بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد
أحبابي الكرام طالما لمست في مراسلاتي ومطالعاتي في منتديات الانترنت حب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لرمز الجهاد والاستشهاد في ليبيا الشهيد الشيخ عمر المختار فعقد العزم على كتابة ما تيسر لي من سيرة هذا البطل الشهيد في هذا المنتدى المبارك وذلك جزء من حق الشهيد على أحفاده . وسأقوم بعون الله بكتابة تلك الصفحات المشرقة في حلقات عبر المنتدى وسيكون القدر المكتوب مما يتيسر للقاريء الكريم قراءته بسهولة وقد اعتمدت في هذه السطور التاريخية على كتاب عمر المختار للشيخ الطاهر الزاوي وقررت أن أبدأ هذا البرنامج مع أول يوم من شهر رمضان المبارك أسأل الله أن يعينني في هذا العمل وأن يبارك فيه وأن يثقل به ميزان حسناتي يوم القيامة ، .وإلى صفحات الجهاد المشرقة:
"عمر المختار الحلقة الأخيرة من الجهاد الوطني في ليبيا"
نسبه ونشأته :
هو عمر بن المختار من قبيلة المنفة من أكبر قبائل بادية برقة بليبيا . ولد في البطنان ببرقة سنة 1277هـ من أبوين عربيين وكفله أبوه وعني بتربيته فنشأ في بيت عز وكرم بعيدا عن أخلاط المدن ونقائصها ،تحوطه شهامة العرب وحرية البادية ، وحوله من مظاهر الفروسية ودواعي الاعتزاز بالنفس ما بعث في تلك النفس الكبيرة حب التضحية والأنفة من الخضوع إلى من لم يجعل له دينه سلطانا عليه .
تعلمه القرآن والعلوم:
وإذ كان السيد عمر صبيا كان السيد محمـد المهدي السنوسي رحمه الله صاحب الجاه العريض والسلطان النافذ في برقة ، وكان يقيم في الجغبوب .وماكاد السيد عمر يبلغ السن التي تؤهله لحفظ القرآن الكريم حتي بعث به والده المختار إلى زاوية السنوسية بالجغبوب ليقرأ فيها القرآن و ماتيسر من العلوم . وقد ظهر عليه من دلائل النجابة ورزانة العقل مالفت نظر السيد المهدي إليه فصار موضع اهتمامه وأحله من عنايته المحل الأول
مبدأ ظهوره:
وكان من حسن حظ السيد عمر المختار أن كانت له تلك المنزلة المشرفة عند السيد المهدي فما كاد يتم حفظ القرآن ودراسة بعض العلوم حتى شاع ذكره وتناولته الألسن بالثناء ، واحترمه رؤساء قبائل العرب لعراقة بيته فيهم ولمكانته السنوسية .
وكان شيخه في القرآن الكريم السيد الزروالي المغربي الجواني .أما أستاذه في العلوم فهو الأستاذ العلامة الأديب السيد فالح بن محمـد بن عبد الله الظاهري المدني صاحب التعليقات على "المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب"
إسناد الوظائف إليه :
وبعد أن حفظ القرآن وأتم دراسة علومه بزاوية الجغبوب على من ذكرنا ولاه السيد محمـد المهدي شيخا على" زاوية القصور"
بالجبل الأخضر بقرب المرج، فقام بتعليم أولاد المسلمين وإكرام من يأوي إلى تلك الزاوية من الفقراء وعابري السبيل ، وفض المنازعات بين قبائل العرب والسعي في مصالحهم .وسار في الناس سيرة مدحه عليها العقلاء ، وأغمضت مهابته عيون غيرهم ، واحترمه الناس لفضله البادي في كل ناحية من نواحيه.
