بسم الله الرحمن الرحيم
يتجه العالم اليوم نحو التكتلات والتجمعات بحيث لم تعد الدول الصغيرة والضعيفة بقادرة على العيش من دون الاعتماد على الدول الأخرى، وفي المقابل نجد البلدان الإسلامية تسير نحو المزيد من الضعف والتفكك والتشرذم مع العلم بأن الإسلام يدعو إلى التوحد.
إن وحدة المسلمين السياسية هي نتاج طبيعي لوحدتهم العقائدية، ولقد قرَّرَ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الوحدة منذ اللحظة الأولى لبناء الدولة الإسلامية فوضع منهاجاً حدَّدَ من خلاله هوية الأمة والدولة، وتوحد المسلمين على أساس الإسلام.
وقد عبَّرت الصحيفة التي كتبها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين في المدينة عن هذا المعنى فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس». وقال: «وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس». وقال: «وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عزَّ وجل وإلى محمد رسول الله». وقال: «وإن سلم المؤمنين واحدة».
فهذه العبارات التي وردت في الصحيفة تدل بشكل قاطع على الوحدة السياسية للمسلمين بوصفها أمة واحدة من دون الناس، وتبين لهم مرجعيتهم وهي الله عز وجل ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الكتاب والسنة. ويؤكد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران 103] وجميعاً هنا جاءت حال وليس توكيداً، ولو كانت توكيداً لكانت جميعكم. والمعنى في الآية يرشد إلى معنى الجماعة على إمام، لا على أكثر من إمام لكي لا تتفرقوا.
ثم إن هناك أحاديث تفيد الوحدة السياسية بشكل صريح وهي كثيرة أذكر منها:
«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».
«من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإذا جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». وفي رواية «فاضربوه بالسيف كائناً من كان».
إن مفهوم الجماعة في المصطلح الشرعي يفيد معنى الوحدة بشكل صارم لأن الجماعة تعني المسلمين الذين بايعوا إمامهم، فالجماعة فيها ثلاثة عناصر هي: أ- المسلمون. ب- الإمام. جـ- البيعة.
ومن الأدلة التي تبين تلك المعاني للجماعة ما جاء في حديث حذيفة الذي رواه مسلم عندما سأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشر مخافة أن يدركه أجابه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجواب القاطع وهو: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». وما رواه النسائي وابن ماجة عن عمر (رضي الله عنه) أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة». وما رواه أحمد والترمذي والنسائي عن الحارث الأشعري عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع». وروى الدارمي عن عمر (رضي الله عنه) قوله: «يا معشر العريب الأرض الأرض إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة». وما رواه الطبري عن سعيد بن زيد (رضي الله عنه) قوله عن الصحابة: «كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة»، فمدلول لفظ الجماعة صريح في إفادته لمعنى وحدة المسلمين حول إمام واحد مبايع.
والدار داران: دار الإسلام وهي الدار التي يطبق فيها نظام الإسلام وأحكامه ولو كان جل أهلها من غير المسلمين. ودار الكفر وهي الدار التي يطبق فيها نظام الكفر وأحكامه ولو كان جل أهلها من المسلمين.
ودار الإسلام داران: دار عدل، وهي الدار التي بويع فيها الخليفة بيعة شرعية صحيحة على كتاب الله وسنة رسوله. ودار البغي، وهي الدار التي بويع فيها خليفة آخر بيعة غير صحيحة على كتاب الله وسنة رسوله.
والعلاقة بين الجماعة والدار أن الجماعة التي هي إمام بايعه المسلمون على الخلافة تكون في دار الإسلام ودار العدل.
وأدلة الدار كثيرة منها ما أورده الماوردي في الأحكام السلطانية وما ورد في الحاوي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها»، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المشهور: «... ثم ادعهم أن يتحولوا إلى دار المهاجرين» ودار المهاجرين هي دار الإسلام، فمعنى دار العدل ودار الإسلام مقترن بالجماعة ومعنى كليهما مقترن بالوحدة السياسية للمسلمين.
