أحدث المشاركات
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 18 من 18

الموضوع: إدارة التنوُّع في سورية

  1. #11
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    1. تشويه آليات تشكل النخبة
    تنشأ في المجتمع، أي مجتمع، آليات معينة يتمكن المواطنون من خلالها استثمار مواهبهم ومقْدِراتهم الذهنية أو الحِرَفية أو الجسدية، سواء أكانت هذه المقدرات فطرية أو مكتسبة، ليتوصلوا إلى احتلال مواقع رفيعة في المجتمع، تشكل في مجموعها النخبة الاجتماعية. هذا يعني أن المواطنين الذين يشكلون النخبة يتمايزون بفضل قيم يتواضع عليها المجتمع ويقبل بها، وذلك على أساس المساواة التي تفترضها المواطنة والتي تمنح للجميع نفس الدرجة من الحقوق، ومن الحظوظ.
    تنتمي هذه الآليات، في قسم منها، إلى المجتمع المدني وتندرج في سياق الحركية الطبيعية للبنى والمؤسسات والمنظمات التي يتشكل منها هذا المجتمع، لكن القسم الأكبر منها يخضع لسلطة الدولة التي يتوجب عليها أن تتحكم فيها وتسيِّرها وفق المصالح العليا للبلد. وفي الحالة الطبيعية يتكامل هذان القسمان بحيث يتكفل كل منهما بفرز النخب الخاصة في مجاله، وفي الكثير من الأوقات تقوم أجهزة الدولة بامتصاص جزء كبير من النخب التي يفرزها المجتمع المدني للاستفادة من مقدراتها، المعترف بها، في عملية تسيير مرافق الدولة.
    تؤمِّن المواطنة، في الحالة الطبيعية، الأسس القانونية والعملية لآليات تشكل النخب. إذ تتكافأ فرص المواطنين جميعًا ويتساوون في الحقوق والواجبات فلا تتدخل عوامل تمييز على أساس الانتماء إلى هذا المكوِّن أم ذاك في عملية التشكل تلك. غير أن المتابع لسلوكيات النظام في سورية لا يمكنه إلا أن يلاحظ إلى أي مدى شُوِّهت تلك العملية سواء على صعيد مؤسسات المجتمع المدني (وسائل الإعلام، المنظمات الجماهيرية، الأندية الرياضية...) أم على مستوى أجهزة الدولة، وبشكل خاص المؤسسات صاحبة السلطة الحقيقية في البلد (الجيش والأجهزة الأمنية). وحسبنا هنا التذكير بهذه الأخيرة: الأجهزة الأمنية، التي تُظهر بشكل فاقع كيف أنيطت السلطة الحقيقية في هذه الأجهزة برجال ينتمون (غالبًا) إلى مكوِّن ديني واحد من المكونات الدينية العديدة. ويظهر أيضًا درجة استبعاد أتباع مكوِّنات قومية كاملة عن هذه السلطة.
    إن التدخل السلطوي في آليات تشكل النخب شوَّه تلك الآليات وخلق لدى المكونات المستَبعَدة شعورًا عامًا بالتهميش والإقصاء، مما أعطى للتصدعات المجتمعية الخامدة فرصة لتستفيق ولتحيا من جديد.

  2. #12
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    2. ازدواجية التعامل مع المكونات القومية
    رأينا في فقرة سابقة أن بالإمكان التمييز بين فئتين من المكونات القومية في المجتمع السوري: المكونات القومية المتأصلة في المكان، والمكونات القومية المهاجرة. وتظهر متابعة أوضاع هذه المكونات أنه مع وصول الأحزاب ذات الإيديولوجيا القومية العروبية إلى السلطة في سورية، وبشكل خاص بعد تفرُّد حزب البعث في السلطة، خضعت المكونات القومية لأسلوبين مختلفين من التعامل حسب أصل المكوِّن.
    فمن جهة، تحظى المكونات المنحدرة من هجرات أقوامية من خارج سورية بشيء من التسامح والحرية. فالأرمن والشراكسة مثلاً يستطيعون استخدام لغاتهم في الطباعة وفي الكتابة. وهناك مؤسسات دينية وثقافية تعود إلى الأقلية، فتؤمِّن تعليم اللغة القومية وتقدم خدمات متعددة تهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي الخاص. بل ثمة مدارس أيضًا، مؤممة طبعًا مثل أغلب المدارس الخاصة العريقة (أي الموجودة قبل عهد بشار الأسد)، تعود لتلك المؤسسات.
