قراءة لا نمطيّة في قصيدة : بالنار لا تلعب, للشاعرة نجاة الماجد.
بقلم الناقد التونسي الكبير نور الدين الخبثاني
________________________________________
بدءا تجدر الإشارة إلى بعض الحدود التي تقيّد بها قراءة الأغراض دلالات نص القصيدة. فلقد اعتدنا و لأزمنة طويلة على أن نصنف ضروب القول الشعريّ إلى أبواب ثابتة معيّنة نسميها الأغراض الشعريّة: كالغزل و المدح و الهجاء و الفخر و غيرها...لنسارع بذلك إلى اختزال النص في عبرة أو مثل أو حكاية. ثم نترك دواخله و تفاصيله و اعتمالاته, لنقيم خارج عوالمه. مكتفين بمقارنة قول بقول , فيما يشرّع له, إتباعا أو إبداعا,تطابقا أو مخالفة. وكثيرا ما يترك النص لشأنه و لا يتجاوز ذكره استحضاره مطيّة للإسهاب في خطاب موازي , مداره إصدار الأحكام المعياريّة و الأخلاقيّة و غيرها مما يدخل في باب الموعظة و النصح . لكنه لا يمكن بأيّة حال من الأحوال اعتماده تحليلا للنص أو مرافقة عاشقة له بالمحاورة و التدبّر.
و لعله من باب الإنصاف و النجاعة أن نورد في هذا السياق ما يدعو إليه درس النقد المعاصر من ضرورة تجنّب "الإقصاء و الاختزال ". إذ يكتب الفرنسي "رولان بارط" في مؤلّفه "نقد و حقيقة" و نقلا عن ترجمة للدكتور منذر عياشي - من سوريا-ص 105 , ما يلي: "أما المقتضى الأول فيلزم المرء أن يرى أن كلّ ما في الأثر دالّ.. . و كذلك فإنّ نظام المعنى ليعتبر ناقصا , إذا لم يستطع الكلام جميعا أن ينتظم فيه.. " . ثم يتساءل لاحقا :" ثم ماذا عليّ أن أفعل بالكلمات النادرة؟هل أتخلّى عنها بحشرها في خانة "الشواذ" و "الانزياحات""؟
و من هذا المنطلق بالإمكان أن نقارب قصيدة "بالنار لا تلعب...", بذلك المنحى الذي يراهن على جعل ما يبدو هامشيّا , مركزيّا . بهدف منح صوت لما سكت عنه أو أسكته التأويل الكلاسيكيّ. و هو لعمري, ليس بهيّن و يشغل من هذا النص أكثره؟؟؟
منذ عتبتها/ عنوانها: "بالنار لا تلعب ", يبدو أن القصيدة نفسها تدعونا بل تحرّضنا على قلب أنظمة المعنى , وعلى أن لا نسلم في شأنه بالمألوف و المتداول. ذلك أن التركيب النحويّ لجملة العنوان قد خاتل قارئه بتأخيره ل: "لا" النافية. و الحال أن العبارة ذاتها معروفة و شائعة في صيغة التقديم. أفلا يعني ذلك أن في الأمر لعبة شعريّة؟ أنّ هناك احتمال ما على الأقل لرغبة ما في تأجيل النفي و النهي و في استبعاد القطع و القطيعة؟؟؟
و عليه فإنّ مسار تأويل النص -لدينا- سيتجنّب الذهاب إلى المعنى المباشر, آخذا بعين الاعتبار الخاصية الإيحائية للقول الشعريّ, و الطبيعة المزدوجة للّغة تما هي معطى جماعيّ- مؤسساتي للاتصال و فرديّ-سيكولوجيّ بالأداء. و هي أيضا حضور مشروط بالغياب (إذ أننا عادة ما نشير إلى ما هو حاضر بينما نخبر على ما هو غائب ). و هو ما قد يمكن الخوض فيه بالاشتغال على ثلاثة مستويات من الجدل و التوتّر بين: المقيّد من العبارة و المطلق/ و الذاتيّ و الموضوعيّ من الصفات و الأفعال/ و المحايث و المفارق من الدلالة. و ذلك غاية إبراز ما نرى فيه اصطراعا توارب و تداور به القصيدة عساها تفسح مكانا للمرغوب, في فضاء -لغويّ اجتماعي قيميّ-يحكمه الواجب و المطلوب. و لتشرّع , وإن بمغالبة قواعد القول و نواميس الاجتماع, لإثبات عوالم ذاتيّة مهدّدة "بالاحتراق"؟
أما في شأن التقييد و الإطلاق فإنّ الأبنية التركيبيّة (نحو الجمل ), فقد اكتفى بمواضع قليلة للحصر و الاستثناء: "ما أنت...إلاّ, غير أني...لا, قد..لكن...". بينما انتشرت على أغلب مساحات النص أقوال الإنشاء : بالنداء "يا من", و الأمر "دعني ", و التمني "لو" و التنبيه"إياك"...
