رن الهاتف رنة تعكس حالة البلد المنهكة, فرحت مسرعاً للرد بمعنويات شاب يتطلع إلى التغيير, إلى مستقبل أحسن, وإلى ... وإلى... .
كان المتكلم رئيس تحرير إحدى الجرائد الوطنية, خاطبني قائلاً: هل أنت مستعد لمساعدتنا؟؟ هذه فرصة ليعرفك قراء هذه الجريدة !.
ضحكت, لأنني عرفت أنه يلمح إلى عمل دون مقابل, أو استغلال صحفي لمن هم في بداية المشوار بدعوى "التأطير" و"الدفعة الأولى".
أجبته: تفضل يا أستاذ, ما هو هذا العمل؟
فقال بلهجة رقيقة أحسست أنه ينحي معها: تغطية حفل ختان مولانا وسيدنا ولي العهد الحسن الثالث. فالحفل مقام في مدينتك, لن يكون العمل شاقاً!.
قهقهت ثم أردفت: لك ما أردت يا عبد مولاك, سيدك. لكن يجب أن تعرف أن التغطية ليست سهلة كما قلت.
ثم شرد فكري في عوالم "عدل الإسلام" و"ديمقراطية روسو", لعلي أجد فيهما شيئاً يدعى خوف الحاكم من المحكوم أو طاعته على الخطأ. لكني لم أجد إلا عمر بن الخطاب يصيح " أخطأ عمر وأصابت امرأة" وروسو يقول بلهجة ديماغوجية شعبوية «الشعب من يحكم حاكمه وليس العكس".
تذكرت أن ابن خلدون تحدث عن ترف الأسرة الحاكمة وفتح لهذا الموضوع باباً عريضاً في مقدمته واعتبره – ربما - حقاً, لكني ناجيت نفسي: لكن حاكمنا ليس ككل الحكام, فقد وقعنا معه "عقداً اجتماعيا" حددنا فيه أنُ لا ضرر ولا ضرار. وبما أن الملك قد هدم ركناً من أركان اتفاقنا ألا وهو عدم ابتزاز الطبقة الكادحة بإقامة مثل هذه الحفلات المكلفة, فإنني سأدك بنداً آخر لأنني سأمرر كلاماً ذو معنى بأدبيات تلميحية ( وقد منعنا هذا حسب العقد الموقع).
أغلقت باب منزلنا بعدما حملت آلة التصوير ووضعتها مع كناشي في محفظتي المدرسية على ظهري. وانعطفت يميناً متذكراً قوله تعالى:" وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم لا بارد ولا كريم".
قصدت ساحة أبي الجنود, فمنها ستنطلق الاحتفالات: رجال الأمن بالملايين منهم من يلبس البذلة التقليدية المخيفة, وآخر يلبس مدنياً للتربص بـ"مغفلين" يتحدثون في السياسة. المطافئ ورجال الإسعاف, فرق الفلكلور حجت من كل حدب وصوب للمساهمة في الحدث الذي قامت له الدنيا ولم تقعد: توقفت الدراسة والتجارة, في كل الوطن, ثلاثة أيام لأن جلدة من جسم إنسان ستقص على الطريقة المعهودة. فما بالنا بآلاف الآدميين تبتر أيديهم وأرجلهم بغير حق وعلى طرق غير معهودة.
التقيت برهط من أصدقائي عند باب مدرستنا بالساحة ذاتها, فأخذتهم معي في جولتي. عبرنا " ساحة بوجلود" وقد انقلبت فيها آية الأطفال المشردين ذوي الأوجه المفحمة إلى أطفال أوربيين وجوههم تسطع نوراً لكنه كان مصطنعاً.
وسط الزقاق الضيق الممتد من "الطالعة الصغرى" حتى الأدراج المؤدية إلى الضريح الإدريسي وضعت رمال شاطئية تم استقدامها من بعيد -فمدينتنا داخلية- لكي يسير عليها جواد صاحب الفخامة وهو يحمل ابنه المبرور, الجميل صراحة.
على نفس الزقاق, منازل على وشك السقوط مدعمة بقطع خشبية تشوه المنظر الخارجي للمدينة, تم تغليفها بثوب رفيع, غال الثمن ( هكذا سمعت امرأة خبيرة تقول)... . ونصبت خيام زينت بمصابيح.
خرجت لتغطية صحفية كنت سأكتب بعدها تقريراً أجمع فيه "تهاني المواطنين" والأجواء السعيدة السائدة مع وجود فرق الموسيقى التي استقدمت خصيصاً لتحويل الأنظار عن أشياء أخرى, لأجد نفسي أضع الخطوط العريضة للنص الذي أقدمه لكم الآن.
ما أثار انتباهي خلال الجولة هو ذلك التواضع الذي أزكم أنف وزير الداخلية ومدير الأمن الوطني لديه حتى راحا يتجولان دون حرس. وحتى الأميرات الجليلات وطأت أقدامهن أرضاً يمشي عليها أناس لا يجدون لقمة عشاء لليال طوال. والغريب أن هؤلاء الناس صرخوا هم الآخرون وهللوا وباركوا للملك حفل نجله. شعب طيب فعلاً.
دخلت البيت وعلامات الأسى قد أشحبت وجهي المصفر دائماً من شدة الهموم. قابلت شاشة حاسوبي للشروع في التحرير, وفجأة, سمعت سلسلة انفجارات ضخمة هزتني من مقعدي. اعتقدت حينها أن الأمر يتعلق بـ"عمل تخريبي" أو "انتفاضة شعبية". صعدت إلى السطح فإذا بألوان قوس قزح ترسم على عيني لوحة تشكيلية تباع بالملايين. لم يكن الانفجار الأعظم إلا صوت الألعاب النارية, ختام الاحتفال لهذا اليوم. ونهاية الأمل بالنسبة لي. ربما سأعاود تحرير عقد اجتماعي آخر, لكني مازالت أحتفظ بالملكية كمؤسسة سياسية صالحة للحكم في المغرب.
فيا محمد السادس, أطال الله في عمرك. كما ركلت العقد الاجتماعي الموقع بيننا فإنني أنا الآخر ضربته بعرض الحائط. المسار الذي نمشي فيه مظلم للغاية فلتعد النظر في الترف, الشعب مشرذم ولا يخدعنك نفاقه ونفاق الرجالات المتواجدين على جوانبك. فمن تعتبرهم أصدقاء دراسة يدعمون عرشك اعتبرهم ابن خلدون قبل مني, من المساهمين في خراب الحكم وانهيار دعائمه.

1- الزعت: كلمة بالعامية المغربية تعني الفراغ واللاشيء والكذب حتى.