    أما من جهة أخرى، وعلى العكس من ذلك تمامًا، تُمنع الأقليات المتأصلة فوق الأرض السورية من إشهار خصائصها الثقافية القومية بشكل ممأسس. ومن أغرب الأمثلة على ذلك قضية التعامل مع اللغة الآرامية. فالسلطات السورية المتعاقبة كانت دائمًا تبالغ في إبراز هذه اللغة كمَعلم ثقافي جاذب للسياحة الدينية المسيحية، لكنها في الوقت نفسه ماطلت عقودًا طويلة قبل السماح بتأسيس معهد خاص لتعليم هذه اللغة، أو بنشر معجم آرامي-عربي.
    وقد عانت الأقلية الكردية أكثر من أي مكون اجتماعي آخر في سورية من سياسة القمع القومي، فمن حرمان عشرات الآلاف من الكرد السوريين من الجنسية، إلى نقل المواطنين الأكراد المقيمين على طول الحدود مع تركيا إلى مناطق تبعد من 10 إلى 15 كم في عمق الأراضي السورية واستبدالهم بمواطنين سوريين عرب في ما عرف وقتها بمشروع "الحزام العربي"، إلى القمع الممنهج والمستمر لكل مبادرة لإحياء الثقافة الكردية الخاصة بما في ذلك الاحتفالات السنوية بعيد رأس السنة الكردية (النيروز) أو الغناء بالكردية في الأماكن العامة... كلها نماذج لسياسة واحدة تهدف إلى قمع التعبير القومي للأقليات المتأصلة.
    إن التساؤل عن أسباب هذا الاختلاف في تعامل السلطات مع الأقليات القومية بحسب أصولها تساؤل مشروع. ولعل الإجابة الوحيدة هي أن القوميات المهاجرة لا يمكنها أن تشكل خطرًا على وحدة الأراضي السورية، لأن مرجعيتها تقع بعيدًا عن حدود الوطن، في حين أن المرجعية السياسية والحضارية للأقليات القومية المتأصلة تقع داخل الحدود، وأي مبادرة قومية استقلالية قد تؤدي إلى المطالبة بالأرض القومية، أي إلى خطر المطالبة باقتطاع جزء من أرض الوطن. هذه الأساليب في التعامل مع الأقليات القومية تكشف فشل السلطة في سورية في صياغة وطن لكل مواطنيه على حد سواء، وطن مبني على أساس المواطنة وليس على أساس الاستبداد، وتبرز وجها آخر من أوجه سوء إدارة التنوع.

  3. #13
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    3. المحاصصة المستترة
    لم تغب عن السلطة السورية يومًا مسألة الفسيفساء السورية، مع أنها لم تفصح البتة عن اهتمامها بأمرها. وقد بنت السلطة صورة الوحدة الوطنية المستقرة من خلال التظهير الكثيف لأسطورة علمانيتها النسبية المستقاة من مبادئ حزب البعث الحاكم. فعلمانية البعث التي تفصل الدين عن الدولة كان يفترض بها أن تصون السلطة التي هيمن عليها الحزب من الوقوع في مطبات المحاصصة (الطائفية على الأقل). لكن في الواقع، ومن خلف الصورة السطحية للأشياء، تصبح المحاصصة قانونًا غير مكتوب (عرفًا) تلتزم به السلطة في بناء مؤسسات الدولة (باستثناء المؤسسات صاحبة السلطة الحقيقية). ما من مجلس وزاري، أو مجلس شعب، أو مجلس بلدي... تشكل في البلاد إلا وكانت المحاصصة في خلفيات تشكيله. ففي كل وزارة نجد بالضرورة نسبة ثابتة من الوزراء ينتمون إلى هذه الطائفة أو تلك، أو هذه القومية أو تلك. بل كانت بعض الوزارات، وخلال فترة زمنية طويلة، موقوفة على هذه الطائفة أو تلك. فقد بقي وزير السياحة مسيحيًا لزمن طويل كما بقي وزير الإعلام علويًا وواحد من وزراء الدولة إسماعيليًا[3].