إن القومية ليست أساساً شرعياً يجمع المسلمين، فهو أساس يقوم على النعرات الجاهلية والعصبية، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية»، وكذلك الوطنية فهي أساس غير شرعي يجمع المسلمين؛ لأنه يعتمد على التراب كأساس جامع لمن يعيش فوقه، وهذا أساس غير فكري، بل هو أساس غريزي لا يستند إلا إلى مظهر الدفاع عن النفس في حالة وجود عدو خارجي؛ فلا يصلح للربط في حالة الاستقرار، فضلاً عن كونه يخالف الإسلام بوصفه رابطة بين الناس.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الجامعة العربية هي فكرة إنجليزية وليست فكرة عربية، وأول من دعا لها هو وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن، وهي تدل على استمرار تمزيق البلاد العربية وتكريس تجزئتها؛ لأن قانون الجامعة يمنع إلغاء سيادة أية دولة من الدول الأعضاء فيها، وبذلك يمنع عملياً وقوع الوحدة؛ فهي بهذا المعنى مفرقة للعرب وليست موحدة لهم. وكذا منظمة المؤتمر الإسلامي فهي تشترط في عضويتها الحفا ظ على سيادة الدول المنضوية فيها.
والتجربة العملية من تلك المنظمتين دلَّت ومنذ عشرات السنين على أن الهدف منهما الحيلولة دون وحدة العرب والمسلمين.
فهذه الدول الكرتونية الهزيلة ما هي إلا ثمرة الاستعمار ومخططاته واتفاقات دوله المستعمرة التي كان أشهرها سايكس بيكو وسان ريمو.
فهذه الدول القائمة في العالم الإسلامي، والتي تزيد عن السبع وخمسين دولة، هي نتاج طبيعي للأفكار القومية والوطنية وللمنظمات الإقليمية المفرقة للمسلمين والمانعة من وحدتهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما تقوم به البلدان الإسلامية ومنها العربية من ترسيم الحدود، وآخرها الدعوة إلى ترسيم الحدود بين الأردن وسوريا، ما يعني تثبيت الحدود بحسب وجهة نظر الذين يقومون بالترسيم بمعنى أن الوحدة بين هذه الدول تصبح في دائرة الممنوعات.
فالغرب الذي يكرس التقسيم في بلدان المسلمين تتوحد دوله برغم جميع الصعاب، كما حصل مع توحيد الألمانيتين بعد سقوط جدار برلين في لحظات، والسير في توحيد أوروبا عبر الاتحاد الأوروبي، بينما في بلاد المسلمين يثيرون مشاكل الحدود وترسيمها وتفريق المسلمين عن بعضهم البعض بشكل دائمي.
والأصل في هموم المسلمين أن تكون واحدة. والشرع الإسلامي الحنيف قد وحَّد بالفعل هذه الهموم، بينما الاستعمار وأفكاره هو الذي أوجد التعدد في الهموم، والتعقيد في الاختلافات بين الأمة الواحدة وحتى الشعب الواحد.
يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». وقد علَّمنا (صلى الله عليه وآله وسلم) أن النصح لكل مسلم هو شطر الإسلام وذلك للدلالة على وحدة المسلمين ووحدة همومهم. فعن حرير بن عبد الله قال أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: «أبايعك على الإسلام فشرط عليّ والنصح لكل مسلم». ويقول عليه الصلاة والسلام: «ما من عبد استرعاه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة».
بينما في المقابل نجد أن الأقطار الإسلامية ينأى قادتها العملاء عن الوحدة والتوحد على أساس الإسلام، ويبتعدون عن توحيد الهموم الإسلامية كما وحَّدها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فنسمع في كل بلد عن هوية وثقافة وتراث ومميزات حضارية تفتعلها الطغمة الحاكمة في تلك البلدان، فأصبحوا ينادون بالأردنة واللبننة والمصرنة والجزأرة.. إلخ.
إن الإطار السياسي الجامع الموحد للمسلمين هو دولة الخلافة ولا يوجد إطار سياسي غيرها. وتعرف الدولة "بأنها رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي وحمل الدعوة إلى العالم" وإقامتها فرض عظيم، وهو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي، يعذب عليه الله سبحانه أشد العذاب.
يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من خلع يداً من طاعة الله لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، ويقول: «من خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية»، فهذان الحديثان وكثير غيرهما يدلان بصورة قاطعة على وجوب إيجاد من يبايع، وحرمة الخروج على السلطان، وهو الحكم الإسلامي المتمثل بدولة الخلافة.
وهذا ما تدل عليه الآيات: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء 59] وهذا يعني أنه يجب العمل على إيجاد ولي الأمر؛ لأنه لا طاعة لمن لا وجود له. وولي الأمر هو الخليفة وليس الملك أو رئيس الجمهورية، وقوله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة 49] والحكم بما أنزل الله لا يتحقق إلا بالخلافة، والتي هي الإطار السياسي الذي يجمع المسلمين في وحدة سياسية.
