بسم الله الرحمن الرحيم
سر دخول الكاف على لفظ المثل /
قال الله تعالى:﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:11)
أولاً- هذه الآية الكريمة جاءت تعقيبًا على قوله تعالى:﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾( الشورى: 10 )
وفيه يبين الله سبحانه للناس الجهة، التي يرجعون إليها عند كل اختلاف يقع بينهم، وهي هذا الوحي، الذي جاء من عند الله، والذي يتضمن حكم الله تعالى. فما من شيء اختلفوا فيه إلا وحكم الله تعالى فيه حاضر، في هذا الوحي، الذي أوحاه سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتقوم الحياة على أساسه. وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي تعالى قول رسوله صلى الله عليه وسلم، مسلمًا أمره كله إلى ربه، ومنيبًا إليه بكليته. ثم يأتي قول الله تعالى:
﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾( الشورى: 11 )
بما يزيد تلك الحقيقة تقريرًا، وتمكينًا في النفس. فالله الذي أنزل القرآن؛ ليكون حكم الله تعالى فيه هو الفصل، فيما يختلفون فيه، هو فاطر السموات والأرض، وفاطرهم، وهو الذي سوَّى نفوسهم وركَّبها، فنظم لهم حياتهم من أساسها، فهو سبحانه أعلم بما يصلح لها، وما تصلح به وتستقيم، وهو سبحانه الذي أجرى حياتهم وفق قاعدة الخلق، التي اختارها للأحياء جميعًا: جعل لهم من أنفسهم أزواجًا، ومن الأنعام أزواجًا، يذرؤهم فيه.. فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود.. إنه هو الذي جعلهم- هم والأنعام- يتكاثرون، وفق هذا المنهج، وهذا الأسلوب؛ وذلك من أعظم النعم، التي أنعم الله تعالى بها على عباده، وامتنَّ بها عليهم. وهو آية من آياته الدالة على إلهيته ووحدانيته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده.
ثم أكَّد سبحانه تفرَّده دون خلقه جميعًا بالإلهيَّة والوحدانيَّة، والاستحقاق للعبادة، فأخبر على سبيل النفي أنه ليس هنالك ذات من ذوات الأشياء، تشبهه في ذاته، فضلاً عن أن تماثله فيها، سبحانه وتعالى.. والفطرة تؤمن بهذا بداهة؛ لأن خالق الأشياء لا يمكن أن تشبهه، أو تماثله تلك الأشياء، التي هي من خلقه. ومن ثَمَّ فإنها ترجع كلها إلى حكمه، عندما تختلف فيما بينها على أمر, ولا ترجع معه إلى أحد غيره; لأنه ليس هنالك شبه له، أو مثل, حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف.
ومع أنه سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته؛ لأنها مغايرة لذوات الأشياء كلها تمام المغايرة، فإن الصلة بينه عز وجل، وبين ما خلق ليست منقطعة بسبب تلك المغايرة، فهو سبحانه يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، ثم يحكم حكم السميع البصير. ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾( المائدة: 50 )
ثانيًا- وقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ تقرير للتوحيد، وإبطال لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم بالله جل وعلا، وجعلهم مثلاً له سبحانه، حتى عبدوهم معه. وهذا التشبيه والتمثيل، الذي أبطله الله سبحانه بهذا النفي هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام والأقزام.
ولعلماء النحو والتفسير في تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متضاربة، وآراء متباينة. والسبب في ذلك يرجع إلى إجماعهم على تفسير الكاف بمعنى المِثل؛ ولهذا تأولوا الآية على معنى: ليس مِثل مِثله شيء. ولما كان هذا التأويل يفضي إلى المحال؛ لأنه يثبت لله جل جلاله مِثلاً، اختلوا في تفسيره على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الكاف زائدة، لتأكيد المِثل. وعليه يكون المعنى: ليس مِثل الله شيء. وهذا قول الجمهور، جاء في لسان العرب:” وقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، أراد: ليس مثله. لا يكون إلا ذلك؛ لأنه، إن لم يقل هذا، أثبت له مِثلاً، تعالى الله عن ذلك “.