    تمثل المحاصصة المستترة شكلاً من أشكال التدخل الفوقي في تشكل النخب السياسية السورية، وقد يرى فيها بعضهم حلاً سياسيًا ناعمًا وعمليًا لتمثيلية المكونات المجتمعية في الدولة، لكنها في الحقيقة مثال فاقع على سوء إدارة التنوع. فالمحاصصة عملية تقوم على نظرة عامة إلى المجتمع كمجموعة مكونات يجب مراضاتها بتوفير تمثيل لها في السلطة، متناسب مع أحجام هذه المكونات. إنها، بتعبير آخر، طائفية سياسية تمايز بين المواطنين على أساس انتماءاتهم الطائفية والعرقية وليس على أساس مواطنتهم. بل هي الشكل النقيض تمامًا للمواطنة.
    للطائفية السياسية هذه مفاعيل سلبية على التعايش السلمي الواعي بين المواطنين، وعلى المواطنة بشكل عام، فالشعور باهتمام السلطة بالطوائف والمكونات يدفع المواطنين إلى العمل على اكتساب قيمهم الرمزية والفعلية في طائفتهم وليس في المجتمع ككل، وهذا ما يستلزم منهم أن يعملوا من خلال منظومة الطائفة، وخدمتها، ودعمها، باعتبار أنها الحامل الوحيد لتمايزهم، مما يحولهم بدورهم إلى أعضاء في طائفة وليس أعضاء في مجتمع. ناهيك عن أن "وصولهم" إلى أن يكونوا ضمن خيارات السلطة لاحتلال مكانة ما فيها يفترض عليهم الاهتمام بطائفتهم أولاً لأن لها عليهم دَينًا مستحقًا، آن أوان الوفاء به. إن السلطة بلجوئها إلى الطائفية السياسية، أو المحاصصة، لا تضرب عرض الحائط بالمواطنة القانونية والدستورية فحسب، بل تخلق حالة من التغريب لا يرى فيها المواطنون أنفسهم كمواطنين وإنما كأتباع طوائف.

  4. #14
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    4. أدوتة instrumentalisation التنوع
    يقصد من أدوتة التنوع استثماره من قبل السلطة لقضايا سياسية داخلية أو خارجية. وقد نجح النظام السوري في اللعب بالتنوع كورقة يشهرها حسب مصلحته السياسية. فتارة يَستخدم مكونًا اجتماعيًا معينًا للضغط والتأثير على موقف سياسي إقليمي، وحسبنا أن نذكِّر هنا بوضع المكوِّن القومي الكردي الذي طالما استُخدم كورقة ضغط في العلاقات مع تركيا، من خلال احتضان سورية لأحزاب كردية ثورية والسماح لها بتشكيل قواعد خلفية داخل الأراضي السورية؛ وتارة أخرى، يستخدم مسألة التعايش بين المكونات المختلفة ليسوِّق صورته كضامن لحرية الاختلاف. وضمن هذا السياق، ما من شخصية سياسية أو دينية عالمية هامة تزور سورية إلا ويكون في جدول أعمالها لقاء مع الفعاليات الروحية كممثلين عن طوائف مختلفة.
    هذا يعني أن مسألة التنوع تشكل بالنسبة للنظام ورقة رابحة يشهرها في سياقات مختلفة ليحقق منها مكاسب مرجوة، فهو إن أظهر بعض الأحيان اهتمامًا بهذه المسألة فليس لأنه يتعامل معها كقضية وطنية داخلية تحتاج إلى عناية خاصة، وإدارة واعية، وإنما كسلعة لها قيمة اعتبارية في سوق المضاربات السياسية.

