التعلم الذاتي والتعليم عن بعد
لا أعتقد أننا نقف في المسار التاريخي على بداية حقيقية للتعلم عن بعد، فمنذ بداية التاريخ كان الناس يترحلون من مكان إلى آخر سواء في تجارة أو في مغامرة أو ما شابهها؛ فيأخذون معهم من عادات وتقاليد وحرف إلى الجهة التي كانوا يقصدونها وسواء كان ذلك عن قصد أم عن غير قصد فقد كانت المعرفة ملازمة لإنسان أينما حل وارتحل. وكذلك انتقلت الديانات والأفكار والمعارف في القديم.
ولما بدأت الكتابة في الانتشار بين الشعوب ظهر نمط جديد لتدوين المعارف وانتقلت الأحجار المنقوشة في بداية الأمر بين الأقطار المأهولة آنذاك، وتلتها الرقاع وأوراق البردي، ثم عرف الإنسان البريد وبدأ يتبادل المعرفة بالرسائل التي كانت تحمل الأخبار وما يجري من أحداث العصر حتى القرن الماضي الذي عرف المدارس التي توفر التعليم عن بعد – بالمراسلة – نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ثانويات ومعاهد أنشأت في باريس وفي لندن وفي لياج، ظهر بعدها التعليم العالي عن بعد في جامعات عرفت منذ أزيد من قرن في كل بقاع العالم.
وبتطور التقنيات ووسائل الاتصال التي عرفها النصف الأخير من القرن السالف، برزت إلى الوجود ثورة المعلومات التي نعيشها الآن بانتشار المواقع على الشبكة الدولية للمعلومات: تعتبر هذه الشبكة أنجع وسيلة للاتصال ابتكرها الإنسان حتى يومنا هذا ولئن كانت هذه الوسيلة الحديثة لتناقل المعرفة تحمل آمالا كثيرة لشباب الغد، يجب أن نحدد شروط نجاحها وحدودها. إذ لا يكفي وضع مضمون المنهج التعليمي على الشبكة لتأمين نجاح التعليم عن بعد، ذلك؛ لأن تأثر العملية التعليمية عن بعد بالمسافة الفاصلة بين المعلم والمتعلم يجعلها تعتمد على دعائم هامة جدا نوجزها في:
1. تنوع طرق التدريس، العمل التعاوني، جلسات تفاعلية والعمل المتزامن وغير المتزامن ...
2. عمل الهندسة البيداغوجية الذي يهدف إلى إعادة تنظيم المضامين – الدروس- وتبادلها باعتماد الوسط الحديث؛ شاشة الحاسوب (جودة الأشكال البداغوجية المتحركة والمعيلات الأخرى التي تدعم المضمون)
3. تسلسل حلقات الدراسة ( الذي يجب أن يراعي ظروف كل الطلبة )
4. تناوب الدروس والتمارين – الامتحانات- تفاعليا
5. جودة وكفاءة الإشراف
6. اعتبار كفاءة منظومة التشغيل كغاية في حد ذاتها يفقد التعليم عن بعد قيمته التكوينية. فبدون تدخل بشري وتنظيم محكم لا يمكن اعتماد أسلوب تعليم عن بعد بأنه جيد.
يجدر إذا الاعتماد على الهدف المحدد، والفئة المعنية – بالتعليم عن بعد – وطريقة التعاون التفاعلي كي نستطيع تنظيم برنامج تعليمي يستجيب للمتطلبات المنشودة.
طرق التعلم
تحدد طريقة التعلم المبادئ والقواعد التي يرتبط بها الأفراد – المتعلمون- بمصادرالمعارف والمهارات . ويجب أن تأخذ تلك المبادئ بعين الاعتبار المتعلم في المقام الأول (درجة استقلاليته ومعرفته بالتقنيات المستخدمة في عملية التعلم، ودوافعه). ويسمح تنوع طرق التعليم – التدريس عن بعد- بتقديم حلول فعّالة لأنها حلول تعتمد ظروف كل شخص، وتكاملية تستجيب لاحتياجات المتعلم المتزايدة.
في الفقرات التالية، سنحاول في إيجاز توضيح الرؤيا للقارئ بتقريب الفكرة عن كل الطرق الحديثة التي يعرفها مجال التعلم عن بعد
1- التعلم الذاتي
وطريقته أن يخصص المتعلم من الوقت الذي يتوفر لديه حصة معينة ينصب فيها على دراسة الموضوع الذي يهمه معتمدا وسائله الخاصة وتوجيهات الجامعة أو المعهد الذي يكون مسجلا به. فإن كان غير مسجل بأية مؤسسة سمي المتعلم عصاميا، وهذه الفئة من المتعلمين تنتهج طرق خاصة لا تدخل ضمن نطاق حديثنا عن التعلم عن بعد.