والقول الثاني: أن الزائد هو لفظ المِثل، لا الكاف. وعليه يكون المعنى: ليس كهو شيء. أي: ليس كالله شيء. وهذا يفضي إلى القول الأول؛ لأن الكاف- عندهم كما ذكرنا- بمعنى مِثل. ومنهم من قال: إن العرب تستعمل المِثل كناية عن الذات للمبالغة، فتقول: مِثلك لا يبخل، ينفون عن مِثله البخل، وهم يريدون نفيه عن ذاته.
والقول الثالث: أنه لا زائد في الآية، ثم اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن لفظ المِثل بمعنى: الذات، وأن المعنى: ليس كذاته شيء. وذهب بعضهم الآخر إلى أنه بمعنى: الصفة، وأن المعنى: ليس كصفته شيء. وجمع بعضهم بين المعنيين، فذهب إلى أن المعنى: ليس كذاته، وصفته شيء.
واختار المرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه:( أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ) القول بأن المِثْل بمعنى: الوصف، فقال بعد أن قرَّر أن المَثَل، بفتحتين، والمِثْل، بفتح فسكون، يستعملان بمعنى الوصف، إذا اقترنا بكاف التشبيه:” فيمكن أن نقول في ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾: لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء؛ وذلك لأن المِثل، والمَثل يستعملان بمعنى الوصف.. وبهذا ينحل الإشكال الذي ألجأ العلماء إلى تأويل اجتماع كلمتي تشبيه، هما: الكاف، ومثل.. وهل الكاف زائدة، أو للتأكيد ؟ أو أن المراد: نفي مثل المثل، فنفي المثل من باب أولى.. إلى غير ذلك من كلام طويل حول هذا التعبير“.
وانتهى من ذلك إلى القول:”وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم نصوصًا قرآنية كثيرة. وبتفسير كلمة مَثَل، أو مِثْل بمعنى الوَصْفِ تنحلُّ إشكالاتٌ لفظيةٌ كثيرةٌ، يتعَبُ كثيرُ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها “.
وهكذا، بهذه البساطة، توصَّل الشيخ حَبَنَّكَةالمَيْداني- رحمه الله- إلى حلِّإشكالات لفظية كثيرة، يتعَبُ كثيرٌ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها- على حدِّ قوله- فكان كمَنْ أوقع نفسه في إشكالات أكبر من كل تلك الإشكالات، التي ذكرها؛ وذلك لمَا في قوله من إخُلالٍ ظاهر بمعنى الآية الكريمة، وصَرْفٍ لها عن الوَجْهِ، الذي قيلت من أجله.
وأورد الشيخ عبد المجيد البيانوني في كتابه ( ضرب الأمثال في القرآن ) قولاً في هذه الآية ذكره الراغب الأصفهاني في مفرداته عن بعضهم، وهو القول الذي اعتمد عليه المرحوم الشيخ حسن حبنكة الميداني في تقرير ما قرَّر، ثم عقب عليه بقوله:”انظر إلى المبحَث النفيس، الذي حققه الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراذ، في معنى هذه الآية في كتابه ( النبأ العظيم )، فارجع إليه؛ فإنه مَبحَث نفيس، ويكشف لك عن سر الإعجاز الإلهي في هذا الحرف“.. ولما رجعت إليه، وجدته يردِّد في ذلك كلامًا، نقله الفخر الرازي في تفسيره عن بعضهم ، وهو- كما يقول أبو حيان- كلام يحتاج إلى تأويل.
والحقيقة أن سرَّ الإعجاز الإلهي في هذه الآية الكريمة لا يتجلَّى لنا، إلا إذا فرَّقنا في المعنى أولاً بين المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، من جهة، وبينهما، وبين الكاف من جهة أخرى. ثم أدركنا ثانيًا سر الجمع بين المِثْل، والكاف فيها. وهذا ما سأبينه- هنا إن شاء الله- فأقول بعون الله تعالى وتعليمه:
أما المٍثْل، والمَثَل فهما من الأسماء، التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر؛ كالنصف، والزوج، والضعف. ويجمع كل منهما على أمثال، ويفرق بينهما بالقرائن. واشتقاقهما من( الميم والثاء واللام )، وهو أصل موجود في اللغات السامية كلها، ويتضمَّن فيها جميعًا معنى: المُماثلَة.