وعن أبي هريرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «الإمام جُنة يُقاتل من ورائه ويُتقى به» وهذا يدل على وجوب وجود الإمام لكي يوجد الجُنة والوقاية التي يتقي بها المسلمون من غدر الكفار وتآمرهم.
ثم إن الصحابة، رضوان الله عليهم، انشغلوا بالبيعة على دفن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهمية دفن الميت، وهو في هذه الحالة ليس أي ميت وإنما هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي ذلك أبلغ دليل على إقامة الخليفة بالبيعة واستمرار توحيد المسلمين في إطار الخلافة.
وأخيراً فإن وجوب توحيد المسلمين بدولة الخلافة أمر واجب، وأمر يتعلق بإيجاد واجبات كثيرة تتعلق بالحياة الإسلامية بشكل شامل، والقاعدة الشرعية تقول: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». ولذلك أصبح من أوجب الواجبات العمل لإقامة الخلافة، بوصفه عملاً يؤدي إلى توحيد المسلمين سياسياً، وهو توحيد واجب كما بيَّنت الأدلة، وإقامة الخلافة واجب كذلك.
وأما عن الأقليات وحقوقهم في دولة الإسلام، والذي لا يتعارض مع وحدة المسلمين السياسية، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء 58] ويقول: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [المائدة 42] ويقول: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة 8]، ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصحيفة: «وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة»، ويقول: «من قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله ورسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة» وقتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مسلماً لأنه قتل يهودياً وقال: «نحن أحق من أوفى بذمته».
وصالح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل نجران وجاء في وثيقة الصلح: «على أن لا تُهدم لهم بيعة، ولا يُخرج لهم قس، ولا يُفتنون عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا ربا»، وقال علي كرَّم الله وجهه عن أهل الذمة: «إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا»، وأوصى عمر (رضي الله عنه) بأهل الذمة خيراً فقال في وصيته عند موته: «وأوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن يُقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم».
ونهى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فتنتهم عن دينهم فقال: «من كان على يهوديته ونصرانيته فإنه لا يُفتن عنها» وهذا نظير قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة 256]. وسُئل زياد بن حدير من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم.
وخلاصة الكلام عن الأقليات أنهم أهل ذمة لنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بمعنى أن لهم ما لنا من الإنصاف وعليهم ما علينا من الانتصاف، ونحن بوصفنا مسلمين في دولة الإسلام نضمن لهم خمسة حقوق رئيسية وهي:
1- حق الرعوية.
2- حق الحماية.
3- حق ضمانة العيش.
4- حق المعاملة بالمثل.
5- حق الرفق واللين.
وبضمان هذه الحقوق وبعدلهم وإنصافهم فلا أ ظن أهل الذمة يمكن أن يجدوا أريحية في العيش كما يجدوها في ظل دولة الإسلام، ولا تستطيع أية دولة في العالم أن تضمن لهم مثل هذه الحقوق كما تضمنها الدول الإسلامية.
وكل هذه الحقوق التي يتمتع بها الذمي في دار الإسلام لا يقابلها إلا الامتثال لأحكام الشرع الإسلامي ودفع الجزية، وهو بعد ذلك مخير أن يقاتل مع المسلمين براتب أو لا يقاتل.
فالذمي يملك التابعية للدولة الإسلامية كما يملكها المسلم. فجميع المزايا التي يتمتع بها المسلم بفضل هذه التابعية يتمتع بها الذمي. أما إن أحدث حدثاً، أو أكل الربا، أو تعامل مع الكفار، فلا ذمة لمن فعل ذلك، وعليه أن يواجه العقوبات العادلة بحقه.
وخلاصة القول: إن من يتذرع بصعوبة وحدة المسلمين السياسية بسبب وجود الأقليات فذريعته واهية وحجته ساقطة، والأقليات عاشت عملياً في كنف الخلافة الإسلامية لمدة زادت عن الألف عام، ولم يشكُ أحد منهم ولم يتحدث أحد عن الوحدة السياسية للمسلمين بالسلب، والجميع شارك المسلمين في تمتين هذه الوحدة.
فعلى أهل الذمة أن يطالبوا بعودة الخلافة كما يطالب بها المسلمون؛ حتى يعود الحق إلى نصابه وينتشر العدل في ربوع البلاد الإسلامية بلا فرق بين مسلم وغير مسلم.
والمطالبة بعودة الخلافة الإسلامية تعني تلقائياً المطالبة بوحدة المسلمين ووحدة أقطارهم في دولة واحدة. فالوحدة السياسية للمسلمين مقترنة بإقامة الدولة الإسلامية، وبإقامة الدولة الإسلامية توجد الوحدة السياسية للمسلمين.