محاكمة الذات بالمعايير المبدأية
( ملاحظة قبل أن نبدأ : هذه المحاكمة لم تأتي صياغتها لعدد من الشخوص، أو حصراً في زمن محدد باليوم والساعة ... إنما هي محاكمة مستمرة، إختصاصها القانوني المبادىء التي لا تتغير مع تغير الزمن والمفاهيم والتقدم التكنولوجي )
مقدمة لا بد منها ... قيل : إن قلتها تمت ... وإن لم تقلها تمت ... قلها ومت.
ونحن في وصف الواقع الحالي نجد أنه من غير المبرر أن نجد هذا الصمت في ظل الموت في كلا الحالتين، فلا بد إذا ان نستشير التاريخ الذي طالما قال لنا :
إن لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا
والجبان : هو الذي يخاف قول الحقيقة.
للتجربة التاريخية مكان حقيقي وسبق أن قالها الكثيرون فكان ثمنها أرواحهم.
ومن هذا المنطلق نبدأ بالمحاكمة الذاتية التي ستوصلنا في النهاية إلى الحكم القاطع بأن نقولها علناً دون خوف، حتى لا يكون موتنا كخراف المسلخ، دون صوت أو إعتراض من المقتول، وحتى لا ننتظر القاتل بأن يعتذر عن جريمته غير المبررة بأي حال من الأحوال.
المحاكمة :
عدد من الأسئلة الموجهة للذات، النفس، الضمير على وجه الخصوص وفي عمومها مسائلة لا جدلية إنما حضارية بالشكل الحضاري للحوار الحقيقي، لذلك فهي أسئلة مطروحة على طاولة النقاش لنحاكم أنفسنا فيها أولاً
وثانيا : نطالب الأخرين أن يحاسبونا فيها ونحاسبهم على أساسها، يكون الإختصاص القانوني فيها للنفس النظيفة التي لم تتلوث حتى الأن بالأفكار الهابطة الإنهزامية التي يراها البعض تسليماً للهزيمة بأسم الواقع، أو هروبا من واقع مفجوع بالهزيمة والألم الإنساني الذي يتعالى صوته في بلدان العالم الثالث كما اصطلح على تسميتها بين الدول الكبرى، هذا الصوت الموجوع الذي آن الآوان لأن يجد من يسمعه حقيقة وواقعا..
وقائع الحدث :
هزائم متكررة ... حالة من اليأس يمكن وصفها كما وصفها الشاعر محمود درويش : (لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا) مع أن الحالة اليائسة إستفحلت في بعض الحالات والمجتمعات حتى غدت عصية على الوصف.
الوسط الملوث و الأشخاص والرموز الملوثة التي تحترف النفاق والخداع الفكري في بعض الحالات، وتتقنع مرة بالدين أو بالأخلاق لتحقيق مصالح شخصية، وفي حالات أخرى مزاودات على الدم والشهداء والثوار، وإدعاءات بالمحاولة للحل ليكون شمولياً والحقيقة الواقعية تقول إن الحل الذي وقع كان براغماتياً يحقق مصالح فردية فقط.
التحول في المفاهيم ومحاولة البعض أن يغير المفاهيم الحقيقية ويزورها ويغير معانيها، حتى تحققت نبوءة الشهيد غسان كنفاني بأن أصبحت الخيانة مجرد وجهة نظر، وإلقاء أخطائنا على الأخرين، وحتى الموتى لم يخلصوا من إلقاء الأخطاء عليهم بحجة أننا نحصد ما زرعوا.
لم نقاتل، ولكننا نهزم دائماً، وبرغم ذلك ننتظر النصر أن يأتي من السماء مع طائر العنقاء الذي يظهر من تحت ركام بيوت الآخرين المدمرة، وحتى هذه اللحظة لا يزال الكثيرون مؤمنين بأن العنقاء ستأتي لتحررهم وهم نيام في بيوتهم، غير آبهين أو محاولين مجرد المحاولة بإقناع أنفسهم بأن العنقاء طائر أسطوري لا يأتي من تحت الركام وأن العنقاء الحقيقية هي إرادة الشعوب.
الغريب أن تصبح القواعد الإجتماعية الصحيحة عبارة عن شذوذ في ظل العولمة والمناظير الحديثة، ويصبح الشذوذ الحقيقي هو القاعدة التي يتم الحكم بصحة الأمور على أساسها، حتى أن هنالك حملات تسمى نفسها وطنية ظهرت في كل البقاع المحتلة لمناهضة المقاومة بإسم ( حملات مكافحة الإرهاب ) متناسين أن الإرهاب الحقيقي هو الاحتلال و أن ضحايا الإرهاب المنظم والتعسف في إستعمال السلطة وعدم المساواة في القرن العشرين يفوق عددها حتى القرون الوسطى وعصور الظلام.