وحقيقة المماثلة أنها مساواة بين شيئين متماثلين؛ إما في تمام الحقيقة والماهيَّة. وإما في تمامالأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهية؛ بحيث يقوم أحد الشيئين مقام الآخر، فيما تكون فيه المماثلة، ويَسُدُّ فيها مَسَدَّه.والأولى هي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل، بكسر فسكون، والثانية هي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل، بفتحتين.
فعلى هذا إذا قيل: زيد مِثْلُ عمرو، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام حقيقتِه وماهيَّتِه. وإذا قيل: هو مَثَلُه، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام أحواله وصفاته، الخارجة عن حقيقته وماهيَّته.
وبهذا يعلَم أن المماثلَة بين الشيئين نوعان: مماثلة في الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومماثلة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل.
ويتضح من ذلك أن المِثْل، والمَثَل يتفقان في دلالة كل منهما على المساواة، ثم يفترقان في دلالة الأول على المساواة في الحقيقة والماهيَّة، ودلالة الثاني على المساواة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة.
بقي أن تعلم أن الفرق بين المماثلة، والمساواة هو: أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس، والمتفقين؛ لأن التساوي يكون في المقدارين، اللذين لا يزيد أحدهما على الآخر، ولا ينقُص عنه.أما المماثلَة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. ولهذا يقال في المساواة: هذا الشيء يساوي درهمًا. ولا يقال: هذا الشيء يماثل درهمًا، لاختلافهما في الجنس.
ومن هنا لا يجوز أن يقال: إن المِثْل، والمَثَل سيَّان، وإن كان اشتقاقهما يرجع إلى مادة واحدة. كما لا يجوز أن يفسَّر كل منهما بمعنى الوصف.
أما الكاف فهي أداة موضوعة للتشبيه بين شيئين قد يتفقان في الجنس، وقد يختلفان فيه. والتشبيه بينهما يكون في صفة، أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات. فإذا قلت: زيد كعمرو، فمعناه: أن زيدًا يشبه عمروًا في صفة، أو أكثر من الصفات؛ ولهذا لا يجوز أن تفسَّر الكاف بمعنى المِثْل، فالأولى أداة موضوعة للتشبيه في الصفات، والثاني اسم موضوع للمماثلة في الذوات.
وفي الفرق بينهما ذكر أبو هلال العسكري:” أن الشيءَ يُشبَّه بالشيء من وجه واحد، لا يكون مِثْلَهُ في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته؛ فكأن الله تعالى، لمَّا قال:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، أفاد أنه لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ.. ولو كان قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ نفيًا أن يكون لمثله مثل، لكان قولنا: ليس كمثل زيد رجل، مناقضة؛ لأن زيدًا مثل من هو مثله.
والتشْبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمِثْل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. تقول: ليس كزيد رجل. أي: في بعض صفاته؛ لأن كل أحد مِثْله في الذات. وفلان كالأسد. أي: في الشجاعة دون الهيئة، وغيرها من صفاته. وتقول السواد عرض كالبياض ولا تقول مثل البياض “.
وواضح من ذلك أن الفرق بين التشبيه، والمماثلة يكون من وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: زيد كالأسد فمعناه: أن زيدًا يشبه الأسد في صفة، أو أكثر من صفاته. هذا هو الأصل في التشبيه.
والوجه الثاني: أن التشبيه يكون بين المتفقين في الجنس، وبين المختلفين فيه. أما المماثلة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. وعلى هذا يجوز أن تقول: زيد كالجبل، فتشبِّه زيدًا بالجبل في صفة، أو أكثر من صفاته؛ كما شبه الله تعالى السفن بالجبال في العظم والارتفاع في قوله تعالى:
﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾( الرحمن: 24 )
ولا يجوز أن تقول: زيد مثل الجبل، لاختلافهما في الجنس. والوجه في ذلك أن تقول: زيد مثل عمرو، فتماثل بين متفقين في الجنس؛ كما ماثل الكفار بينهم، وبين الرسل في حقيقة الذات البشرية، فقالوا في معرض اعتراضهم عليهم:
﴿ إن أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾( إبراهيم: 10 )
فاعتبروا المساواة في البشرية، ومماثلة المجانسة فيها، واستدلوا بذلك على أن حُكْمَ أحد المِثْلَيْن حُكْمُ الآخر. فقالوا: كما لا نكون نحن رُسُلاً، فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في حقيقة الذات البشرية، فأنتم مِثْلُنا، لا مَزِيَّةَ لكم علينا.
