كل الشكر والتقدير لأخي المكرم الأستاذ محمد داني على قراءته الناجحة لقصتي اقتله اقتله.
( اقتله...اقتله)، نص يدفعنا إلى قراءته قراءة متأنية لكشف مخزونه الفني والجمالي والقصصي، وانقرائيته، والتي من خلالها نتعرف على بنياتها الظاهرة والخفية، وتحديد عملية التداول فيها، من حيث علاقة مستوى المعنى الخطي بمستوى الدلالة الشكلية، والوظيفية كما يقول رولان بارث( تدريسية النصوص، جماعة من الباحثين، إشراف محمد الدريج، ص: 8).
وهذه القراءة نجعل منها تشييدا للنص،حيث نعبر من مرحلة القراءة الاستكشافية فيه إلى مرحلة القراءة الاسترجاعية( سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي: النص والسياق، المركز الثقافي العربي، ط2، 2001).
وقصة( اقتله...اقتله) موضوع جديد، كتب برمزية شديدة، حرصت المبدعة الزاهية بنت البحر على اعتماد الرمز للتعبير عن واقع مر تعيشه المنطقة العربية عامة، والعراق خاصة. إنها نظرة واعية للأحداث و الأسباب التي أدت إلى حرب الخليج الثانية.
فهي استطاعت أن تحول السياسي إلى الاجتماعي بفنية كبيرة. فالكل متألب ضد هذا الفارس الغبي، الذي حركاته ودوراته ولفاته تقلق الجميع. الكل ينادي بموته، وإيقافه عند حده. وفي النهاية يقرر الراصد القوي قتله.
إن الأحداث التي عاشتها منطقة الخليج عموما ، والعراق خاصة ، توافق أحداث هذه القصة، والتي زادها الرمز قوة، وإيحائية، وتكثيفا، وبلاغة وتأثيرا.
إنها كمثقفة لا تباشر المباشرية، بل تلجا إلى التعبيرية الفنية الرامزة. وتركز على تيمة الصراع والآخر، والعربي والآخر، والعصبية والتحالفات. وكلها ضمنتها قصتها بفنية واحترافية.
والجميل ، هو أن هذه القصة ليست قصة حدث متنام أفقيا، ولا قصة الشخصية/ البطل. بل يظهر فيها الموقف والرمز بطولة مطلقة، ولو أن الكاتبة كبطلة تختفي وراءها، وتتكامل معها في سبيل الكشف عن هدفية الموضوع، والكاتبة/ الساردة.
وهذا يمكن تسميته ب( تكنيك الدوامة)، حيث يكتشف الهدف في الأقصوصة مع دوران الأحداث والشخصيات. وقد ترتب عن هذا عدم بروز عنصر التنامي، والامتداد في الزمن.
فالكاتبة تختزل الشخوص، في مقابل اهتمامها بالحدث والموقف. وبالتالي اتجه البناء الفني للحدث القصصي صوب إعطاء العلة ن والتبرير اللازم الذي أدى إلى تألب الكل والاتفاق على القضاء على الفارس الغبي، ومنه نشتم موقف الكاتبة من الأحداث التي مست المنطقة العربية ن ورأيها فيها.
إنها تدين المتذمرين والمتألبين، والمتفقين، مثيرة إلى خطإ سلوكهم، وتصرفهم وموقفهم من خلال الإيحاء يذلك عن طريق الرمز والتكثيف، والاختزال، والإزاحة، من خلال سياق البنية السيميائية المنبعثة من واقع تطور الحدث القصصي. والجملة الأخيرة في نهاية القصة: ( خطا خطوتين، كان حذاؤه في الثالثة فوق ال ص ر ص و ر)، تنبهنا إلى المغزى الذي يلمح إليه التصوير القصصي الذي أسلفناه.
عن المغزى العام الذي نخرج به من هذه القصة عند قراءتها، هو إدانة الكاتبة وباحترافية: الخنوع والانهزامية التي أصبح عليها مجتمعنا العربي. كما نجد فيها إدانة إلى العنصرية ن والإقليمية، والعصبية التي مازالت سائدة مجتمعاتنا. فالاختلاف في الفكر والمذهب يجعل من المختلفين اعداء.
