"وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحكْمَةَ وَفَصْلَ الخطَاب".1.
"فَقَالَ أَكفِلْنيهَا وعَزَّني في الخطَاب".2.
ولئن كانت كلمة خطاب تستوحي معناها من الآيتين الكريمتين؛فهي لم ترد في المعاجم العربية إلا لتدلّ على الكلام.3.
ويفسر الّزمخشري "فصل الخطاب"بأنه:" الكلام المبين الدال على المقصود بلا التِباس".4.والكلام المبين معلوم بالفصاحة ؛واجتناب الغموض والإبهام.فحدثت هنا مقاربة دلالية بين الكلام والخطاب.والآمدي شرح الكلام بأنه خطاب.وابن جني يعرِّف الكلام بأنه لفظ مستقل بنفسه؛مفيد لمعناه.وتشكلت عبر معنى الخطاب المعجمية مفهوم الخطاب كمصطلح استقطبته الدراسات النقدية الحديثة؛وتداوله نقاد العرب المعاصرين بفعل الاحتكاك الغربي؛ورغبة منهم في تجاوز القديم؛بحثا عن الجديد.
أما " نص"؛فقد ورد نصّ الحديث ينصّه نصا.رفعه وكل ما أظهِر فقد نُصَّ.
ونصّ المتاع نصا : إذا جعل بعضه على بعض.ونصّ الرجل نصّا : إذا سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.ونص الشيء : منتهاه.ونصّ العروس إذا وضعها على المنصّة لتُرى.
والنّصّ والنّصيص هو السير الشّديد والحثّ ؛وأصل النّصّ هو أقصى الشيء وغايته.5. وقد ورد تعريف اصطلاحي في القاموس الجديد للطلاب:"هو الصيغة الأصلية ممّا ينتجه المؤلف مالا يحتمل إلا معنى واحدا؛ولا يحتمل التّأويل؛منتهى كل شيء؛وعند الأصوليين هو الكتاب والسنة".6.
أما الزمخشري فقد أحال النص إلى الارتفاع والانتصاب؛والماشطة تنصّ العروس فتقعدها على المنصّة؛وهي تنص عليها أي ترفعها ؛ونصصت الرجل إذا أخفيته من المسألة ورفعته إلى حدّ ما عنده من العلم حتى استخرجته.7.
وبعد رصد كلمة" نص"في أهم المعاجم العربية ؛اتضح أنها تدل على :الانتصاب والارتفاع والظهور ؛وبلوغ المنتهى والحركة .والشافعي من قدامى الأصوليين الذي رأى بأن النص هو :"خطاب يُعلم ما أريد به من حكم سواء كان مستقلا بنفسه أو عُلِم المراد به نافيا الاجتهاد في النصّ وقابلا الاجتهاد من النص".8.للدلالة هنا أن النص هو الكلام الواضح البيِّن المفهوم الذي لا يقبل التّأويل.
أما النّص والخطاب في الأدب الغربي فتعني:الحفر.فالخطاب في معجم اللسانيات"جان دي بوا".jean du bois يعني الكلام.9.والنص في اللسانيات أيضا رديف texte ويعني النسيج.10.
ويدل اصطلاحا على مجموعة من الكلمات تؤلف تعبيرا لغويا.أما قريماس وكورتيس في معجمهما السيميائي المعقلن ؛فمصطلحي خطاب ونص مترادفين وفق معنى واحد؛واعتبرت السيميائية الخطاب عبارة عن جهاز ذي مستويات ؛الواحد فوق الآخر.11.
وفي المعاجم اللغوية الموسوعية الفرنسية discours من أصل لاتيني discursis والنصtexte يطلق على المتن؛جمع متون.12.
والنص هو حُلّة رفيعة المضامين بما تحويه من أفكار وقيم وحركية تساير الزمن والأذواق سائدة بأثرها و تأثيرها؛ استقصت جميع تفاصيل وجزئيـات معاني الموضوع ...
يطلق النص على كتاب القدّاس وتعني منذ العصر الروماني ترابط بالحكاية أو نص فأخذ النص صناعة النسيج مفهومه الأدبي وصار منظومة لغوية ذات علاقات مكتوبة أوشفوية.13.
وذهبت "جورج مونان" إلى اعتبار النص رديف المتن ورديف الملفوظ حيث تقول "لايعني إلا وثيقة مكتوبة وحدها بل كل المتون التي يستعملها اللغوي أوالألسني."14.
