو العراق هو إعلان الدولة العراقية عن بدء التعامل بعملة الاتحاد الأوربي (اليورو) مقابل النفط ، والتوقف عن التعامل بالعملة الأمريكية (الدولار) ، ونحن نعلم حرب العملات المعلنة بينهما .
وكان السبب المباشر الثاني في التعجيل بموعد الغزو هو إعلان العراق عن صفقة كبيرة وطويلة الأجل في مجال النفط – مع روسيا .
أما الأسباب الأساسية للغزو فإنها ترجع إلى أيام الحرب العراقية الإيرانية ، ومساعدة أمريكا للعراق خلالها – ثم طرد العراق المفاجئ للبعثة الاستخباراتية الأمريكية بعد انتهاء الحرب مباشرة ؛ والتي أتبعها العراق بغزو الكويت ؛ بالإضافة إلى النفوذ الصيني المتنامي في تلك المنطقة الحيوية –وهذا سبب رئيسي ونراه اليوم يطل علينا من دار فور - واستغلال الصين لحمى العداء العربي الإسلامي لأمريكا وحليفتها إسرائيل .
ولأنه ليس من الحكمة في شيء أن تـُعلن أمريكا عن الأسباب الأساسية للغزو - تفادياً لمواجهة مع الخصوم والمنافسين الأنداد ؛ فكان من الضروري إيجاد بدائل قابلة للإعلان ، من قبيل السلاح النووي ، وجلب الديمقراطية .
ومخطئ من يظن أن أمريكا تريد الاستيلاء على نفط العرب مجاناً ؛ إنما هي حرب الكبار والإستراتيجيات البعيدة . والحقيقة أن قوة أمريكا تتمثل في قوة عملتها الدولار الذي لا رصيد له إلا بقاء أمريكا قوية – بخلاف كل العملات التي لها رصيد يُـعادلها من الذهب . فسقوط الدولار يعني سقوط أمريكا ، والذي يعني بدوره انتحار العالم حسب الموازين والمعايير السائدة الآن .
إن معاداتنا لأمريكا كأنما تنبع بالأساس من شعورنا بالنقص والضعف أمام قوتها - لا بسبب ظلمها ؛ لأننا نـُعاديها بالتحالف مع أعدائها ومنافسيها ، وليس مع أصدقائنا (لأننا لم نـُبق على أصدقاء) .
إن القراءة المنطقية والمنصفة للواقع تقول : إلى أن يُـصبح العرب والمسلمون قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية –قائمة بذاتها – عليهم التزام الحياد وعدم تغليب أو تقوية طرف على حساب طرف آخـر من الأطراف الفاعلة في الساحة العالمية ؛ وعليهم إبعاد الدين عن الخلافات السياسية والاقتصادية ؛ وعليهم تسمية الأمور بمسمياتها العالمية العصرية الواقعية أيضاً - لا بمسمياتها العربية التاريخية فحسب .
الجزء الثالث أي الزوايا من التاريخ - نقرأ - ومن الذي عليه أن يقرأ .!
يأتيكم قريباً .. مع أصدق تحياتي ..