(8) تفضيل وترجيح
(أ) ما يتفق في الاحتجاج به من الأحاديث
من الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج به في اللغة، وهو ستة أنواع:
أحدها: ما يروى بقصد الاستدلال على كمال فصاحته عليه الصلاة والسلام، كقوله: حمي الوطيس، وقوله: مات حتف أنفه، وقوله: الظلم ظلمات يوم القيامة ... إلى نحو هذا من الأحاديث القصار المشتملة على شيء من محاسن البيان كقوله: مأزورات غير مأجورات، وقوله: إن الله لا يمل حتى تملوا.
ثانيها: ما يروى من الأقوال التي كان يتعبد بها أو أمر بالتعبد بها، كألفاظ القنوت والتحيات وكثير من الأذكار والأدعية التي كان يدعو بها في أوقات خاصة.
ثالثها: ما يروى شاهدًا على أنه كان يخاطب كل قوم من العرب بلغتهم.
ومما هو ظاهر أن الرواة يقصدون في هذه الأنواع الثلاثة رواية الحديث بلفظه.
رابعها: الأحاديث التي وردت من طرق متعددة واتحدت ألفاظها؛ فإن اتحاد الألفاظ مع تعدد الطرق دليل على أن الرواة لم يتصرفوا في ألفاظها.
والمراد أن تتعدد طرقها إلى النبي أو إلى الصحابة أو التابعين الذين ينطقون الكلام العربي فصيحًا.
خامسها: الأحاديث التي دونها من نشأ في بيئة عربية لم ينتشر فيها فساد اللغة كمالك بن أنس، وعبدالملك بن جريج، والإمام الشافعي.
سادسها: ما عرف من حال رواته أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى مثل ابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وعلي بن المديني.
ب- ما لا يختلف في عدم الاحتجاج به
ومن الأحاديث ما لا ينبغي الاختلاف في عدم الاحتجاج به، وهي الأحاديث التي لم تدون في الصدر الأول، وإنما تروى في بعض كتب المتأخرين.
ولا يحتج بهذا النوع من الأحاديث سواء أكان سندها مقطوعًا أم متصلًا؛ أما مقطوعة السند فوجه عدم الاحتجاج بها واضح، وأما متصلة السند فلبعد مدونها عن الطبقة التي يحتج بأقوالها.
وإذا أضيفت كثرة المولدين في رجال سند الحديث إلى احتمال أن يكون بعضهم قد رواه بالمعنى أصبح احتمال أن تكون ألفاظه ألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام، أو ألفاظ راويه الذي يحتج بكلامه- قاصرًا عن درجة الظن الكافي لإثبات الألفاظ اللغوية أو وجوه استعمالها.
(ج) ما يختلف حول الاحتجاج به
والحديث الذي يصح أن تختلف الأنظار في الاستشهاد بألفاظه هو الحديث الذي دون في الصدر الأول، ولم يكن من الأنواع الستة المنبه عليها آنفًا، وهو على نوعين:
* (حديث) يرد لفظه على وجه واحد.
* (وحديث) اختلفت الرواية في بعض ألفاظه.
أما الحديث الوارد على وجه واحد فالظاهر صحة الاحتجاج به، نظرًا إلى أن الأصل الرواية باللفظ، وإلى تشديدهم في الرواية بالمعنى. ويضاف إلى هذا قلة عدد من يوجد في السند من الرواة الذين لا يحتج بأقوالهم؛ فقد يكون بين البخاري ومن يحتج بأقواله من الرواة واحد أو اثنان وأقصاهم ثلاثة.
ومثال هذا النوع أن الحريري أنكر على الناس قولهم قبل الزوال: سهرنا البارحة، قال: وإنما يقال: سهرنا الليلة، ويقال بعد الزوال: سهرنا البارحة.
والشاهد على صحة ما يقوله الناس حديث أن النبي "كان إذا أصبح قال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ وحديث: وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول عملت البارحة كذا.
ففي قوله: إذا أصبح قال: هل رأى أحد منكم البارحة، وقوله: ثم يصبح فيقول: عملت البارحة- شاهد على صحة أن يقول الرجل متحدثًا عن الليلة الماضية. وهو في الصباح: سهرنا البارحة، أو وقع البارحة كذا.
وأما الأحاديث التي اختلفت فيها الرواية فإنا نرى من يستشهدون بالأحاديث من اللغويين والنحاة لا يفرقون بين ما روي على وجه واحد، وما روي على وجهين أو وجوه.
ويمكننا أن نفصل القول في هذا النوع؛ فنجيز الاستشهاد بما جاء في رواية مشهورة لم يغمزها بعض المحدثين بأنها وهم من الراوي مثل كلمة "ممثل" وردت في أشهر رواية الحديث قام النبي ممثلًا أي منتصبًا، والمعروف في كلام العرب إنما هو ماثل من مثل كنصر وكرم.
وأما ما يجيء في رواية شاذة أو في رواية يقول فيها بعض المحدثين إنها غلط من الراوي فنقف دون الاستشهاد بها، ومثال هذا كلمة ناعوس وردت في إحدى روايات حديث "إن كلماته بلغت ناعوس البحر". ووردت في بقية الروايات قاموس البحرأو وسطه ولجته.
وكلمة ناعوس غير معروفة في كلام العرب.
قال أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني أحد المؤلفين في غريب الحديث: فلعل الراوي لم يجود كتب كلمة قاموس.
وأضعف من هذا أن تجيء الكلمة غير المعروفة في اللغة في صورة الشك من الراوي ككلمة خطيط. وردت في حديث: ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه. قال ابن بطال: لم أجد كلمة خطيط بالخاء عند أهل اللغة.