وكان اختيار السيد عمر شيخا لزاوية القصور لغرض سام لم ير السيد المهدي رجلا أهلا لتحقيقه إلا السيد عمر المختار لدماثة أخلاقه وصلابة عوده . ذلك أن زاوية القصور في حوزة قبيلة العبيد . وهذه القبيلة اشتهرت بشدة الشكيمة ، وظهر فيها أفراد صعب مراسهم ، وأغرتهم التربية الاستقلالية ودواعي الشباب بما تأباه العقول الراجحة والمفكرون في عواقب الأمور ، فكان الذي في إمكانه أن يروض هذه النفوس الجامحة ، والذي أهله سمو أخلاقه لسياسة هذه القبيلة التي كثر فيها المتمردون على مااعتاد العرب احترامه ورعاية جانبه هو السيد عمر المختار .ولقد أثبتت الأيام حسن هذا الاختيار من السيد المهدي ، فكان عمر المختار مختارا بكل ماتؤديه هذه الكلمة من معنى.
أما لقب السيادة فقد ناله من انتسابه إلى السنوسية لأنهم هم الذين يخصهم أهل برقة بلقب "الأسياد "ولاتطلق على غيرهم إلا إذا نال رضاهم وكان محل ثقتهم كالسيد عمر .
ثقة السيد المهدي به:
وقد عرضت للسيد المهدي أمور اقتضت سفره إلى السودان فكان أول من وقع عليه اختياره لمرافقته في هذا السفر الشاق الطويل هو السيد عمر المختار ، فسافر إلى السودان صحبة أستاذه في أواخر 1312هـ وكان محل ثقته ومعقد آماله . وكان السيد المهدي معجبا به ، وكان يثني عليه بما هو أهله حتى كان يقول :" لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم".
وولاه السيد المهدي في السودان شيخا لزاوية "كلك" واستمر بالسودان نائبا عن السيد المهدي وقائما ببث الدعاية الإسلامية وتعليم أولاد المسلمين إلى أن رجع إلى برقة سنة 1312هـ وتولى شيخا لزاويته ، القصور ، للمرة الثانية ، واستمر يدير شؤونها إلى سنة 1329هـ حيث احتل الطليان بني غازي فكان أول من لبى نداء الوطن وباشر الجهاد.
جهاده لإنقاذ الوطن:
لما هاجم الأسطول الإيطالي مدينة بني غازي يوم الأربعاء 4 شوال سنة 1911م كان السيد عمر المختار غائبا عن برقة في زيارة للسنوسية بالكفرة .
وقد هبَّ السكان للدفاع عن وطنهم ، وعهم حامية تركية قليلة ، ولكنهم لم تطل مقاومتهم لشدة هجوم الأسطول عليهم ،فاضطر بعضهم إلى الانتقال عن مدينة بني غازي وعسكروا خارجها بالأبيار .ورجع السيد عمر من زيارة الكفرة ..ولما وصل إلى جالو علم باحتلال الطليان لمدينة بني غازي ، فاستمر في طريقه حتى اتصل بمعسكر المجاهدين ، وأنشأ معسكرا في الخروبة بقيادته .وأخذ هو وبعض أعيان البلاد في تنظيم المجاهدين وإعدادهم لمواجهة العدو. ثم انتقلوا إلى الرجمة ، ومنها انتقلوا إلى بنينة وتقع جنوبي مدينة بني غازي بنحو عشرين ك م.
وصار المجاهدون يراقبون حركات العدو ، وينتهزون منه كل غرة ليضربوه كلما أمكنهم ضربه ، سواء أكانوا بقيادته أم بقيادة غيره.
واستمروا على هذه الحال إلى أن جاء السيد أحمد الشريف من الجغبوب ووصل إلى درنة في مايو سنة 1913م الموافق جمادى الآخرة سنة 1331هـ .وسلمت إليه قيادة المجاهدين العليا في جميع برقة ، فنشط المجاهدون في مراقبة العدو , وكثر عددهم ، وأحكموا عليه الحصار ، ولم يتركوا له منفذا منه إلى داخل البلاد. ووقعت بينهم وبين الطليان معارك كثيرة وكبيرة .