  5. #15
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    5. المرجعية الأمنية
    تشكل الأجهزة الأمنية العمود الفقري للنظام السوري. تأسيسًا على هذه الحقيقة، ترجع أمور الحياة كافة إلى الأجهزة التي تصنع الصحو والمطر في البلاد. وهناك مراكز متخصصة بقضايا الطوائف كما هناك مراكز متخصصة بقضايا الأقليات القومية. وتلعب هذه المراكز دور الضابط الميداني للتنوع. فمراقبة أماكن العبادة، ومراقبة خطب الأئمة وعظات الرهبان، ومراقبة المصلِّين والمؤمنين، ومراقبة الحفلات الشعبية ذات الطابع القومي (عيد النيروز...) أو الديني (عيد الرابع، عيد مار جرجس، عيد الميلاد...) إلى ما هنالك من جوانب إيمانية أو ثقافية خاصة في الحياة، كلها تقع تحت ولاية هذه المراكز. في ظل هذه الولاية تُخنق الديناميات المجتمعية والقانونية الكفيلة بترتيب الاختلاف على أسس المواطنة والوعي الوطني لدى المواطنين لتحل محلَّها سلوكيات أو إجراءات أو ممارسات أمنية تسلطية، هدفها الأول احتواء أشكال التعبير ضمن حدود ما يسمح به المنطق الأمني للنظام.
    عرفت سورية في العقد الأخير عددًا قليلاً جدًا من المواجهات الاجتماعية التي اتخذت شكلاً طائفيًا أو أقواميًا سافرًا، لكنها عكست، رغم محدوديتها، صورة عن الاحتقان الطائفي أو الأقوامي الذي ينخر في جسد المجتمع السوري نتيجة لسوء إدارة التنوع. وكان أبرز تلك المواجهات ثلاث هي:
    أ*. مواجهات السويداء عام 2001: بدأت المواجهات بسبب خلاف بين رعاة أغنام من محافظة درعا ومزارعين من السويداء، سرعان ما أخذت المواجهات شكلاً طائفيًا بين الرعاة السنة والمزارعين الدروز. وقد بقيت الأحداث إحدى عشر يومًا سقط خلالها اثنان وأربعون قتيلاً من أهل السويداء أغلبهم سقط برصاص الأمن.
    ب*. مواجهات القامشلي يوم 12 آذار 2004: بدأت المواجهات في مدينة القامشلي على شكل مشادة بين جمهوري فريقي كرة قدم وكانت بمثابة الشرارة التي سرعان ما تحولت إلى ما صار يُعرف بعد ذلك بـ"انتفاضة الأكراد" في سوريا، وقد قامت خلالها تظاهرات ضخمة ساخطة فدفعت السلطات السورية قوات الأمن التي استخدمت الرصاص الحي لقمع المتظاهرين ومنع امتداد التظاهرات إلى مدن مجاورة أخرى. أدت تلك الانتفاضة إلى مقتل ما يقرب من أربعين كرديًا، واعتقال الآلاف، وتسببت بكثير من الدمار. ونتيجة للانتفاضة، تمت معاقبة المنطقة ذات الأغلبية الكردية، وتم استهدافها بمجموعة من المراسيم العنصرية، منها مرسوم عقاري يقضي بتجريد الأكراد من حق نقل الملكية العقارية، كما تم أيضًا تخفيض الميزانية المخصصة لمحافظة الحسكة.
    وفي عام 2008 حاولت قوات الأمن منع الأكراد من الاحتفال بعيد النيروز وأطلقت النار على الجموع المحتشدة فقتلت ستة عشر مواطنًا كرديًا. ثم تكررت الحادثة في العام التالي 2009 وقتل اثنان وعشرون مواطنًا كرديًا أيضًا.
    ت*. مواجهات مصياف آذار 2005: بدأت المواجهات على شكل مشاجرة عادية بين سائقي سيارات عمومية حول مسائل تتعلق بتنظيم العمل على الطريق الواصل بين بلدتين، لكن سرعان ما تطور الأمر ليأخذ شكل مواجهة طائفية بين مواطنين من الطائفة الإسماعيلية وآخرين من الطائفة العلوية.
    في كل هذه المواجهات تمت معالجة الأزمة بطريقة أمنية صرف، أي دون الرجوع إلى الأسباب العميقة المؤسسة لها، ودون الرجوع إلى القانون لمعاقبة المسؤولين، ليس فقط عن ارتكابها وإنما أيضًا عن التحريض عليها. كان منطق الأمن في معالجته للأزمات ثابتًا لا يتغير: السيطرة على الوضع من جديد، أما البحث في العمق عن أسباب انتفاض مواطنين ينتمون إلى مكوِّن اجتماعي محدد في هذه المنطقة أو تلك فكان دائمًا أمرًا مرفوضًا، بل ومستهجنًا. وبذلك لم يكن يُسمح بأن تبرز إلى السطح حقيقة مشاعر الناس وأفكارهم وإنما تُستبطن لتزيد من حالة الاحتقان المجتمعي الذي كان في أساس انطلاقة ثورة الكرامة.