المرافعة :
إني اعجب من النفوس التي إستسلمت لليأس المطلق وغدت تقول عن الواقعة التي نعيشها إن الآوان قد فات على التحرير من قيود الذل والإستعمار، ولماذا هذا الاستسلام المطلق اللامبرر طالما أن الإستعمار وعلى مدى التاريخ هو مجرد حالة شاذة بعد أن أثبت التاريخ بحتمية أن الشعوب في النهاية هي التي تنتصر، وأن الطغيان لم يستمر سوى فترات سرعان ما إنهارت حين إمتلكت الشعوب قرارها الفكري والثوري.
وإني أعجب حقيقة لمن لا يؤمن بعد هذه الحقائق التي أثبتتها التجارب التاريخية بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن من يساوم المستعمر على حريته يكون قد وقع صك عبوديته بيده.
ليس من حق أحد أن يدعي بأن دور التاريخ قد إنتهى من المراحل الحالية، لأن التاريخ والتراث الفكري والمادي هو جزء من المسيرة الحضارية والثورية منها تحديدا.
لأن التاريخ غير قابل للضياع لإنه الإمتداد الحقيقي لمسيرة الشعوب الحضارية، ويمكن أن يضيع إذا إنتهت الشعوب ووصلت حد الفناء، ومن البديهي جدا أن يتعرض التاريخ لمحاولات تزوير وتحريف، لكنه لن يزول نهائياً لأنه تاريخ يمتد لأكثر من عشرات الألاف من الأعوام من الحضارات الممتالية في هذا النطاق الجغرافي.
تاريخ حضاري دونته اللغات المسمارية على جدران الحضارة، أولى اللغات المكتوبة على وجه الأرض لا يمكن أن يسرق أو أن يمحى بهذه السهولة التي يسلم لها بعض اليائسين والمسلمين لما يسمى القدر المحتوم كما يسمونه.
هذا الامتداد الحضاري من بابل، عدن، الفراعنة، البالستيين، الكنعانيين، الفنيقيين، السومرية، الأشورية، الأكادية، والأنهر العظيمة التي حوت على ضفافها وفيما بينها حضارات شامخة كحضارات ما بين النهرين وما حول النيل وما حول العاصي ونهر الأردن حتى الحضارة الإسلامية العريقة، يجعل من المستحيل على دولة لقيطة عمرها أقل من 300 عام وتفتقد للإرث الحضاري، قامت على جماجم أكثر من 30مليون هندي أحمر، دمرت حضارتهم وإرثهم الحضاري، أن تستعمرنا بسهولة و تزرع فينا كل ثقافة اليأس والإستسلام هذه.
إلا إذا كنا نحن أنفسنا قد إستسلمنا للفشل الفعلي والذي هو أن تكف عن المحاولة الجادة في السعي وراء الحقيقة.
الرد التاريخي :
يمكن أن يكون التاريخ قد تعرض للتحريف بجزئيات منه عبر حملات الغزو الطويلة ومحاولات محو الهوية الحضارية عنا، ومحاولة طمس هويتنا الحضارية وإستعبادنا وإخضاعنا، وحتى العلوم والفكر لم تسلم من هذا الهجوم الذي تردد بين عبراني، روماني، تتري، بربري، صليبي، أوروبي، صهيوني، ومن ثم أمريكي.
والحملات العدائية على حضاراتنا وتراثنا.
يقول الأديب الأمريكي الساخر مارك توين : لو أن الموتى يتكلمون ... لما كان التاريخ مجرد أكاذيب .
رغم أسلوب توين الساخر في سرد الحقيقة، إلا أنها تظل حقيقة بلونها وطعمها ومزاجها العادي والصباحي الروتيني، لكن ما يجب أن نعيه تماما أن هذه الأكاذيب التي أُدخلت على تاريخنا، مهما لوثت أو شوهت إلا أنها لم تستطع أن تطمس كل الحقيقة، و سنكتفي بما تبقى منه لأن نؤسس فيه للمرحلة القادمة ليكون الخطوة للخلف التي تسبق خطوتين للأمام، لأن نهضتنا جزء لا يتجزأ من التراث، وإرثنا الفكري والحضاري والإنساني هو بركان خامد يبحث عمن ينبشه لينفجر.
وسينفجر ليمد الثورات القادمة بشرعيتها التي تتمثل بدفاعها الحر عن الحقيقة
هذه حقيقة يجب إن نؤمن بها كما آمن فيها ماوتسي تونغ عندما صنع الثورة الصينية التي مزج فيها بين الماركسية والتراث الصيني وآمن معه فيها الشعب الصيني حتى حقق حريته أولاً ونهضته ثانيا.
