[SIZE="5"]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده وصلاة وسلاما على من لانبي بعده
أهلا وسهلا بكم أحبتي في هذا الصباح المشرق
لقد دار بيني وبين أحد الإخوة نقاشا حادا حول مضامين البلاغة والنقد فأحببت ُ أن تشاركوني الفكرة , وإبداء آرائكم وملاحظاتكم !
,.,.,.,.,
إن من الجدير ذكره ُ وفهمه ُ في عالم الشعر الجميل , أن تكون هناك درجة معينة في ذهن المرء وسمعه وحسه ووجدانه ليتأتى له معرفة المغزى والمدلول من النص !
فإن للحروف ومخارجها وصفاتها , والألفاظ ودقائقها وتراكيبها , مذاق في الفم كسائر مذاقات الفواكه والطعوم ! كمايقرر ابن الأثير في المثل السائر .
ولقد استوقفني مطلع بيت للدكتور الشاعر / عبدالرحمن العشماوي سمعته على قناة دليل الفضائية ذات ليلة !
دعيني فقد أسرجت من أجلك الشِّعْــــــرا...
وأرْكضْــــتُهُ حتَّى طَــوَيتُ بهِ القَــــــفْرا
وبغض النظر عن جودة الصورة المجازية هنا , إذ ليس حظ الشعر من الشاعرية أن تدبـَّج ثناياه بالتشبيهات والاستعارات والكنايات فقط ! فقد شاع في عصور الضعف والانحطاط هذا النمط من الصنعة والمحسنات اللفظية !
حقيقة ً ليس القصد من النقد هو النقد ذاته , وإنما المقصود إضفاء شيئ من المثاقفة والتبيين !
وسآتيك بمثال بسيط على ماشاع في عصور الضعف من ترصيع القصائد وحشوها بالصور والتي لاتحمل تحتها صدقا وإنما هو التكلف لاغير:
قصيدة لصفي الدين الحلي في وصف الربيع يقول فيها :
خلع الربيع على غصون البان
حللا فواضلها على الكثبان
ونمت فروع الدوح حتى صافحت
كفل الكثيب ذوائب الأغصان
وتتوجت هام الغصون وخرّجت
خد الرياض شقائق النعمان
وتنوعت بسط الرياض فزهرها
متباين الأشكال والألوان
طبعا إلى آخر القصيدة !
أنا أسألك الآن , ودعك من كل ماسمعت , ماالذي تراه أنت في هذه الأبيات ؟
أين ذات الشاعر ؟
رغم وجود الصور الجميلة والتنسيق الفني الرائع , هل ترى ذات الشاعر منصهرة مع عناصر الطبيعة في النص ؟!
لكن تعال معي وانظر : قول الشاعر البصير أبا عبادة إذا يقول :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
فيا سبحان المانح !
لقد خلع الشاعر هنا على الربيع ذاته , وأسقط كما يقول علماء النفس مشاعره على الربيع , فهاهو الربيع يمشي متبتخترا أمام عينيك لماعا ً بسـَّاما برَّاقا مبتهجا حتى ليكاد من جلال الحسن والسحر والروعة أن يتكلم إليك بلغة غير اللغة وبحروف غير الحروف !
هنا الشعر وهناك الصنعة !
وقديما أخذوا على حسان ابن ثابت قوله :
ونشربها فتتركنا ملوكا , وأسدا ماينهنهنا اللقاء ُ
ونشربها أي الخمر ( جريا على عادة العرب في التعبير ! )
فقالوا : أن الشجاعة هنا ليست سليقة , ليست طبيعة , وإنما أحدثت الشجاعة بسبب شرب الخمر , وهذا مايقوله النص !
وكذلك في بيت الدكتور العشماوي فهو يقول : وأركضته ُ يعني أن الخيل لديه لاتجري بإرادتها وعلى طبيعتها وإنما بسبب ! بسبب ٍ منه هو ! يعني أن هناك افتعالا !
أما بالنسبة لسؤالك الثاني :
ماهي المعايير التي نحكم من خلالها على علو قيمة الآثار الأدبية؟
فمن المعايير مايتعلق بالتجربة الشعرية ومنها مايتعلق بالصورة والمضمون ومنها مايتعلق بالمتلقي نفسه ! فأنت تتحدث عن الأدب , والأدب ليس شعرا فقط , هناك أدب القصة وأدب الرواية وأدب المسرح وأدب المقالة ! راجع كتاب النقد الأدبي لشوقي ضيف .
ومن المعايير مايتعلق بالقيم التعبيرية والقيم الشعورية راجع كتاب النقد وأصوله لسيد قطب رحمه الله .
