المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بندر الصاعدي
الشاعر المبدع / مصطفى السنجاري
تحية وبعد
أعود لأترك انطباعي عن القصيدة وقد ولدت ذلك :
القصيدة وصفية مشهدية في كثير من أجزائها وهي غزلية من حيث الموضوع كما هو معلوم فإثارة الشعور إحدى بواعثها وقد حققت ذلك إلى درجة كبيرة , ذلك يعود إلا براعة الشاعر في رصد المشهد وتفاصيلة والتعبير عنه بشعور مؤَثر رقيق ولغة سهلة وأسلوب سلس وصور مدهشة وكل ذلك يؤهلها لمجاورة عيون القصائد الغزلية العربية لولا بعض تكلف وضعف سبل في بعض جملها... وهي وجة نظر لا ألزم بأخذها أحدا .
وقبل الوقوف على بديعها من معانٍ وصورٍ رأيت أن شير إلى احتكامي إلى ذوقي وخلفية أدبية لا أدعي وسعها .
المطلع الذي اتسم بالتكرار والتقرير يأكد حقيقة ما يشعر به الشاعر, بل إسناده الخبر وهو" أنت"إلى الحب والروض وغيرهما من معاني العاطفة والجمال والتي هي ما تسند عادةً يؤكد تحقيق المعاني المجازية التي يرمي إليها الشاعر , وبهذا الأسلوب الشبيه بأسولب التشبيه المقلوب يعطي الشاعر للمحبوبة صفة المركزية والتي سعى ليصل إليها من خلال الطبيعة المحيطة , وبعد أن حقق جزءًا من ذلك نظر إلى نفسه والعالم المحيط به من خلالها , فهي إذاً محور الحديث عن مكون النفس والحدث في الحفلة التي أعطت الشاعر مساحةً واسعةً للوصف والرصد والتغزل , ولست في دراسة أدبية نقدية للقصيدة لأسهب في تناولي مستدعيًا أسالب النقد المختلفة ولست أهلا لذلك , لكن استفزتني القصيدة في مجملها وجودة بعض معانيها فأحببت أن أقف عليها وهي :
يـا يَـوْمَ لُقْيـانـا لأَوَّلِ مَــرَّةٍ
لَكَأَنَّ يَوْمِـيَ ذاكَ لَيْـسَ لَـهُ غَـدُ
المعنى في غاية الجمال والتأدية لإحساس الشاعر خصوصاً أنه يريد إعطاء هذا اليوم ميزة وفرادة عن غيره فيومه الذي لقي فيه حبيبة أول مرة يومٌ استثنائي يستحيل أن يأتي مثله وما ذلك إلى لخصوصية الموقف في ذلك اليوم لا اليوم ذاته ولأنَّ المواقف الخاصة يندر تكرارها ؛ لجأ الشاعر إلى نفي البكورة عن يومه وهذا مستحيلٌ طبيعةً متحقق مجازاً وإن خفف هذا النفي بالتشبية ولو حذف التشبية وأبقى النفي على أصله لكان أبلغ في إظهار خصوصية اليوم واستثنائيته , على ما في البيت من جودة في المعنى فإنَّ اللفظ قصر عن أدائه حقَّ الأداء وشبه الجملة " لأول مرة"قللت من جودة السبك وكذلك تكرار اليوم في العجز ,,, والخلاصة : المعنى بديع وسبك اللفظ دون بداعة المعنى .
صافَحْتِني فَتَبَخَّـرَتْ كَفِّـيْ كَـأَنْ
ما صافَحَتْ -إلاّ يَداكِ- يَـدي يَـدُ
هذا من أجود معاني القصيدة إن لم يكن أجودها فقد حوى عدة معانٍ لا معنًى واحداً بقليل لفظٍ وخلوٍ من تكلفٍ , ومن هذا المعاني الإحساسُ بالبرودة بعد الحرارة في المصافحة , وصف يد الحبيبة بالدفئ والمصافحة بالحميمية , التعبير عن الحالة بدقة عالية من خلال التشبية بالتبخر , نفي الحميمية والدفئ في مصافحة غيرها مع إثبات مصافحة الجميع , وكل ذلك في جودة من السبك والتجنيس ..