والثورة الفيتنامية التي مزج فيها هوشي منة بين التراث والفكر
وكان إنتصار الشعوب هو الحقيقة الساطعة بشمسها التي سحقت الغزاة بالرغم من تفوقهم الخيالي جداً
مداخلات داخل النص :
ليس الموضوع مجرد أمنيات عابرة أو أحلام مستهلكة كما يظنه البعض، لكنه عبارة عن حقائق غائبة عن البعض والسبب إمتزاج الشعور العام باليأس الناتج عن الانتكاسات المتكررة وبعض النظريات الخاطئة التي أصبحت جزءاً من عقيدة وتفكير العقل العربي مثل نظرية المؤامرة الإستسلامية الهابطة والتي لا يقبلها العقل الواعي الذي يبحث دوما عن نهضة حقيقية.
الجلسة الختامية :
* إن إيماننا بأن الخلاص يأتي عبر التسويات والمساومات فكرة غير معقولة ابداً وتناقض التجارب التاريخية، والإيمان المطلق بأن الخلاص لا يأتي إلا من خلال المخلّص الذي يأتي من مكان أخر غير الكوكب الذي نعيش فيه رهان فاشل، لقد أثبت لنا التاريخ أن الخلاص يأتي من أفواه بنادق المقاومة التي يجب الرهان عليها ولا على شيىء غيرها أولاً، وأن أي محاولة للإستسلام هي إجهاض حقيقي لهذا المخلص من خلاصه.
*ليست قسوة الحياة ظلم، بقدر ما هي دليل حقيقي بأننا ما زلنا على قيد الحياة، هكذا علمتنا الحياة أن لا شيىء يأتي بسهولة، وأن الظواهر الخارقة لم تأتِ إلا نتيجة نضال أفراد أو شعوب أو جماعات.
* من يحاول دوما أن يلقي بنصائحه على الناس لا بد أن يكون في مقدمة التنفيذ العملي لما يقول، فكما قال الثائر الأرجنتيني تشي أرنستو جيفارا : العالم ليس بحاجة للنصائح بل إلى القدوة ... فكل الحمقى يتكلمون.
وهذا المثال الواقعي الذي يمثل الحقيقة يضع خطا أحمراً لمن يريد أن يكون حكيم العصر على حساب مصائب وسهوات وسقوط المواقف لدى البعض.
* لا يجوز لأحد أن يحتكر الحل أو أن يدعي أنه يملك المشروع الوحيد للنهضة أو التحرر، لأنه علينا أن نتذكر دائما أن كلاً منا على حد لا يساوي شيئاً، وأننا جميعاً يجب أن نلتف حول من هم في الخندق الواحد طالماً الهدف واحد إن كان سامياً كالمقاومة والتحرير.
* التاريخ : هو مجموعة تجارب الأخرين ممن سبقونا وأخطائهم ونتائج تجاربهم، والتي يجب أخذها بعين الاعتبار دوماً قبل البدء بأي مشروع إجتماعي أو نهضوي أو إنساني أو حضاري.
* خروج الفرد عن المجموعة لا يعني بالضرورة أنه الرجل الخطأ في الزمن الصحيح، فبعد الغزو المسمى عولمة والذي ساعد في تشتيت مفاهيم، وتغيير مفاهيم، وكذلك مسح قيم إلى الأبد.
لذلك يكون المقياس هو المبادئ ومن هو الأقدر على البقاء على نهجها في هذا الزمن، وعجز الأخرين عن إستكمالها يعني أن الأخرين هم الذين خرجوا وإن بقيت وحيداً كورقة في الخريف ... وقد يكون أن هذا الخارج هو الرجل الصحيح في الزمن الخطأ الملوث .
* من تعود دائماً أن يعطي الآخرين من نتاج خبرته ومن خبزه ومن دمه لن يشعر لحظة بالتعب، لكن المحزن أن نرى البعض الآخر يتعب من عطاء الأخرين، وأن نجد أيضا من لم يعطِ ولم يعرف معنى العطاء يتململ من عطاء الأخرين، بل ويزاود على عطائهم ويطالبهم بالتوقف عن العطاء بحجة أنه تعب ... هذا ما نجده لدى الذين يطالبون المقاومة الشرعية بالتوقف عن نضالها المشروع بحجة أنهم تعبوا، بالرغم من أنهم بقوا جالسين في بيوتهم حين كان الأخرون يقدمون أرواحهم.
*إننا يجب أن نجد العديد من العاطلين عن العمل بأعداد كبيرة ظاهرة مبررة شعبيا و الأنظمة هي المطالبة بتصحيحها، ولا نحمّل جلَّ مسؤوليتها للأفراد والشعوب، لكن أن نجد الملايين من العاطلين عن الحزبية أو التنمية السياسية والإجتماعية فهي ظاهرة تعني أن هنالك مؤشراً سلبياً باتجاه النهضة والإصلاح الحقيقي، لأن مؤسسات التنمية الإجتماعية هي الماكنة التي بإمكانها ترقيع بعض الثقوب في نسيج المجتمع الواحد.
(شكر خاص للأخ ناصر ثابت )