ومنها مايتعلق بالتشخيص راجع كتاب قضايا في النقد والشعر د / يوسف حسين بكار
أنا بصدد الحديث عن جوانب هامة , وهي في صميم الشاعرية , ولايختلف فيها من آتاه الله أدنى حظ من سلامة الذوق وسلامة الفطرة !
لكن وقبل أن أبسط بين أيديكم ماأخذته على مطلع القصيدة المشار إليها سابقا , أود أن أقدم َ بمايفي الغرض من مبادئ وقواعد وأصول ثم نسقط عليها ملاحظاتنا لنجمع بين النظري والتطبيقي .
تقرير
أولا : علينا أن نقرر هنا أن هناك فرقا بين البلاغة ومباحثها وبين النقد ومباحثه .
فمواضيع البلاغة تتلخص في الصور الجمالية - من استعارة وتشبيه - داخل النص !
أما النقد فهو يبحث عن القيمة الدلالية لهذه الصور .. يعني ماقيمة هذه الصورة ؟؟؟؟! ماوزنها ! فلو أخذنا البيت المشار
دعيني فقدأسرجت من أجلك الشِّعْــــــرا...
وأرْكضْــــتُهُ حتَّى طَــوَيتُ بهِالقَــــــفْرا
وعرضناه على البلاغي , سيقول لنا :
قول الشاعر : أسرجت ُ استعارة , حيث تم نقل اللفظة من وضعها اللغوي الأصلي وهو السرج المعروف من عدة الخيول , إلى وضعها المجازي للشعر ! فشعره كالخيل يركض في البراري والقفار .. وهو تشبيه ضمني إذ تم حذف أداة التشبيه وأبقى لنا لازمة من لوازمه !
ولو عرضنا هذا البيت نفسه على الناقد , فماذا سيقول ؟!
سينظر إلى قيمة الصورة هنا : هذا البيت من حيث الصورة جيد ! لكن الشعر أكبر من يوصف بالخفة والحركة والسرعة ! وهو أكبر من أن يجري في البراري والقفار دون معنى ودون غاية ! وهذا وصف للشعر من الخارج فقط , وهي صنعة لفظية لاحرارة فيها ولاصدق ولاوجدان .
ولو قارناه بقول الشابي : إذ يقول :
شعري نفاثة صدري
إن جاش فيه شعوري
به تراني حزينا
أبكي بدمع غزير ِ
به تراني طروبا
أجر ُّ ذيل حبوري
لرأينا هنا تجربة شعورية متوهجة , تفيض من الذات إلى الخارج بالحيوية والواقعية وهو أقرب إلى تعريف الشعر ومعناه , فهو من الشعور ومايكتنفه من حزن تارة وفرح تارة أخرى .
وهذه صورة من الداخل لاتنفك عن الإنسان في أي حال من الأحوال !
فالصورة في بيت العشماوي وصف مأخوذ من الخارج , والصورة في بيت الشابي وصف نابع الداخل !
ألاحظتم الفارق ياإخوة !
مقتضى الحال
ثانيا :
من حيث مقتضى الحال , فالدكتور يقف أمام امرأة قائلا : اتركيني فلقد جعلت ُ من الشعر خيلا تجوب البحار والقفار وهذا كله من أجلك !
وأنا أقول : ماشأن المرأة بركض الخيل وارتكاضه وهل نحن في ساحة مفاخرة حتى تعتلي هذه النبرات , نبرات التحدي ! أماكان يجدر أن يقول لها وهو يقف أمامها :
عذبة أنت ِ كالطفولة كالأحلام , كاللحن كالصباح الجديد ِ
كالسماء الضحوك ِ كالليلة القمراء , كالورد ِ كابتسام الوليد ِ
أو قال وهو يحدثنا بلسان المدنف الولهان :
فإذا وجـدت ُ لها وساوس سلـوة ٍ
شفع الضميـر إلى الفؤاد فسلهـا !
ثالثا : مخارج الحروف وصفاتها :
لعل مستغرب يستغرب هذا العنوان قائلا : ماشأن مخارج الحروف وعلوم التجويد بالشعر والبلاغة والنقد !
وهذه غفلة عن أهم أسس تعاريف الفصاحة في علم المعاني ,
ألاتحسون معي وأنتم تقرأون قول الدكتور في البيت المشار إليه : وأركضته ُ ثقلا !
فقديما أخذوا على امرئ القيس قوله : مستشزرات ٌ في معلقته :
غدائره مستشزرات إلى العلا , تضل العقاص في مثنى ومرسل ِ
حيث يصف شعر حبيبته بالطول والارتفاع سواء كان مرسلا على ظهرها أم كان معقوصا أو ملفوفا إلى أعلى , وكيف يضل المشط طريقه للخروج من كثافة شعرها وغزارته !