إن القصة شعور امراة بالظلم، وبالقوة التي لا تستعمل في محلها. معتمدة- كما أسلفنا- على الترميز. وهذا يبين عناية القاصة بالصورة الرمزية، وتوزيعها في ثنايا القصة. إنها تريد ان تجعل منها معادلا فنيا لفعل تجاذبته كثير من الانفعالات، والسلوكات، والآراء، بدون طائل. لكن الصورة الموظفة تحمل في طياتها نوعا من الدونية، والاحتقار والاستصغار. كيف يكون هذا الفارس الغبي صرصورا. لا يحسب حركاته، ولا يبالي بمن يؤلب عليه الجو.
إن هذه الصورة اسهمت في تعميق الموقف، ووالجرح ، وإنزافه، وتطوير عقدته، حين اكسب الموقف بعده الإنساني في ظل بعده الرمزي.
إلا ان الكاتبة في طرحها للقصةن وتسييرها للحكي. وقعت في نوع من التقريرية، والقفز على دور الساردة، فأصبحت اكبر منها، عالمة بكل الأمور، كقولها العارض: << كثرة اللف والدوران قد تورث فارسها الخطر في أحيان كثيرة ما لم يلتزم الحذر، ويخطط لتلافي الوقوع في المحظور بوعي وتبصر>>. والذي تريد منه تبرير فعل الشخوص، وتعليل النتيجة. وهذه خطابية مباشرة زائدة.
إن تفصيلها الأبعاد الرمزية للقصة، تريد إثبات رأي معين، بل تطمح أن يستنتج القارئ ما يوحي به النص، ويكتشف ما يفصح عنه. وبالتالي هي تدفع بالمتلقي/ القارئ إلى تلمس الوحدة الفكرية التي تشكل بؤرة النص.
ورغم ما قلنا، لا يفوتنا أن نؤكد أن المبدعة الزاهية قد نجحت في تقديم قصة متماسكة، تقدم أحداثا واقعية محملة إياها، ملامح تعبيرية رمزية، تجاوزت بها المالوف، معتمدة على الفعل الإقناعي، ومتلفظه التعليلي، والتبريري. مبينة القصدية من ذلك حتى يتخذ القارئ/ المتلقي موقفا من الحدث ، ومضمونه. إنها تطرح فكرا إقناعيا، وتأويليا.
وهذا بالتالي، يجعلنا نقف على ميزة أسلوبية، وسيميائية في قصة الزاهية بنت البحر، وهو الإقناعية، والحجاج . و << يشكل الحجاج أحد العوامل التي تحظى بامتياز لضمان التماسك الخطابي. وهو يفترض بالفعل عملا معقدا هادفا، وسلسلة من الحجج المترابطة في إطار استراتيجية شاملة تسعى إلى دمج المستمع في نطاق الأطروحة التي يدافع عليها المتلفظ. ويعد كذلك نوها من التفاعل اللفظي الموجه إلى إحداث تغيرات في معتقدات الذات. وما ينفرد به الحجاج، انه لا يؤثر مباشرة في الآخر. وإنما في التنظيم الخطابي نفسه ، الذي ينبغي له أن يتوفر في ذاته على أثر إقناعي: فالمتلفظ المشارك، بوصفه قادرا على الخضوع للنشاط العقلي، وذلك بتطويقه داخل شبكة من الاقتراحات التي لا يمكن أن يتخلص منها>>( د.محمد الداهي، سيميائية الكلام الروائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص: 125).
ويشمل الحجاج في القصة( اقتله.. اقتله) ثلاثة مجالات متباينة في وظائفها:
1- البرهنة.
2- إقامة الحجة.
3- الإقناع.
وقد اعتمدت الرمز للتواصل والإقناع، وحفز المتلقي على قبول الحدث كله، وتصديقه، والاقتناع به...
إن المبدعة الزاهية بنت البحر ، كاتبة متمكنة من حكيها، جميلة في سردها.. وهذا يجعل منها كاتبة متميزة دائما..//..