تضمين القرآن نثرا
-----------------
قبل ان نبدأ الكلام في تضمين القران في النثر ، نقول : اننا وقفنا على نماذج كثيرة
في هذا الشأن ، وسنبدأ بسرد شيء في هذا المجال ، وأول ما نبدأ به قصة المرأة
المتكلمة بالقرآن ، ونسأل سؤالا بسيطا والاجابة عليه معلومة عندنا .
نسأل : من منا لم يقرأ هذه القصة ، ( المتكلمة بالقرآن ) من منا لم يتأملها كعبرة
وعظة ، كلنا قرأناها وأدهشتنا .
سأروي لكم القصة نقلا عن كتاب ( الإقتباس من القرآن الكريم / لمؤلفه
أبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي ) وكذلك اورد الاصمعي القصة في روضة العقلاء :
قال : بينما أنا أطوف بالبادية اذا انا باعرابية تمشي وحدها على بعير لها
، فقلت : يا أمة الجبار من تطلبين ؟ فقالت : - ( من يهد الله .... )
وفيه انها لم تتكلم منذ اربعين سنة إلا من كتاب الله . وهناك فروقات أخرى
في الرواية . وراجع : ثمرات الاوراق .
فصل
---
في خبر المرأة التي كانت لا تتكلم إلا بألفاظ القرآن
-----------------------------------------------
قال بعض الرواة : قال : خرجت حاجا فإذا أنا بامرأة على بعير وهي تتلو
( من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) فقلت لها : يا أمة الله
أحسبك ضالة ؟
فقالت : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما )
فقلت لها : من أين أنت ؟
فقالت : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى)
فعلمت أنها مقدسية ، فقلت لها : لم لا تتكلمين ؟
فقالت : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )
فقلت لأصحابي : لأحسبنها حرورية لا ترى كلامنا .
فقالت: ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر
والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا )
فعلمت أنها لا تتكلم إلا بألفاظ القرآن من كتاب الله . قال : فأخذت
بزمام بعيرها أقودها تريد مكة فأشرفت على قافلة شامية تريد مكة
فأشارت بيدها تريد ( وبالنجم هم يهتدون )
فعلمت أنها اهتدت لمن فقدت فقلت : من أنادي .
قالت : ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) وقالت : ( يا داود
إنا جعلناك خليفة في الأرض )
فناديت : يا يحيى ، يا زكريا ، يا داود ! فجاء فتيان يتعاودون
فإذا هم بنوها ، فلما رأتهم قالت :
( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور )
وقالوا لي : جزاك الله عنا وعنك خيرا ، فسألتهم عنها ، فقالوا :
هذه أمنا ، لم تتكلم ثلاثين سنة إلا بالقرآن . وأنزلوني وأكرموني .
فقالت : ( ابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى
طعاما فليأتكم برزق منه )
فمضى أحدهم وجاء بفاكهة وطعام طيب ، فأكلت ، وخرجت ساعة ثم قلت : أوصيني .
فقالت : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى )
فعلمت أنها متشيعة ، فركبت ، وانصرفت .
================
هذه القصة كما ذكرها الثعالبي وقد وردت في مصادر أخرى باختلافات بسيطة
لا تغير من جوهر النص كما ذكرنا ، القصة هنا تمثل مشهدا يدور فيه حوار ،
أو مسرحا وهناك المتفرجون وطبعا المتفرجون نحن ، ومن يقرأ الحوار نحن ،
نرى من خلال الحوار شخصيات أهمها الراوي والمرأة ، ونرى الحوار يدور بشكل
مختلف عن طبيعة الحوارات ، ونرى الراوي في بعض ردوده ينكر على المرأة
لغتها وخطابها ، حين قال لها : ( فقلت لها : لم لا تتكلمين ؟؟ )
مع أن المرأة تتكلم ، فما الذي دفع الراوي الى استنكار طريقتها في الخطاب
هل الراوي يجهل كتاب الله وما فيه من الايات ؟؟؟ لا ، لأنه يقول :
( فعلمت أنها لا تتكلم إلا بألفاظ القرآن من كتاب الله ) وهذا اثبات أنه
يعرف القرآن ، لذلك رأيناه يتابع الحوار بعد أن أدرك طبيعة محدثته .