ومن ذلك ما حكي عن المشركين من قولهم:
﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾( البقرة: 275 )
أرادوا: أن البيع مساو للربا في تمام الحقيقة والحكم، فقد بلغ من اعتقادهم في حِلِّ الرِّبا، أنهم جعلوه أصلاً وقانونًا في الحِلَّ، وقاسوا عليه البيع. ولو قالوا: إنما البيع كالرِّبا، لكان مرادهم أن البيع يشبه الربا من حيث الصورة، لا من حيث الحقيقة. وهذا خلاف المراد.
ويبين لك ذلك أن الفرق بين الحلال، والحرام لا بدَّ أن يكون فرقًا في الحقيقة، ولو كان فرقًا في الصورة، أو الصفة، لاستوى البيع مع الرِّبا في الحل. وإلى ذلك أشار ابن قيِّم الجوزية بقوله:” ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلغَى عند اللَّه تعالى ورسوله في فطر عباده، فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ، إذا اختلفت ومعناها واحد، كان حكمها واحدًا. فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني، كان حكمها مختلفًا. وكذلك الأعمال، إذا اختلفت صورها، واتفقت مقاصدها. وعلى هذه القاعدة يُبنَى الأمر والنهي، والثواب والعقاب “.
واختلفوا في المراد بالمماثلة في قوله تعالى:
﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾( يس: 42 ):
أهي مماثلة بين المتفقين في الجنس، أم بين المختلفين فيهما ؟ على قولين: أحدهما: أن المراد بها: السُّفُن. والثاني: أن المراد بها: الإبل، وكانوا يسمُّونها: سُفُنَ البَرِّ.
وعقَّب على ذلك ابن قيِّم الجَوْزيَّة بقوله:”والأصحُّ أن المِثْل المخلوق- هنا- هو السُّفُن، وقد أخبر أنها مخلوقة؛ وهي إنما صارت سُفُنًا بأعمال العباد. وأبْعَدَ من قال: إن المِثْل- ههنا- هو سُفُنُ البَرِّ، وهي الإبل، لوجهين:
أحدهما: أنها لا تسمَّى مِثْلاً للسُّفُن، لا لغةً، ولا حقيقةً؛ فإن المِثْليْن ما سَدَّ أحدهما مَسَدَّ الآخر. وحَقيقة المماثلة أن تكون بين فُلْكٍ وفُلْكٍ، لا بين جَملٍ وفُلْكٍ.
والثاني: أن قوله:﴿ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ ﴾( يس: 43 )عَقِبَ ذلك دليل على أن المراد الفُلْك، التي إذا ركبوها، قدرْنا على إغراقهم. فذكَّرهم بنعمه عليهم من وجهين: أحدهما: ركوبهم إياها. والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق“.
فثبت بما تقدم أن المِثْل غير المَثَل، وأن المِثْل غير الكاف؛ ولهذا لا يجوز أن يُفسَّر أحد هذه الألفاظ الثلاثة بالآخر.
وأما سر الجمع بين كاف التشبيه، والمِثْل، فهو أن الكاف تدخل على المِثْل، إذا كان المراد أن أحد المثلين، المتفقين في الجنس، أو المختلفين فيه، يشبه المِثْل الآخر في جهة، أو أكثر من جهات الحقيقة والماهيَّة. تأمل ذلك في قول عنترة بن شداد:
وما شَاقَ قلبي في الدُّجى غيرُ طائر **ينوح على غصنٍ رطيبٍ من الرَّنْد
به مثل ما بي فهو يخفي من الجوى **كمثل الذي أخفي ويبدي كالذي أبدي
كيف سوَّى في هذه المماثلة بين ما بالطائر، وما به هو من الجوى ( وهو حرقة الشوق )، في حقيقة الجوى وماهيَّته! ثم شبَّه ما يخفيه ذلك الطائر من الجوى بما يخفيه هو، وشبه الذي يظهره الطائر من ذلك بالذي يظهره هو، ففرَّق بذلك التشبيه بين ما يخفيانه، وما يظهرانه من الجوى. فما يخفيانه منه يرجع إلى حقيقته وماهيَّته، وما يظهرانه منه يرجع إلى صورته؛ ولهذا استعمل لفظ المثل مع الأول دون الثاني.