في هذا السياق ينظم المتعلم وقته ويتعلم حسب ما يتوفر له من وسائط بيداغوجية يصممها المدرس أو موفر خدمة التكوين. وتتكون الدروس من وسائط متعددة (نصوص، صور، صوت وفيديو) لتكثيف التفاعل بين الطالب والمادة مما يزيد من دافعيته وتوسيع طاقة استيعابه.
وتناسب هذه الطريقة أساليب البحوث والتفكير الشخصي لبلورة عمل فردي الذي سيمكن الطالب من حضور جلسات التعلم الحاضر أو العمل الجماعي لاحقا.
مما يواجه التعلم الذاتي من مشكلات، أنه إن صادف صعوبة تقنية في تعامله مع الجهاز المستخدم، ولم يكن قد تعلم كيف يعالجها فإنه يتعرض لضغط كبير قد يؤخر تقدم دراسته للمنهج المقرر والمرتبط بوقت محدد.
2- التعلم الحاضر
طريقته أن يكون المتعلم على اتصال مباشر عبر الشبكة مع أستاذ يلقي المحاضرة في مكان ما من العالم ويؤمن ارتباط المتعلم بالأستاذ عن طريق المعهد أو الجامعة. وما على المتعلم هنا إلا تشغيل منظومة الاتصال الخاصة بالجامعة ليكون على الخط مباشرة مع أستاذه.
استخدمت هذه الطريقة عن طريق ما عرف باسم "البال" وكان لها صدى في بداية هذا العقد. ومما يعاب على هذه الطريقة أنها ما تزال باهظة التكاليف.
3- التعلم الإشرافي
إنه من شروط نجاح التعليم عن بعد حيث إنه يركز على وجود مدرس أو موجه على الخط يدعم التفاعل بين الطلبة، فيجيب على أسئلتهم التي إن لم تجد جوابا وقتيا تتحول إلى عرقلة تؤدي إلى خفض الدافعية لدى المتعلم. وقد أصبح حضور المشرف ممكنا بتوفّر وسائل الاتصال عبر الشبكة ومنه:
1. الاتصال المتزامن بواسطة المحادثة "تشات"
2. الاتصال اللامتزامن ويتجسد في منتدى
ويمارس الإشراف بطريقتين : إشراف فردي ويكون بربط علاقة خاصة مع المتعلم لتفادي شعوره بالتفرد والوحدة، وزيادة درجة إقحامه في الموضوع ومساندته في حل المشاكل المتعلقة بالموضوع أو بالآلة ذاتها. أما الإشراف الجماعي فيمارس في غرف المحادثة – وتسمى أيضا غرف المحاضرات – أو في المنتدى وتعزز دينامية التبادل الذي يشابه الأعمال الجماعية التي تقام داخل الفصول الدراسية.
يظهر من هنا أن الطرق التعليمية عن بعد تكاد تكون نسخا لصورة الموقف الاتصالي الذي يربط الأستاذ بالطلبة، وعلى المشرف أن يحرص على :
1. جودة المضمون المتداول
2. وأن يشجع تدخلات الطلبة
3. ويهتم بإتقان كل الطلبة لاستخدام الوسائل المستعملة (منظومة التشغيل، كيفية تعامل الطالب مع البرنامج، طلب الكلمة، أخذ الكلمة، بعث الوثائق والصور، معرفة الوسائل المتاحة في المنتدى).
4. تأطير المناقشات والإجابة على أسئلة كل طالب.
وعلى مصمم منظومة الاتصال التعليمي أن يتوقع إمكانية إثرائها بما يناسب حالات استثنائية قد تدعو لها الحاجة أو يرتئي المشرف تحسين أداء المنتدى فيضيف ما يراه مناسبا لظروف الطلبة.
4- العمل التعاوني الجماعي
لاتكون هذه الطريقة فعالة إلا في المنتدى الذي يكون من تصميم الجامعة لخدمة الطلبة. وقد يختار الطلبة مشروعا يشتركون في تنفيذه أو يتعاونون على دراسة موضوع معين بحيث يسهم كل منهم فالعمل بما لديه من معرفة ومهارة.
ونرى أن عميلية التعليم عن بعد ليست بإرسال حزمة كتب إلى الطالب أو بنشر مضمون درس على موقعها بل هي عملية تقتضي التفاعل مع الطالب وإعطائه الفرصة ليقوم بعمل فردي يثبت كفاءته وبتقييم مجهوداته بصورة موضوعية، حيث إن الشهادة التي سيحصل عليها من الجامعة أو المعهد الذي سجل به لن تقيم إلا إذا كان الطالب ذا رغبة أكيدة في تحقيق نجاح مستحق، وصل به إلى إنتاج عمل جاد وذي قيمة علمية تم تقديرها من طرف لجنة مناقشة اقتنعت بما قدمه الطالب لنيل الدرجة العلمية.