لننظر الان الى القصة كنص أدبي ، ألا نجد شيئا من الاختلاف عما ألفناه
من القصص والنصوص الأدبية ، بالذات الحوار ، وأغلب إجابات المرأة تبدو
غير مقنعة فما معنى أن يسأل الرجل وتأتي الإجابة على هذه الصورة ؟؟؟
اختلاط كلام البشر بكلام السماء وبدون حتى الاشارة الى أن جوابها ليس من
كلامها ، بل إنها جعلت كلام السماء كلامها ، أي أنها بلغتنا نحن ( أنزلت
كلام السماء عن مكانته حين جعلته لغة خطاب عادية بينها وبين جنسها )
لأننا نعلم أن القرآن لم ينزل لمثل هذا ( ليكون لغة تخاطب بين الناس )
لكننا حين نقف على مدلول الإقتباس والتضمين ، يصبح فعل المرأة عاديا
جدا ، وغير مستنكر منا ، وندرك هنا أن المرأة بلغت منزلة ايمانية
لم نبلغها نحن .
وكما لاحظنا هنا ، فان المرأة استعملت تضمينا كليا، بل أكثر ، انها
استعاضت عن لغة البشر لغة القرآن ، وسواء كانت بفعلها هذا ارتقت
الى مستوى القرآن ، أو أنزلت القرآن الى مستواها ( بمعنى جعله لغة تخاطب)
فلم نقرأ من استنكر عليها اسلوبها ، بل رأينا كل من روى القصة
أنه اعتبرها موعظة وانها رائعة وتصلح للرواية بغض النظر عن المستوى
الفني للقصة ، فما التفت له الجميع هو الحوار الفريد والذي لم نقف
على حوار مشابه له ، ولنا الان أن ننظر الى ما في القصة من تضمين
ايات القران في النثر ، وعلى هذه الصورة الفريدة ، فلم يرد في القصة
على لسان المرأة قبل كل جواب ما تعودنا قوله منذ فجر الاسلام حتى يومنا
قبل ذكر الايات ( قال تعالى ) لم نجد هذه الجملة اطلاقا في ردودها ، انما الجواب
مباشرة آية قرآنية ، لماذا تركت المرأة هذه الجملة ولم توردها
في ردودها ؟؟؟؟ ولماذا قبل الرجل الحوار وفق هذا المبدأ ؟؟؟؟؟
ورأينا أن بعض إجاباتها تبدو في غير مكانها الصحيح ، وبعيدة عن المطلوب
مثلا حين سألها من أنادي ؟؟؟ أجابته : ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام
اسمه يحيى ) وقالت : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض )
ولو سألنا سؤالا بسيطا هل جوابها مقنع هنا ؟؟؟؟ كان بامكانها أن تقول
( يحيى ، زكريا ، داود ) وتكون مقنعة ، لكنها اختارت الايات ، ورغم
ذلك فهم الراوي ونادى .
( ملاحظة : تركنا ذكر الأبناء في التعليق على الحوار )
================================
والان : ومن خلال النظرة الأدبية للنص ، لنحاول الوقوف على هذا النوع من
التضمين الكلي ، بل (الاستعاضة ان جاز لنا أن نسميها كذلك ، ونعني
استعاضة لغة السماء لتنوب عن لغة الارض ، وبمعنى أدق الإستعاضة بايات
القرآن مكان كلام البشر لمخاطبة البشر ) ما هو حد التضمين هنا
جوازه وعدمه ؟؟؟ وهل هو تضمين أم فن آخر من فنون الكلام ؟؟؟؟؟؟
هذه دعوة للحوار البناء والهادف .
للجميع تحياتي وبانتظاركم