  6. #16
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    6. المجتمع المضاد
    لم يأت النظام السوري إلى مواقع الحكم من خلال سيرورة طبيعية للحياة السياسية بما تفترضه من تنافس بين شخصيات وأحزاب وانتخابات، وإنما أتاها بواسطة انقلاب عسكري أطاح أصحابه بسلطة قائمة ونصَّبوا أنفسهم مكانها. ولذلك اجتهد النظام الذي لم يكن نتاجًا لقاعدة اجتماعية، اجتهد على خلق قاعدة جديدة تتناسب مع اعتباراته السياسية الخاصة. أي أنه بدل أن ينتجَ المجتمعُ السلطةَ أصبح هو نتاجًا لها. هذا الخلل البدئي في صياغة السلطة، وبالإضافة إلى ما يواكبه، بالضرورة، من تحوُّل في بنيتها نحو الشمولية والاستبداد، يخلق نوعين من التشكيلات: النوع الأول، وهو سياسي بالدرجة الأولى، يظهر في مؤسسات الدولة وبشكل خاص في الأجهزة المرتبطة بالاستبداد (الجيش، الأجهزة الأمنية....)؛ والنوع الثاني، وهو اجتماعي، يتجلَّى في الحواضن المجتمعية، سواء تشكلت هذه الحواضن من مكوِّنات ثقافية (أقوامية أو مذهبية) أم من جماعات اقتصادية (برجوازية تقليدية أو طفيلية).
    تلك الأجهزة وهذه الحواضن تشكِّل بمجموعها المجتمع المضاد الذي يقف بين السلطة والمجتمع ليكون الجسر الواصل بينهما من جهة والحصن الذي يحمي السلطة من المجتمع الحقيقي من جهة أخرى. في المجتمع المضاد تتحول الأجهزة الوطنية والمؤسسات المدنية إلى مؤسسات حماية للسلطة، لا يختلف في ذلك الجيش الوطني المؤسَّس على قاعدة حماية الوطن من شر أعدائه أو النقابات القائمة على مبدأ حماية المجتمع من السلطة.
    كل ما يتعلق بالمجتمع المضاد هذا مناقض للمواطنة. فلا تشكيله يحترم مبادئها ولا أعضاؤه يتشاركون بقيمها ولا قياداته يحترمون قوانينها. المجتمع المضاد طائفة، قد تختلف عن الطوائف القائمة في المجتمع من حيث أن تكوُّنها كان طبيعيًا في حين أن تكوُّنه جاء مصطنعًا، وأنها مكونات تحت وطنية وجِدت قبل تكون الدولة في حين أنه جاء في الدولة وقام على مؤسساتها، إلى ما هنالك من فروق لكن، مثله مثل أي طائفة، يقوم على الولاء المطلق للسادة القادة، وعلى ارتباط مصالح أعضائه عضويًا فالدفاع عن مصلحة الفرد فيه دفاع عنه بكامله، وعلى اعتبار المصالح الخاصة بالطائفة مصالح عليا "مقدسة"، وعلى حيازة وعي سياسي مشوَّه يرى في الأحزاب طوائف لا يرضى بوجودها إلا كأعداء أو كأتباع يجب إلحاقها به ويرى المجتمع الحقيقي طوائف متنافسة.
    هذا النظام/الطائفة يرفض، طبيعيًا، مقاربة المجتمع على أسس المواطنة لأن المواطنة تلغي وجوده لذا فهو يعمل على إبقاء التصدعات، بل وتعميقها، مغطيًا ذلك بخطاب شعبوي عاطفي عن "الوحدة الوطنية"، ومحققًا ذلك بإحكام القبضة الأمنية الخانقة على المجتمع المدني وعلى المواطنين.
