بسم الله الرحمن الرحيم
أشكرك على هذا الموضوع الرائع والراقي والمهم فهو قضية الأمة الأهم . فهو أمر يستحق البحث بكل تأكيد وإن شاء الله نكون جادين في البحث ، متمنياً من الجميع أن يدلو بدلوه ويثري الموضوع .
نعم نهضة الأمة ممكنة . نعم نستطيع أن نقود العالم بما نمتلك من فكرٍ راقٍ .
فالذي يحدد الرقي والانحطاط في مجتمع ما، هو حضارته التي يقوم عليها. فإن كانت حضارته راقية أمكنه أن يرتقي، أما إن كانت منخفضة فإنه لن يعرف النهضة في كنفها يوماً من الأيام.
وحين نتكلم عن الحضارات في المجتمعات الإنسانية فهذا يعني أننا نتكلم عن طرق العيش وأنماط السلوك والعلاقات التي تتميز بها تلك المجتمعات. فالحضارة "طريقة عيش يعرف بها كل مجتمع على حدة"، وبما أن سلوك الناس وعلاقاتهم وطريقة عيشهم هي رهن المفاهيم التي يحملونها عن الحياة، فهذا يعني أن الحضارة "هي مجموعة المفاهيم عن الحياة". فمجموعة المفاهيم الغربية مثلاً عن الحياة هي التي تشكل الحضارة الغربية، وكذلك فإن الحضارة الإسلامية هي مجموعة المفاهيم الإسلامية عن الحياة.
من هنا فإن الذي يقود الشعوب والأمم إلى النهضة هو الفكر الذي تحمله. كما أن الفكر أيضاً قد يكون هوالسبب في انحطاط الشعوب. فإنه برقيّ الفكر الذي يحمله شعب من الشعوب يرقى وبانحطاطه ينحط. وما الحضارة لدى المجتمع إلا ذلك البنيان الفكري الذي يشكل عقليته ويصوغ علاقاته وينظم مشاكله. وما رقي تلك الحضارة وما انحطاطها إلا بمقدار رقي ذلك الفكر أو انحطاطه.
فما هو الفكر الراقي؟ وما هو الفكر المنخفض؟
إن الفكر الراقي هو ذلك الفكر الشامل المتكامل المتماسك، القادر على أن يعطي الإنسان رأياً عن كل شيء يرتبط بسلوكه، وموقفاً إزاء أي حدث، ويستطيع إعطاء نظام ينظم علاقات المجتمع كلها دون إغفال ناحية من نواحيه، تنظيماً دقيقاً متناسقاً متناغماً، بحيث يوجد في ذلك المجتمع نسقاً من العيش أو نمطاً من السلوك منسجماً وذا طراز معين ولون محدد، فلا تتضارب معالجاته، ولا تتناقض قواعده، ولا يأكل بعضها بعضاً. فهكذا فكر من شأنه أن يجعل من الجماعة البشرية التي تحمله وتطبق نظامه مجتمعاً متماسكاً قوياً يسير ارتقائياً نحو النهضة. ذلك أنه استطاع أن ينسّق علاقات المجتمع ويخلصه من الاضطراب والتناقضات والصراعات الداخلية.
ولكن المشكلة تكمن في كيفية الحصول على ذلك الفكر الراقي الذي يتمتع بتلك الصفات ويتميز بذلك التكامل وتلك الشمولية. فمن أين للمجتمعات ذلك؟
إن الواقع المحسوس والتاريخ -فضلاً عن النظر والتفكير المستنيرين- يُثبتان أن فكراً كهذا لا يمكن أن يوجد إلا بوجود قاعدة فكرية له. ذلك أن كل بنيان يحتاج إلى أساس، ووجود القاعدة الفكرية هو الذي من شأنه أن يصلح أساساً لذلك البنيان الفكري. وهذه القاعدة الفكرية -التي هي الفكر الأساس - لا يمكن أن تكون قاعدة إلا بأن تكون عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، فتعرّف الإنسان بأصله ومآله، وبالتالي تعرفه بطبيعة حياته والغاية منها. وهكذا تكون هذه العقيدة صالحة لأن يُبنى عليها ذلك البنيان الفكري، كما أن من شأنها أن تكون عقيدة سياسية بحيث تنبثق عنها أنظمة للحياة ترعى شؤون الناس في مجتمعهم وتتوافق مع أفكارهم التي يحملونها والمشاعر السائدة بينهم. مما يجعل من ذلك المجتمع كياناً حضارياً متميزاً ومنفرداً، وتكون عقيدته تلك التي يعتنقها قيادة فكرية له تسير به ارتقائياً نحو النهضة. وهذا الفكر يسمى الفكر المبدئي.
هذا هو التفسير الحقيقي للنهضة. إنها ذلك الارتقاء الفكري المتمثل في عقيدة عقلية سياسية تصلح قاعدة لأفكار المجتمع وأصلاً لانبثاق نظامه وأساساً لحضارته. وبعبارة مختصرة : إن وجود "المبدأ" لدى أمة هو السبب في نهضتها. ( ونعني هنا بوجود المبدأ لدي الأمة أن يكون المبدأ مطبقاً في حياة الأمة من خلال كيان تنفيذي يطبق مجموعة الأفكار والمفاهيم والمقاييس المنبثقة من عقيدة المبدأ ) .