فقالوا : رغم جمال البيت إلا أنه بيت غير فصيح ! بسبب لفظة واحدة مستكرهة ثقيلة على اللسان وهذا بدوره أنقص جمال البيت كما يقرر الدكتور عتيق !
فمخارج الحروف أحبتي كلما قربت كانت الألفاظ قلقة ً غير مستقرة في مكانها وإذا بعدت كانت بعكس الأول , ومايقال على مخارج الحروف يقال أيضا على صفاتها ! فلو تأملت تقارب صفة حرف الضاد وحرف الكاف وحرف التاء , لعلمت سر هذا الثقل في هذه الكلمة : أركضته ُ فما إن يرتفع اللسان إلى أقصى الحلق محققا مخرج الكاف إذ به يفاجأ بانحراف حافته اليسرى من الحنك الأعلى حتى يـُبهت بطرفه بمخرج التاء مع ماقبل الثانيا العليا .. فاشتراك هذه الصفات وتقاربها أحدث لها هذا القلق وهذا الثقل !
يقول الدكتور شوقي ضيف في نقد الشعر وأصوله :
وفي علم التجويد من هذه الخصائص ذخيرة , حري بشعرائنا أن يفيدوا منها إذ يقفون على حروف التفخيم والترقيق والحروف الرخوة والمهموسة والمجهورة ثم يقول : وما من ريب في أن الشاعر المجيد إذا أتقن كل هذه الجوانب يستطيع أن يمثل لنا معانيه في أصوات كلماته ورناتها , فإذا كان غاضبا أحسسنا في كلماته كأنه يضرب بقلمه على قرطاسه , وإذا كان حزينا أحسسنا في كلماته بالأسى العميق , وإذا وصف عاصفة أحسسنا في كلماته باهتزازات الأشجار وتموجات المياه , انتهى كلامه رحمه الله .
الأدب والمتعة والتسلية :
أمر آخر أخي أود أن أشير إليه , كثيرا ما أسمع منك هذه المقولة : أننا نريد من الشعر المتعة والتسلية فقط ! إن مثل هذه المقولات لهي من أعظم المصائب التي منينا بها اليوم , يقول العقاد في كتابه مطالعات في الكتب والحياة : إن من الخطأ النظر إلى الأدب كأنه وسيلة للتلهي والتسلية فإنه أس الأخطاء جميعا في فهم الآداب ...
فاعتبار الأدب ملهاة وتسلية هو الذي يصرفه عن عظائم الأمور ..
واعتبار الأدب ملهاة هو الذي يرفع عن الشاعر كلفة الجد والنظر الصادق ! انتهى
إن الأدب بفهومه الشامل يتعلق بأدب القرآن الكريم , فحين نزول القرآن الكريم , كان العرب أساطين البيان , وكانت لديهم تعابيرهم الأخاذة وأساليبهم الرائقة , فكان نزول القرآن في هذه الأجواء وفي تلك الفضاءات الساحرة ( إن من البيان لسحرا ) جريا على عادة العرب في التمثيل والتشبيه والاستعارات والمجازات وفي دقائق اللفظ وفي لطائف الإشارات والإيماءات وفي براعة الاستهلال وحسن الختام إلى غير تلك المواضيع والتي تمثل جميعا أدب أمة قائمة , يتعلق في عنقها شأن هذا الأدب , فالأدب هوية الأمة ! وهل رأيت أمة نهضة بدون هوية ؟!!
فالشاعر حين يخطئ في تشبيه ما , لاآتي وأربت ُ على كتفيه قائلا : لابأس عليك إنما الأدب من أجل المتعة والتسلية ! وإنما أبصره بتشابيه العرب وتآصيل القرآن الكريم ! لذا فإن الشاعر المجيد يفرح بالنقد , لأن النقد لديه هو المتعة الحقيقية !
فهل ترى أنت أن أدب القرآن الكريم وثقافة القرآن الفنية , تسلية ومتعة ً ؟!! أم أنها مسؤولية لابد لها من إدامة النظر ومتابعة الدرس ؟!!
ولقد نقلت ُ في بطلان من يعتبر أن الأدب للمتعة والتسلية كلاما لناقد كبير وأديب عبقري صاحب العبقريات وإمام المدرسة الرمزية في الأدب الحديث : عباس محمود العقاد وأشرت ُ إلى اسم كتابه , ألا يكفيك كلام العقاد يارجل ؟ !
أرجو أحبتي أن أكون قد وفقت ُ !
[/SIZE]