عَيْناكِ أَحْلى مِنْ عُيُـوْنِ قَصائِـدي
بَلْ فيـكِ كُـلُّ عُيُوْنِهـا تَتَجَسَّـدُ
وهذا أيضا كسابقه في الجودة فهو جامع بين الحقيقة والمجاز في العين وإثبات صفة الجمال لكتيهما , والتعبير هنا أتى ليثبت حقيقة معنيين بأسلوب واحد: حقيقة حلاوة عينيها وحقيقة جمال القصائد بل وتجسيد علاقتهما ببعض , وهذا غاية من الإيجاز وجزالة في الأسلوب ومتانة في السبك ... فلله درك .
وتَشَرَّدوا.. كالريحِ عـاثَ بِبَيْـدّرٍ
لكِنهـم فـي مُقْلَتَيْـكِ تَـوَحَّـدوا
لَكَأَنَّـكِ المِحْـرابُ شَـدَّ عُيونَهُـم
والسِّحْرَ فيكِ خَطيْبُهُـم ،والمُرْشِـدُ
الله , لولا الفعل :"تشردوا" هلا كانت " تفرقوا" أو " تشتتوا " ليت وليت ! , وما من تعقيب عدا ذلك خشية أن أخدش رونق البيتين .
تمْضينَ تَشْرَبُـكِ العيـونُ تَلَهُّفـاً
كالنَّهـرِ حُسْنُـكِ بَيْنَهُـم يَتَجَـدَّدُ
تمضين تشربك.. نعم الاستمرارية هنا في رصد المشهد فهي تسير هكذا تسير ليس غير ذلك , ولكن العيون تشرب فتشرب. أ من ظمأٍ أم غير ذلك !, أتروى أم لا ! ,وهل تروى العين رؤية وتنعمًا بالحسن والجمال ! إنه الحسن الذي يخفى سر سحره كماء النهر الذي تميل إليه النفس حينًا بعد حينٍ تستسيغه ولا تستغني عنه وتجهل السر وما هو إلى الحياة !.
هذا على أن هناك معانيَ جديرةً بالإعجاب لولا السبك والتكلف في بعضها , ومما شابها تكلفا قولك :
ما جَفَّ لَحْظي بَعْدَ جَفْـوِكِ لَحْظَـةً
والجَمْرُ في جَوْفي بِجَفْـوِكِ يُوْقَـدُ
عامانِ عاما بالعيونِ كمـا العمـى
في الظِّلِّ ..لا طَيفٌ لَطيْفٌ يُسْعِـدُ
تكلف التجنيس هنا واضحا وهو على حساب الجودة , ليس كقولك :
ويَمُرُّ مَرَّ المَوْتِ بي مُـرُّ النّـوى
أَنّـى يَمَمْـتُ الوَجْـهَ يَـمٌّمَ يَرْفُـدُ
هل يمَمْت صحيحة لغةً !؟
وأما السبك وضعفه ففي :
فَتَعَثَّـرَتْ شَفَتـيْ بِـأَحْـرُفِ رَدِّهِ
وَرَأَيْـتِ ثَغْـراً حَرْفُـهُ يَتَـمَـرَّدُ
بأحرف رده !
ودَخَلْتِ والأَصْواتُ تَدْخُلُ بَعْضَهـا
كيف تدخل بعضها !
كَمْ سَيِّدٌ ؟ هل كم هنا خبير أي للتكثير فتكون مجرورة أم استفهامية , وهل تضيف معنى إذا كانت استفهامية ؟
لَمْ يَبْقَ ثَغْرٌ مُطْبَقاً ..حتّـى كَـأنْ
أَلْغى خَياشيمَ الحُضـورِ المّشْهَـدُ
لست أدري كيف أقبل هذه الصور أو كيف تُقبل ! فهل من متأملٍ هنا !؟
هذا مع العذر على ما لم يرق لك من رأي , فقد ذكرت أنني لا ألزم أحدا به , فإن وفقت فمن فضل الله وإن جانب الصواب فليست المجانبة قصدي.
قد استفزتني في مجمل شكلها وموضوعها وبعض معانيها ,وأسفتُ على عدم اكتمال هذا الاستفزاز باكتمال جودتها ..
ولك التحية والتقدير