ميشال فوكو جزم بأن الخطاب لايكون إلا منظومة لغوية أو فكرية وتعددت التعريفات منها: " النص هو ما ينقرئ فيه الكتاب وتكتب فيه القراءة." 15.
ويرى "بول ريكور"paul ricoeurأن النص خطاب ثبتته الكتابة.16.وقد أقرّ "رولان بارث" مصطلح النسيج.17.
لقد عُرِّف النص تعريفات عديدة تحمل التوجّهات النظرية والمعرفية ومنهاجية بنيوية واجتماعية و أدبية و نفسانية ،ويعتبر محمد مفتاح في كتابه "التشابه والاختلاف " أن هذين المفهومين إشكال نال حظا وفرا أو قليلا من المهتمين بنظرية الأدب ونظرية القرءاة بمختلف تجلياتها؛النص والخطاب؛ نظريات تحليل الخطاب؛ ونظريات التلقي 18.
الفرق بين المعاني العربية والغربية للمصطلح "نص":
ولئن كان النص قد استحوذ على مفهوم المنتوج الإبداعي الفني ،ولئن كانت اللغة هي جوهر العملية الإبداعية، ولئن صار مصطلحا عالميا في جميع اللغات إلا أننا نستشف فارقا طفيفا لكنه حاسم في فصل النص العربي عن الأجنبي .إذا كانت اللاتينية قد استوحته من النسيج للدلالة فقط على نسقية لحمته؛وترابط أجزائه بإحكام ؛ وانسجام أواصره ليشكل كلا متكاملا. فإن الأدب العربي استرفده من معاني الانتصاب ؛ والارتفاع ؛ و الظهور؛ وبلوغ المنتهى ليضيف إلى حسن جودة حبك نسيجه جماليات الاكتمال القويم بالانتصاب والتميز بخروجه من مألوف الاستواء إلى الرفعة و الظهور؛ واستقصاء جميع الجزئيات و التفاصيل و التوغّل في عمق المداليل ببلوغه المنتهى .وكأن هذه المعاني العربية المجردة التي تشرح النص تنسكب في القالب المحسوس عبر البلاغة الأخّاذة، الآسرة، الأنيقة، في تباين المعاني.فارتبط عند العرب "النّصّ "بالرّقيّ المعرفي والبلاغي الجمالي ،وما يثيره من متعة تجلب الرّغبة في القراءة.
وكأنّ الذائقة العربية لا تستسيغ النصوص العادية ولا تنقاد متفاعلة إلا مع الجمال الفني في تطابق الأشكال مع المضامين ؛وهذه طبيعة عربية تميزت بها ..
وكأنّ الغرب حينما يفسر النص بالنّسج مطلقا لا يميّز نوع المنسوج فلا يبتعد التعريف عن فترة عملية الإبداع ،عكس المفهوم العربي الذي لا يتحدث عن عملية الإبداع نفسه وكأنها بلغت منتاها الذي ينبغي أن تكون عليه من ظهور ورفعة. يبدو أن المعنى المعجمي العربي تطابق مع المفهوم الأدبي لمصطلح" نص" :"والنص في كل ذلك ضرب من السير وصفت العرب به خبب الدابة حين يحملها صاحبها مالا تطيق من الركض و الجري".19.
فلننظر إلى ذلك الانزياح اللغوي العجيب من الدلالة و الوظيفة في السير الحثيث المتسارع للدابة؛ المطابق لوظيفتها المسخرة لها في الحلّ والتِّرحال الذي يجب أن تبذل فيه أقصى طاقتها لتختصر الزمن ،و المسافة، وتبلغ الغاية بصرامة إلى تشكيل مفهوم الكتابة والإبداع الذي تنتقل فيه الوظيفة من القوة البدنية إلى القوة الذِّهنية التي هي مركز تفضيل الإنسان وتكريمه :"اللسان هو مجموعة القواعد النحوية والصرفية ،والألفاظ المعجمية الأولية الدلالة ،أو ذات الدلالة العامة التي يغترف منها جميع الأدباء والكتاب."20.