ثم تأمل قول أحدهم:
وقتلى، كمِثْل جُذوعِ النَّخيـل ** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ، مُنْهَمِـر
كيف شبه القتلى في هذا التمثيل، وهم في ساحة المعركة، بمثل جذوع النخيل، التي اقتلعها السيل من جذورها؛ لأنه أراد أن جثث القتلى تشبه جثث جذوع النخيل في جهة، أو أكثر من جهات حقيقتها وماهيتها. ولو أراد أنها تشبهها في صفة أو أكثر، لوجب أن يقول: وقتلى كجذوع النخيل، بإسقاط لفظ المثل. ولو أراد المماثلة بينهما في تمام الحقيقة والماهيَّة، لكان ينبغي أن يقول: وقتلى مثل جذوع النخيل. وهذا غير جائز، لاختلافهما في الجنس.
ومما ورد من ذلك في النفي قول عمرو ابن كلثوم:
فما شرب الشراب كمثل عمرو **وما نال المكارم فأَصْبَحينا
وقول ابن الدُّمَيْنَة:
وليس كمثل اليأس يدفع صبوة ** ولا كفؤاد الصَّبِّ صادف مطمعًا
وعلى هذا ورد قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، فهو نفي لقول المشركين: مِثْلُه شيءٌ. أي: شيءٌ مِثْلُ الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ! ألا ترى كيف مَثَّلوه سبحانه بخلقه، فجعلوا له أمثالاً وأندادًا، وهي أشياء، مع اعترافهم بأنه تعالى خالق الأشياء كلها ؟
روى عطاء عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:”قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك: أَمِنْ زُبُرْجُدٍ، أو ياقوتٍ، أو ذهبٍ، أو فضةٍ ؟ فقال: إن ربي ليس من شيء؛ لأنه خالق الأشياء، فنزل:﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ﴾( الإخلاص: 1 ). قالوا: هو واحد، وأنت واحد. فقال:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾( الشورى: 11 ) “.
ولذلك، لما قال فرعون لموسى:﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾( الشعراء:23 )كالطالب لماهيته تعالى، لم يجب موسى- عليه السلام- إلا بتعريفه بأفعاله، فقال:﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾( الشعراء:24 )؛ لأن السؤال في حق الباري سبحانه وتعالى عن ماهيَّته وجنسه خطأ كبير؛ لأنه سبحانه لا جنس له فيذكر، ولا تدرك ذاته.
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾(الأنعام: 103)
ولهذا عدل موسى- عليه السلام- إلى الجواب بالصواب، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته جل وعلا.
فإذا ثبت أن الله تعالى لا تدرك ذاته، ولا تعرف ماهيَّته، وأنه ليس بشيء مما يتصورون؛ لأنه خالق الأشياء كلها، فكيف يجوز أن تمثَّل ذاته المقدسة بذوات الأشياء، وهي مغايرة لها تمام المغايرة في حقيقتها وماهيتها ؟
ومن شروط المماثلة- كما ذكرنا- أن تكون بين شيئين متفقين في الجنس، وإن اختلفت صفاتهما؛ ولذلك لا يجوز أن يقال في حقه عز وجل: شيءٌ مِثلُ الله. ولا أن يقال: ليس شيءٌ مِثْلَ الله؛ كما جاز أن يقال: زيد مِِثْلُ عمرو، وليس زيد مِثْلَ عمرو؛ لأن لزيد مِثْلاً في الواقع من جنسه يماثله في ذاته، وليس لله تعالى مِِثْلٌ في الواقع يماثله في ذاته، لا من جنسه، ولا من غير جنسه؛ ولهذا نهى الله عز وجل عن ضَرْب الأمثال له، فقال:
﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾( النحل: 74 )
ولكن المشركين لم يتورَّعوا عن ضَرْبِ الأمثال لله جل وعلا؛ لاعتقادهم أنه سبحانه شيءٌ كباقي الأشياء، وأن ذاته الشريفة كذواتها، فجاء الرد عليهم بقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾
ولو قيل في الرَّدِّ عليهم: ليس مِِثْلَه شيءٌ. أو ليس كالله شيءٌ- كما قال المفسرون في تأويل الآية الكريمة- لكان ذلك اعترافًا منه سبحانه بأن له مِثْلاً في الواقع، يتفق معه في الجنس.
