“الثلاجة” تستقبل لوحات «الخديدي» في “ثمة ما يستحق”
جريدة المدينة ملحق الأربعاء, 11 فبراير 2009
خيراللـه زربان - جدة
كل ما يبدو معقولاً ومنتظرًا في عالم عرض اللوحات التشكيلية سيتجاوزه الفنان فيصل الخديدي في معرضه الشخصي المنتظر في الأسبوع المقبل بصالة اتيليه جدة للفنون.. لن تكون الحوائط متكئًا للوحاته، ولن تحظى قوائم العرض أيضًا بهذا الحظ، فالخديدي جرّد “الثلاجة” من وظيفتها في حفظ “المأكولات والمشروبات” وغير ذلك، وحوّلها إلى “مكان” لعرض لوحاته في “جنون” غير مسبوق.. نعم.. “ثلاجة”.. بكل خصائص التبريد، لتجاوز اللوحات مكعبات الثلج و”برودة الطقس”..
لكن لِمَ يذهب “الخديدي” هذا المذهب الغريب في العرض.. أهو اتساق مع القول الشائع “بين الفنون والجنون شعرة”..
لا.. يبدو أن الأمر أبعد من كونه جنونًا.. إنها “فلسفة” تقرأ أبعادها في قول صاحبها الخديدي متحدثًا وكاشفًا النقاب عن معرضه “ثمة ما يستحق» هذا بقوله: “الإنسان قُدّ من معاني النسيان تارة ومن معاني الظهور تارة أخرى، فيكون ظاهرًا في مبادئه، وقيمه، وفكره، وأخلاقه، ودينه.. ومتى ما هبت عليه رياح النسيان فإن الأثلجة والتجميد هو البديل لكل ما هو قيّم..”
أكثر من أربعة أعوام وفيصل يعمل وفق هذه الفلسفة ليخرج بهذه الرؤية “الغريبة” التي سبق له أن عرضها جزئيًا في احتفالية صغيرة بفرع جمعية الثقافة والفنون بالطائف.. جزء من الأعمال استوطن جوف ثلاجة كبيرة، “ستشرب” منها عيون المتلقّين فنًّا بديعًا، وإذا انتقل البصر إلى ثلاجة ثانية فلن يعدم الرؤية فواجهاتها الزجاجية ستغيّب عنه “البرودة” لكنها لن تحجب عنه رؤية الجمال..
آفاق للتأويل
التجربة رسمت الدهشة في محيّا عدد من أعضاء لجنة الفنون المسرحية والفن التشكيلي.. انظر إلى الكاتب المسرحي فهد ردة الحارثي يقول: كان لي شرف معاصرة تجربة الفنان فيصل الخديدي “ثمة مايستحق” من سنوات، وكان عمله عليها دؤوبًا من جميع النواحي الفكرية والتقنية، وصولاً إلى أسلوب العرض ومسمى التجربة الذي يفتح آفاقًا أوسع للتأويل بالتجربة، وقد أكرمنا في هذا المساء بعرضه الخاص الذي يستحق جهد هذه السنوات”.
أما النحات محمد الثقفي فذكر أن تجربة فيصل تستحق الوقوف والتأمل؛ فهي تمثّل مشروعًا كاملاً لم يطغ جانب فيه على الآخر؛ بل كان عملاً متكاملاً، وكان وسيط الريزن واللدائن البلاستيكية خير وسط أعطى انطباع التجميد الذي قام عليه العمل، وبحق استحق العمل السنوات التي عكف عليها الفنان بين الفكر والتنفيذ؛ فهو مشروع رائد بمختلف جوانبه.
التجميد قسرًا
أما القاص عبدالعزيز عسيري فكانت نظرته للأعمال المجمدة بأنها إرث إنساني سابق، وفعل قادم طوي بالنسيان ومورس عليه فعل التجميد قسرًا مع أنه به ثمة ما يستحق.
مشروع فلسفي
كما أشار الفنان فهد القثامي إلى الجوانب الفلسفية في رؤية الخديدي قائلاً: يعتبر مشروع التجميد عند الفنان فيصل الخديدي مشروعا فلسفيا مهما وملفتا جدًّا، حيث يرتكز على عدة نقاط قوية تفتح مجالا كبيرًا للتساؤلات الفكرية في الجوانب الثقافية والإنسانية في المجتمع العربي.
المقصدية المعكوسة
رؤية الناقد سامي جريدي عرضها في قراءة مطولة عن التجربة جاء فيها قوله: “التجميـد العكسي عند الفنان فيصل الخديدي في تجربته “ثمة ما يستحق” تتمثل صيغتها التاريخية في تسجيلها السردي عبر ثقافة بصرية تنطلق من أن ثمة أحداث وشخصيات وأشياء في هذه الحياة قد جُمّدت وحُنّطت بفعل مقصود أو لسبب من الأسباب فلم تعد نابضة بالحياة بل غُيّبت ودُفنت وأُبعدت عن ثقافة العالم والمجتمعات. وأهميتها التاريخية تتضح في أنها استطاعت أن ترسم صورة ذهنية كبرى عبر وجوه الشخصيات ومواقف الأحداث التي تعامل معها الفنان في أن كل لقطة أو مشهد أو شكل له سيرته وتاريخه المهم في فترة زمنية معينة ضاعت ملامحها وحركتها فأصبحت في زمن النسيان.
ويضيف جريدي: بنية النسيان تعود من جديد إلى نظرية الإلغاء التي تبناها الفنان في مقصدية المعكوسية في الثلج الذي تبنى فكرته من الأساس لتتحوّل طريقة صب القوالب الثلجية لتجميد المأكولات والمشروبات لفائدة معروفة إلى مفهوم آخر مفهوم معاكس نجده في سلبية التجميد الثانية. لتجيء رسوم الأطفال وألعابهم الصغيرة وهي مجمّدة، صور فوتوغرافية لأشخاص كدافنشي ومناظر لحروب ومجاعات وسجون وكذلك كتب وأوراق وأدوات إلكترونية، والتي تبدو من خلال الرسالة الفنية التي تمثّل المجتمع العربي ومدى ارتباطه بالقيم والعادات والتقاليد التي يرى الفنان أنها قد وصلت إلى طريق مسدود من التقدّم والتحرّك نحو الامام في ظل صعوبات حضارية سارعت من الاختلال الاستمراري لها.