عتبة
ليست الكتابة ترفا نخبويا محضا و إنما هي ضرورة جماهيرية وجب الوعي بها و بحاجتنا إليها كخيار وجودي.وهي نتيجة حتمية للقراءة , للفعل الذي نصبنا عداءنا له أكثر حتى صرنا على مسافة اغتراب من ممارسته , إذ أننا و نحن في مجتمع أعلن الحرب على اللغة و الكتب نتواطأ بانهزامنا أمامه ضد اختلاف ممكن يصنعه التوظيف المكتوب لاحتمالات اللغة المفتوحة.فكيف نكتب داخل نسيج مجتمعي لا يقرأ؟ و بحثا عن ماذا نكتب؟و أي اختلاف تؤسس له الكتابة؟
لم يبق سوى الكتابة
عندما قالها لوكليزيو كان يدرك أنها آخر ما نقاوم به بعدما تتخلى عنا الأشياء , ذلك أنها ورطة جميلة في زمن رديء تنبأ به دون قصد - زمن السقوط السريع- عندما نقع فيها يصبح تأخر الوقوع هو كل ما نأسف عليه.ففي ظل عولمة متوحشة يتاجر في أسواقها المفتوحة بكل شيء من مسامير الأحذية المستعملة و حتى قيم الذاكرة الجماعية يؤدي وعي الأفراد بخطورتها إلى إحداث رد فعل فردي تؤطره الكتابة كآلية من آليات الإعلام و التواصل , و يصير جماعيا حين تتبناه جماعة سواء أكانت منتمية لمؤسسة رسمية كالجمعيات و الإتحادات و الرابطات
و غيرها أو كان الإجماع فيها على الرأي الواحد يتم ضمنيا و عن غير سابق تخطيط.
إنها كل ما يتبقى بعدما نفشل في كل شيء نجربه لنحول وجودنا من خانة القوة إلى خانة الفعل , أي من وجود بالإمكان إلى وجود بالكينونة - فأنا هو ما أكتبه و ليس ما أستطيع كتابته - و بها أيضا نبقي على حقنا في ممارسة الحياة دون الخضوع للتسعيرة وقت يباع و يشترى فينا بمزاد ربما تكون فيه المسامير أغلى منا...ومن الحياة.
لكن هل تتيح لنا مجتمعاتنا فرصة حتى نكتب؟ قطعا لا. و لأن الأشياء التي تصنع تغييرا تؤخذ و لا تعطى , فالأجدر أن نصنع الفرصة و لا ننتظر مجيئها كحمل كاذب...و هذا ما يمنح الكتابة قيمة الحرية.
ما أكتبه ليس كتابة...إنه تهيؤ لكتابة المستحيل
أدت الحداثة إلى فوضى في التعاريف و معاني المصطلحات فقدت معها الرموز دلالاتها
و النصوص قيمتها النسقية.فقد ضلت و أضلت من آمنوا بجدوى الإنفتاح الكوني الذي تنادي به , و كتاباتهم تفقد قصديتها : كانت الرواية فضاء لبناء المعنى , صارت فضاء لهدمه . نحي مضمون القصيدة لصالح شكلها , نحي شكلها لفراغه من المضمون . ضاع النص أخيرا ما بين شكلانيين يدعون للإحتفاء به في ظاهره و كلاسيكيين يرون قيمته في محتواه . و تبقى الكتابة لدى من يمارسها دون اعتبار لتوجهات التيارات السائدة و دون تصنيف أكاديمي أو عامي...تبقى محاولة مستمرة و صيرورة بحث - عبر نصوص متسلسلة - عن نص مستعص أو حتى مستحيل يتمنى أن يعثر عليه حتى يصير بإمكانه القول أخيرا : هذا هو...لقد وصلت.
إنه النص الذي يربك المتلقي في صدمة اللقاء الأول به و الذي يقرأه في كل مرة بنفس لذة القراءة الأولى.هكذا يمكن القول إذن إننا نكتب لا بحثا عن نص ولكن بحثا عن دليل عبور إلى ذاكرة المتلقي...عن أثرنا الذي يعلق فيها بعد أن يفرغ من قراءتنا .
النص/الدهشة
بيكاسو أمضى عمره محاولا أن يرسم كطفل دون أن ينجح , و بإمكان روائي أو مفكر أو شاعر أن يقول إنه بيكاسو آخر قضى عمره بحثا عن نص يدرك فيه الآخرون اختلافه و لما يصل إليه بعد. و الإختلاف هنا هو تحطيم أفق انتظار القارئ ليس فقط بنهاية غير متوقعة بل أيضا ببداية غير متوقعة و ربما بمسار غير متوقع.
إن نصوصا من هذا النوع هي ما جعلت المتخصصين يحتارون في تصنيفها . فما يكتبه رولان بارث مثلا هو على درجة من الخطورة في استدراج الوعي حين تبدأ به دون أن تدرك إلى أين ينتهي بك...تبدأ به بسؤال بسيط (ماذا تراه كتب؟) و تنتهي - وحدك - بتساؤل يحمل كل الدهشة : (كيف كتب هذا؟؟ ) و تساؤل النهاية هو الدليل على إدراكك لذة النص القصوى ,و هذا الإدراك هو الغاية من الكتابة .
إن أثر النص/ الدهشة يشبه ما يخلفه منح خريطة القاهرة لرجل يسافر إلى صحراء سيناء عندما يحاول - عبثا - العثور على تطابق بينهما .
الخريطة هنا هي إغواء النص , هي إيحاؤه , هي تضليله , هي تلك الثقة البدئية الخاطئة التي تبنيها انطلاقا من انطباعك الأولي حوله , و الصحراء هي الأثر المزدوج الذي يحمل خيبة التوقع و صدمة التلقي , هي اللامنتظر الذي تعثر عليه و قد تعقبت النص/ السراب منذ البدء.
يبقى الكاتب الحقيقي هو ذاك الذي يدهش قارئيه دون أن يصير قارئا مندهشا بدوره و تبقى الكتابة اختلافا ممكنا رغم التشابه الذي ضاقت به النصوص و الذي جردها من اللذة : لذة النص.