ولهذا لما أراد الله عز وجل أن ينفي عن ذاته المقدسة الشِّبْه والمِثْل، أتى بلفظ المِثْل، وأدخل عليه كاف التشبيه، ثم نفاهما معًا بـ﴿ لَيْسَ ﴾، فأصبح معنى الآية الكريمة: لا توجد ذات من ذوات الأشياء، تشبه ذات الله تعالى في جهة أو أكثر من جهاتها، فضلاً عن أن تماثلها؛ لأن نفيَ الشِّبْه يستلزم نفيَ المِثْل. وبهذا يظهر لك سر دخول الكاف على لفظ المِثْل في هذه الآية الكريمة.. فتأمله، وقِسْ عليه نظائره.
وللفخر الرازي كلام جيد في تأويل هذه الآية الكريمة، التي تاهت العقول في تأويلها؛ كما تاهت في ذاته سبحانه لاحتجابها بأنوار العظمة، وأستار الجبروت، أنقل منه قوله:” احتجَّ علماء التوحيد- قديمًا وحديثًا- بهذه الآية في نَفْيِ كونه تعالى جسمًا مركبًا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا: لو كان جسمًا، لكان مِثْلاً لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال، والأشباه له؛ وذلك باطل بصريح قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾.. “.
وأضاف قائلاً:” ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال: إما أن يكون المراد:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ في ماهيات الذات. أو أن يكون المراد:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾في الصفات. والثاني باطل؛ لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين؛ كما أن الله تعالى يوصف بذلك. وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك. فثبت أن المراد بالمماثلة: المساواة في حقيقة الذات؛ فيكون المعنى: أن شيئًا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية. فلو كان الله تعالى جسمًا، لكان كونه جسمًا ذاتًا، لا صفة. فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية- أعني: في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة- فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتًا. والنصُّ ينفي ذلك، فوجب أن لا يكون جسمًا “.
ثالثًا- ولو كان المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، سيَّان، وأن معناهما الوصف، للزم التنافي بين قوله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، وقوله:﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾( النحل: 60 )؛ لأن الأول نفيٌ للمِثْل، والثاني إثباتٌ للمَثَل؛ ولهذا ختم الله تعالى آية الشورىبقوله:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾
فأثبت سبحانه لنفسه صفة السميع، والبصير، على وجه التمام والكمال، والعظمة والجلال؛ وذلك لا يكون إلا لله جل جلاله؛ كما أفاده أسلوب الحصر في الموضعين. وكأنه عز وجل ذكر من صفاته هاتين الصفتين هنا؛ لئلا يتوهم أنه سبحانه لا صفة له، كما أنه لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ.
قال الشيخ ابن تيمية:” ففي قوله:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ رد للتشبيه والتمثيل، وقوله:﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ رد للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونَفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل “.
فإذا كان قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ قد أفاد نفي التشبيه والتمثيل عن الله سبحانه على وجه الإجمال، وأن قوله سبحانه:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾قد أفاد إثبات الصفات له سبحانه على وجه التفصيل، فإن قوله تعالى:﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ قد أفاد إثبات المَثَل الأعلى له في الصفات، وأفاد نفيَ أن يكون له مَثَل من خلقه يشبهه، أو يماثله في حقيقة ذلك المَثل، لاستحالة أن يشترك في المثل الأعلى مِثلان اثنان؛ لأن المِثل لا يكون أعلى من المِثل الآخر فيما تكون فيه المماثلة. وإذا فُرِضَ أنهما متماثلان، أو متكافئان متساويان، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يكونا متكافئين متساويين، فالموصوف بالمثل الأعلى واحد.وبذلك يكون قوله تعالى:﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾، قد تضمَّن إثباتًا، ونفيًا في آن واحد.
فتأمل هذه الأسرار البديعة، التي لا تجدها إلا في البيان الأعلى ! فسبحان الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، له الفضل وله المنَّة، لا يقاس بالقياس، ولا يشبه بالناس.. سبحانه وتعالى !