فاللغة الأدبية لها خصائص الدلالة والأسلوب.و المبدع يعتصر، يستحضر كل طاقته الفكرية ؛يتجرد للموضوع؛ يلج باطنه؛ يستنطق تفاصيله وجزئياته ؛يسترفد الشاهد من معانيه؛ يستقصيها من أعماقها حتى لا يترك ثغرة في النسيج النصي ؛ويكسوه بالحُلّة الجميلة التي تطبعه بطابعها الفني ؛فيسمو بمضامينه وأشكاله عن المألوف ؛ويترفع عن المعتاد ؛فيظهر على منصة اللذة في تحفة العروس؛ويستقطب الأنظار ؛ويشدّ الآذان؛ليكتمل مشهد الانبهار في اللفظة وصورها وإيقاعاتها :"فاللغة الأدبية كأنها المعجم الفني الذي يصطنعه كاتب من الكتاب...ومثل هذه اللغة هي التي تحدِّد طبيعة التفرد التي يتفرد بها كل أديب عملاق.".21
وقد فرضت المناهج النقدية الحديثة مصطلحاتها الخاصة بها ؛وابتكرتها لتناسب أدواتها الإجرائية المطبقة على النصوص."العملية الإبداعية "؛"العمل الأدبي"؛"الأثر الأدبي"؛تستخدم هذه المصطلحات في المناهج السياقية الممثلة في النفسي والتاريخي والاجتماعي:"كان لمدرسة التحليل النفسي الفرويدية الريادة في تحليل الآثار المبدعة".22"فهو لا يفصل بين الأدب والإنتاج الأدبي والفرد".23 "انطلاقا من الأثر الأدبي"24"دراسة العمل الأدبي25."."وربط العمل الأدبي بما يتناسب مع روح العصر."26
أما مصطلح خطاب ونص؛فسنجده في المناهج النسقية التي تعني البنيوية وما بعد البنيوية .
إحـــــــالات :
1ـ 2ـ المصحف الشريف:ص 19/22.
3ـ الشافعي :الرسالة.تحقيق وشرح محمد شاكر.المكتبة العلمية"د.ت"ص.15.
4ـ الزمخشري: أساس البلاغة.ص.459.
5ـ جمال الدين أبو الفضل:محمد بن مكرم:ابن منظور .لسان العرب.منشورات علي بيضون.دار الكتب العلمية.بيروت.لبنان.المجلد السابع.ص.109.
6ـ مجموعة مؤلفين:القاموس الجديد للطلاب.معجم عربي ألفبائي.قرطاج.تونس .الشركة التونسية للتوزيع.الوطنية الجزائرية للنشر والتوزيع.ط1..1997.ص.1225
7ـ محمد أديب صالح:تفسير النص في الفقه الإسلامي.ج1.ص.341.
8ـ الشافعي: الرسالة.ص.14.
9ـ jean du bois et autres .dictionnaire de linguistique./discours/.p.57.
10ـ encyclopidique.op.cit.p.444. dictionnaire
11ـ a.j.greimas et j.courtas.sémiotique.dictionnaire raisonné.op.cit.p.102.103.
12ـ j.b.belot.dictionnaire français.arabeimprimerie catholique.beirouth.libraire.p.679.
13ـ le grand robert de la langue française.toure.IX.paris.1985.p.272.
14ـ george mounin.dictionnaire de linguistique.ol.cit.p.23.
15ـ رشيد بن حدو:قراءة من قراءة.مجلة الفكر العربي المعاصر.عددك48/49.1988.ص.13.
16ـ عز الدين المناصرة:نص الوطن ووطن النص.شهادة في شعرية الأمكنة.مجلة التبيين.العدد.01.ص.40.
17ـ رولان بارث: لذة النص.ترجمة محمد الرفرافي ومحمد خير بقاعي.مجلة العرب والفكر العالمي.العدد.10.1990.ص.35.
18- محمد مفتاح: التشابه والاختلاف ص33.
19ـ أ.د.حبيب مونسي: مفهوم الاستقلال ورؤى المستقبل في أول خُطبة للبشير الإبراهيمي :محاضرة ألقيت في الملتقى الوطني للمجلس الأعلى للغة العربية.الجزائر.01/06/2009.
20ـ 21ـ عبد الملك مرتاض:في نظرية النقد.ص.170
22ـ د/ محمد بلوحي : آليات الخطاب النقدي العربي الحديث في مقاربة الشعر الجاهلي.منشورات اتحاد الكتاب العرب .دمشق.2004.ص:71.
23ـ 24ـ 25ـ أ.د.حبيب مونسي:ـنقد النقد .المنجز العربي في النقد الأدبي.منشورات دار الأديب.وهران .الجزائر .2007.ص:97ـ96
26ـ د.وليد قصاب:مناهج النقد الأدبي الحديث.دار الفكر .دمشق.2007. ص41.