وكان السيد عمر المختار في مقدمة من يثق بهم السيد أحمد ويعتمد عليهم ويعلم الله أنه جدير بهذه الثقة .
ولولا جهاد السيد أحمد الشريف ومن انظم إليه من سكان برقة ، لما كان للسنوسيين أثر في جهاد ليبيا مع الطليان . وكل ما ينسب إلى السنوسيين في الجهاد الليبي ضد الإيطاليين ،فإنما ينسب إليهم من طريقه وحده ،إلا ماكان لأخيه صفي الدين من تحركات ، ولكنها كانت غير موفقة.
أما من عداهم من السنوسيين ممن حضروا الحرب الإيطالية – فكلهم صفر على الشمال .وفي مقدمتهم الخطّاب ، وكان سلابا نهابا ، حتى سُمي الخطاف –بالفاء- واستغل سمعة هاشم الزُّولّي، الذي كان يسمي نفسه(كلب السيد) أو (كليب الحضرة) وقد أتى هذا الكلب من المنكرات ما لوث به سمعة الخطاب ، بل سمعة السنوسيين كلهم ، فكان له الغُنْم وعليهم الغُرْم.(ومحمد العابد) وكان أقلهم ضررا .و(هلال) وقد ارتمى بين أحضان الطليان في مدينة طرابلس ، ووفروا له جميع المغريات ، فانغمس فيها إلى أذنيه ،ونُبز بكل ما يتنافى مع الأخلاق الكريمة.
وهؤلاء الثلاثة .وإن كانوا إخوة السيد أحمد الشريف ، إلا أنه بريء من أعمالهم .فهو نسيج وحده رحمه الله.
أما أبناء المهدي السنوسي –وهم إدريس، والرضا،وأولاد الرضا.فالأوراق لاتتسع لأعمالهم .وقد ذكرنا بعضها في آخر هذا الكتاب ،وفي جهاد الأبطال
وقد ظهرت في أيام حكم إدريس أقلام مأجورة ، ليس لها من الدين وازع ،ولا من الأخلاق رادع حاولت طمس الحقائق ، والكذب على التاريخ ، وأن تجعل من مومياء إدريس إنسانا حيا له مقومات الحياة ما يمكنه من الحركة ، ولكن هيهات :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لاحياة لمن تنادي
السيد عمر وعزيز بك المصري :
ونكتفي أن نورد هنا ماذكره الأمير شكيب أرسلان بشأن النزاع الذي حصل بينه وبين عزيز بك المصري .
قال الأمير شكيب أرسلان في "حاضر العالم الإسلامي "ج2ص124و125 الطبعة الثانية ما نصه:
" ولما نشيت حرب البلقان ألح الأتراك على أنور بالرجوع إلى الآستانة فرجع مكرها وسلم القيادة إلى عزيز بك المصري الذي واصل قتال الطليان .
ثم لما عقدت الدولة الصلح مع إيطاليا سنة 1912م رأى عزيز بك نفسه مضطرا إلى ترك القتال ،فسخ\حب العسكر النظامي
الذي كان في برقة – وكانوا زهاء أربعمائة- وأخذ الأسلحة التي أمكنه أخذها وسار قاصدا الحدود المصرية وهو بهذا لم يعمل إلا بحسب الأصول الدولية ، ولكن المجاهدين السنوسيين نقموا عليه أن عطل المدافع التي بقيت عندهم ودفن القراطيس والقذائف في الأرض ، وهذه روايتهم التي رووها لجميع الناس وحرروها وقدموها إلى الآستانة والله أعلم بها.