و بالنسبة للعلاقة بين العام و الخاص فقد تدبّر اختيار القافية (مدّ الكسر ) الأمر بكيفيّة فرض بها غلبة واضحة لما هو ذاتيّ: هواني, وجداني, أجفاني..بينما جاءت المقولات الجامعة المطلقة قليلة نادرة: الشيطان, الأكوان, الرحمان , الألوان. بحصيلة 13/4 لفائدة ما ينسب للذات؟
أما على المستوى الثالث من النظر و التحليل, فتتجلّى ثنائيّة المحايث و المفارق في جهات عدّة من القصيدة ,لعلّ ما يصدر منها بشكل مناسب من الوضوح و الاتساق ما ورد في البيتين التاليين:
قد كنت أحلم فيك وفق شريعتي =وفق الحلال و شرعة الرحمان
لكن مرادك لم يصادف رغبتي = بل كان وفق شرعة الشيطان
يستأثر المحايث بصدر البيتين . ويدعم وحدته بلحمة اللفظ: أحلم(أنا), شريعتي(أنا), مرادك 'أنت)... بينما يدفع بالمفارق و المتعالي إلى العجز و يحكمه العرف اللغويّ بالفصل متوسّطا بالإضافة : شرعة الرحمان, شرعة الشيطان.
و عليه فإنّ حصيلة الدلالة / الدلالات سوف لن تنحاز إلى جهة التقريع و الصدّ من الحبيبة لحبيبها. ذلك أنّ ما يمكن أن يعتبر إساءة لم يسنده النص صراحة للحبيب, بل عمد إلى إظهاره و كأنّه قدر خارج عن إرادته . و أن ما أتاه كان بفعل جبريّة تفوق طاقة الجميع. أو هو في أسوأ الحالات خطأ غير مقصود: حكم الزمان, كشف الزمان و شرعة الشيطان.
كما أن القول الشعريّ لم يحسم قط في جوهر المعنى لفائدة القطع بالقطيعة. و يظهر ذلك من خلال تواتر عبارة "دعني "(05 مرّات). و هي و حسب التحليل الذي يستند إلى علم النفس و الذي وضعه العالم الفرنسيّ غاستون باشلار, "عبارة ملحّة" . تعود بصفة لاشعوريّة في النص لتعبّر عن رغبة متحكّمة مفادها عكس الرفض و الإقصاء. و مضمونها طلب المكوث و البقاء. و ليس تكرارها إلاّ علامة على عجز الوعي الأخلاقيّ و الاجتماعيّ عن إسكاتها و عن كبح العاطفة الجياشة التي تدفع بها . و هو ما تشي به العبارات و الأوصاف المرتبطة بالحبيب , الذي رغم افتراض كونه مخطأ في حق أنا القول -الحبيبة- فإنها مع ذلك تغدق عليه من لطيف القول و جميل النعت الشيء الكثير إضافة إلى حسن الدعاء: "إياك أعني يا حبيبي, حاول سيدي, كن في أمان الله..."
هذا بالإضافة إلى ما ورد من تعبير على ما يسببه الافتراق من عذاب و ألم : "دعني لناري للوعتي, لا تصغي لآهة مهجتي, الحبّ أهلك مهجتي...". دون أن نغفل طبعا على ذكر لحظات الغضب و ما ينفلت منها من عبارات لوم و شك تدخل في باب العتاب و إن لامست أحيانا حدود التقريع: طامع في هواني, الغرام مزيّف الألوان, يا دعيّ الحب ,لا تهواني...
لذلك فإنه يمكن القول في نهاية التحليل, بأن القصيدة هي أقرب لكونها -من حيث الدلالة- لحظة تمنّع/ و ليس منعا و امتناعا :" و ما الشعر إلاّ وحي تمنّع.."توسلت للبحث عن التوازن الذاتي بما تمنحه الهويّة الثقافيّة من ثوابت إيمانيّة و أخلاقيّة و مجتمعيّة :""بنت قبائل". لكنها في مقابل ذلك أفسحت المجال في أغلب المساحات الكتابيّة للتعبير عن الارتباك الناتج عن الجوف من فقدان الحبيب . لذلك جاء التحذير-كعامل تحصّن و وقاية -ليفتتح القول عنوانا للقصيدة. و جاء العطف القريب من الاستعطاف "كن في أمان الله" ليختم القصيدة, مع تأخير النفي مجدّدا "لا تهواني" , كعلامة على طلب بأجيله .. و الأفضل استبعاده.
و هكذا نرى كيف أنّ ما كان يعدّ ثانويّا و هامشيّا في النص قد صنع لنفسه -أو اصطنعنا له-من سياقات القول نظاما استطاع به أن يتبوّأ ـ مكانة مركزيّة. وأن يأتلف مع ما عداه في تجانس علائقيّ من شأنه أن يجعل من النص الشعريّ كونا يزخر بالحياة و يرشح بثراء الدلالة و المعنى دون إساءة للإيمان و دون طمس للأحاسيس و العواطف الإنسانية؟