يقول الشاعر عبد القادر رابحي:
لا تسأل العارفين الذاهبين
إلى باب الحبيبِ
إذا بالباب قد غابوا
تذكروا حين غابوا
أنهم حضروا
نورَ الحبيبِ
فمن بالباب أحبابُ
في صمتهم نفحات يُعرفون بها
و في رؤاهم
إشارات ٌوألقابُ
تفتحت لهم الأسرارُ
مذ فُتِحتْ في صادهِ
مدنٌ تُؤتى
و أبوابُ-1-
أول شيء يلفت القارئ لهذا النص ، هو لغته التي تتلحف حينا بالتخفي ، وتكتفي أحيانا أخرى بالإشارة ، وهي في هذا وذاك تُمارس سحرها على القارئ بطريقة صامتة وقورة ، لأنها أقرب إلى لغة المتصوفة الذين اختبروا طاقات أخرى للكلام لم تك قط عُرفتْ قبلهم ، ولعل ما يُدلّل على ما أقول كثير في النص بدء بعتبته : "باب العارفين" ، فالباب في في القاموس المغني:"بَابٌ - ج: أَبْوَابٌ، بِيبَانٌ. [ب و ب]. 1."أغْلَقَ بَابَ الدَّارِ" : سَدَّ مَدْخَلَهَا، أيْ فَتْحَتَهَا، خَشَبٌ يُصْنَعُ منهُ رِتَاجٌ لِلْبُيُوتِ وَالغُرَفِ وَالدَّكَاكِينِ، ... إلخِ. "دَخَلَ مِنَ البَابِ عِنْدَمَا سَمِعَ الجَوَابَ". 2."قَرَأْتُ البَابَ الأَوَّلَ مِنَ الكِتَابِ" : الفُصُولَ الأوَلى مِنْهُ. 3."أُغْلِقَتْ كُلُّ الأبْوَابِ فِي وَجْهِهِ" : أي كُلُّ الطُّرُقِ، كُلُّ الطُرُقِ من كُلُّ السُّبُلِ. "لَمْ يَتْرُكْ بَاباً إلاّ طَرَقَهُ". 4." فمعانيه لا تتجاوز مدخل الدار أو الكتاب وغير ذلك ، فهو أول ما يؤدي إلى الداخل من كل شيء ، وبانسداده لا نصل إلى أي شيء.
ومادة عرف في نفس المعجم تدل على :"عَرَفَ - [ع ر ف]. (ف: ثلا. لازمتع. م. بحرف). عَرَفْتُ، أَعْرِفُ، اِعْرِفْ، مص. عِرْفَانٌ، مَعْرِفَةٌ. 1."عَرَفَ الشَّيْءَ" : أَدْرَكَهُ بِعِلْمِهِ، خَبَّرَهُ. "عَرَفْتُهُ مُنْذُ طُفُولَتِي" "عَرَفَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ". 2."عَرَفَ بِذَنْبِهِ" : اِعْتَرَفَ بِهِ. 3."عَرَفَ لِلأَمْرِ" : صَبَرَ. 4."لَأَعْرِفَنَّ لَكَ مَا صَنَعْتَ" : لَأُجَازِيَنَّكَ عَلَيْهِ.
وهي عملية تقوم على إدراك الأشياء إما إدراكا سطحيا لا يتجاوز بنيتها الظاهرة للعيان ، وإما عميقا يغوص إلى أغوار الاشياء ليكشف طبيعتها ويكتنه دلالاتها .
و"باب العارفين" جمع بين مدخل الشيء وبين حاملي المعرفة ، وقد قصر الشاعر الباب عليهم فهو ليس لغيرهم ، وهذا شبيه بما فرق به المتصوفة قديما بين أهل الظاهر وهم العامة ، وبين أهل الباطن الذين يُمثلون خاصة الخاصة وصفوة الصفوة ، وبهذا يدلّ عنوان النص دلالة قاطعة على أن مضمون النص يتجاوز عالم المحسوسات إلى عالم آخر لا يراه إلا قلة قليلة من الناس وهم العارفون ، وبهذا التصور يظهر لنا أن الباب في العنوان ليس ماديا على الإطلاق ، لأن هؤلاء القوم تخلصوا من ماديتهم وجاؤوا ليقفوا بباب الحبيب ، حتى ينهلوا مما ضمر ، ويقبسوا من نوره الوهاج.
-2-
وإذ ننتقل إلى مضمون النص نُبصر ثنائيتين تتباينان وتتشاكلان في الآن ذاته ، وهما ثنائيّتا: الغياب والحضور:
"لا تسأل العارفين الذاهبين
إلى باب الحبيبِ
إذا بالباب قد غابوا
تذكروا حين غابوا
أنهم حضروا
نورَ الحبيبِ
فمن بالباب أحبابُ"
وهنا يبدو غيابهم كأنه عميلة خروج من المادة/الجسد ، والتحليق في سماء الروح النورانية التي يغمرها ضياء الحبيب، فهم حاضرون غائبون : حاضرون بأرواحهم وقلوبهم ، غائبون من اجسادهم واشكالهم ، وهنا تظهر أن العلاقة بين الغياب والحضور ليست كما يحسبها القارئ أول وهلة ولكنها تتخذ أبعادا أخرى أكثر تواشجا وارتباطا ، لأن الكلام في النص هو في مستوى آخر من مستويات اللغة هو مستوى الباطن.
-3-
من خلال مقاربتنا للنص برزت خاصية أخرى هي في نظرنا أكثر خصائصه جمالا وقوة ، وهي ملكة لا تُهدى إلى كل القائلين ، ألا وهي قصر المساحة اللفظية واتساع المساحة المعنوية والدلالية ، فالنص قليلة مفرداته مقتضب مختصر ، لكن معانيه واسعة تأخذ بعدا انتشاريا ، وذلك لارتكازها على عنصر مهم صعب هو عنصر التأويل الذي يمنح النص احتمالات كثيرة للقراءة والفهم ، ويُعطي للقراء على مختلف مستوياتهم الفكرية والثقافية وعلى درجة تطور ذائقاتهم أو تخلفها فرصة للتدبر ولذة اكتشاف المعنى والولوج إلى عالمه .
وهذه الخاصية ، أي اتساع حيز المعنى على حساب حيز الألفاظ ، هي ما قال عنها قديما المتصوف النفري:"حين تتسع الرؤية تضيق العبارة" وهي خاصية تمنح النص سعة دلالية اهم ما يُميزها هو الفرادة والتميز .
-4-
من خلال هذه المقاربة البسيطة لنص" باب العارفين"نجد شيخنا وأستاذنا عبد القادر رابحي يمشي على بساط طويل من الرمز والإيحاء ، وما المفردات:[العارفين ،الباب، الإشارات ،ألقاب،الرؤى...إلخ]إلا دليل على الدلالة الرمزية التي يشتمل عليها النص.
...
...
...
أستاذي : عبد القادر
اعذرني إن كنتُ أسأت الفهم أو أخطأت في تأويل بعض دلالات المعنى ، وما هذه إلا محاولة أخرى أتوخى بها الولوج إلى عالمك الشعري الكبير في المستقبل القريب جدا .