ثم إن عزيز بك أبى أن يسلم العرب البنادق التي مع عسكره وذلك وفقا للأصول الحربية التي تقضي بعد انعقاد الصلح بين تركيا وإيطاليا أن لايسلم العسكر العثماني أسلحته لأعداء إيطاليا . ولكن العرب لم يقبلوا هذا العذر أيضا، ولم يفهموا كيف أن الدولة بعد أن عقدت الصلح مع إيطاليا مكرهة ، مرغمة بسبب حرب البلقان ، تعود فتسحب هذه القوة الضئيلة التي كانت باقية لها في برقة ثم تأبى أن تترك لهم البنادق التي كان يحملها الأربعمائة عسكري الذين مع عزيز بك . ولذلك أصروا على عزيز بك في تسلمهم البنادق وبدأوا أولا معه بالجدال وانتهوا أخيرا إلى الجلاد ، فوقعت حادثة مؤسفة مؤلمة نرى من واجبات الأمانة التي تلزم المؤرخ عند ذكر الوقائع ألا ندعها مسكوتا عنها كيف كان الخطأ فيها.
وذلك أن الأعراب بجهلهم عندما قطعوا أملهم من تسلم البنادق بالرضى أطلقوا الرصاص على العسكر العثماني وكان قد خيم في دفنة غربي السلوم ولم يبق إلا أن يصل الحدود .ولعلهم قتلوا أو جرحوا بعضا من العسكر ، فأمر عزيز بك بمقابلتهم بالمثل ، فنشبت معركة سقط فيها أكثر من ستين قتيلا من العرب وبضعة عشر قتيلا من الجند .وعند ذلك امتد صريخ العرب بعضها إلى بعض وأقبلت من كل صوب تريد الانتقام من عزيز بك وعسكره . وهذا كله في دفنة والأراضي المسماة بالبطنان . وأخذت العرب تجتمع لمهاجمة الجند النظامي .وكان السيد أحمد الشريف السنوسي في الجبل الأخضر وقد صفا الجو بينه وبين عزيز بك بسب سحب هذا العسكر النظامي وتخليته لبرقة ،ولكنه لم يكن ليرضى بأن تكون النهاية قتل المسلمين بعضهم بعضا ، وان يوقع العرب بجند الدولة التي كانت تحافظ على بلادهم. فأرسل السيد السنوسي الأكبر الشهيد السيد عمر المختار لتلافي الشر ومنع الأعراب من الهجوم ، فقطع عمر المختار مسافة أربعة أيام في يوم واحد مواصلا الإغذاذ إلى أن أدرك العرب قبل هجومهم . فحجر الشر وأبلغهم مافي مقاتلة عسكر الدولة من الفضيحة والشماتة وسوء القالة وسد أبواب عواطف الدولة على عرب طرابلس . ومازال بهم حتى أقنعهم بأمر السيد السنوسي أن يتركوا ثأرهم ويعدوا هذه الواقعة كأنها لم تكن ، وفي مقابلة ذلك أخذ لهم ،فيما سمعت البنادق التي كانت مسألتها هي سبب الشر الذي وقع .ولكن عزيز بك علي المصري وصل إلى مصر ثم الآستانة وقد امتلأ صدره وغراً على السنوسية ، كما أنهم هم أيضا قدموا الشكوى بحقه إلى الدولة بعد أن صار أنور ناظرا للحربية ، واتهموه بأشياء كثيرة أحالته الدولة من أجلها إلى المحاكمة ثم خلّت بعد ذلك سبيله بشرط أن يغادر تركيا إلى مصر وطنه في خبر ليس هذا محله ، لأنه يتعلق بموضوع الحركة العربية على تركيا أكثر مما يتعلق بطرابلس الغرب" .
وقد استمر السيد عمر في جهاده إلى أن حصلت مفاوضات الزويتينة بين الإنجليز والطليان من جهة وبين السيد إدريس من الجهة الأخرى ،ووضعت الحرب أوزارها في برقة فبقي السيد عمر ينتظر الفرص لاستئناف الحرب على عدو الوطن .
=====================================
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة ومع مفاوضات الزويتينة
أخوكم فارس عودة
أرجومن المشرفين التثبيت لأني سأتواصل معكم عبر هذه الخانة كل أسبوع