    إن النظام السوري نظام طائفي. لكن بمعنى أنه نظام مبني على نسق طائفي وليس نظامًا لطائفة معينة. ولذلك فإن إدارته للتنوع في سورية لا يمكن البتة أن تكون إدارة صحيحة تجتهد على بناء علاقات مواطنة بين المواطنين والدولة وبين المواطنين بعضهم بعض، وتعمل على خلق نظم التعايش السلمي بين المكوِّنات الاجتماعية دينية كانت أم قومية. فالنظام الطائفي بهذا المعنى، يعمل، على العكس تمامًا، على إعادة إنتاج الاختلاف وعلى تعميق التصدعات لأن في ذلك بقاءه، وهو في النهاية وكأي نظام آخر، بل وأكثر من أي نظام آخر، لا يهتم بأمر آخر أكثر من اهتمامه ببقائه.

  7. #17
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    الثورة وإدارة التنوع
    قدمت ثورة الكرامة السورية إطارًا استثنائيًا لكشف الآليات التي يتَّبعها النظام السوري في إدارة التنوع، ولا يخفى على أي متابع يقظ لتطورات الأوضاع في سورية كيف اجتهد هذا النظام منذ البدايات الأولى للثورة لجرها إلى موقعين رفضتهما ولا تزال ترفضهما سنة بعد انطلاقها، ألا وهما العسكرة والطائفية. وفي سياق جهده هذا مارس النظام حملة تجييش طائفي منظمة، قامت على ثلاث سياسات:
    أ*. المطابقة بين مكوِّن ديني محدَّد (الطائفة العلوية) والنظام. وقد تولَّت أجهزة الأمن، وبشكل خاص القوات الموازية لقوات الأمن النظامية أو ما يعرف باسم الشبيحة، تنفيذ هذه السياسة القائمة على الترهيب الميداني المصحوب بإشارات ذات مرجعية طائفية واضحة. ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك إرغام المعتقلين أثناء التعذيب على النطق بعبارات إيمانية خاصة بالطائفة، أو بإهانة معتقدات الناس كإرغامهم على السجود لصورة الرئيس...
    ب*. الربط بين استمرار وجود بعض المكونات الدينية في البلاد (المسيحيون والدروز) وبقاء النظام، الذي صوَّر نفسه حاميًا وحيدًا للأقليات. وقد اشتغلت وسائل الإعلام الرسمية على تضخيم الصورة التي ما فتئ النظام يقدمها عن نفسه كضامن للاستقرار. وساعد في هذا الأمر دون شك موقف القيادات الروحية الكنسية التي أعلنت بصوت عال ولاءها للنظام خشية على المسيحيين من البديل المفترض، والمقصود هنا بالطبع القوى الإسلامية المتشددة.
    ت*. تطييف الثورة من خلال ربطها بأطراف متشددة داخل المذهب السني (السلفيين، القاعدة...). وقد جهد النظام لإظهار التفاف المؤسسة الدينية الرسمية حوله عن طريق التركيز الإعلامي على مواقف المشايخ الموالين. لكنه، من جهة أخرى، لم يدَّخر وسعًا في وصم الثورة بالسلفية والتشدد الإسلامي. والحقيقة أن قوى سياسية وإعلامية منتشرة في العالم الإسلامي قد ساعدت في عملية التطييف هذه من خلال استخدامها لخطاب طائفي متشدد ضد كل ما لا ينضوي تحت العباءة السنية. يكفي أن نذكر في هذا السياق الدور الكبير الذي لعبته بعض القنوات الفضائية في التركيز على بعض الشيوخ المتشددين، ذوي الحضور الجماهيري المؤكَّد، ممن يبثون خطابًا شعبويًا مشبعًا بالعنف.
    تؤكِّد السياسات التي حكمت تصرف النظام إبان الثورة ما ذكرناه عن أسلوبه في إدارة التنوع، فهو شجَّع وقوَّى وعمَّق التصدعات الموجودة أصلاً في المجتمع. بل وعمل على نقل الاختلاف من وضع الاحتقان الكامن إلى وضع الاحتراب المعلن، والعسكرة أخطر ما في عملية النقل هذه. لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه عن أحداث طائفية مسلحة هنا أو هناك، ناهيك عن الخطاب الطائفي الذي صار شائعًا بين الجميع. والخطر ماثل أمام أعيننا في اندلاع اقتتال طائفي واسع النطاق يؤدي إلى خراب البلاد. ولا مناص أمام السوريين من شحذ عقولهم لاجتراح حلٍّ يمنع ذاك الاقتتال وينقذهم من هذا الخراب. لا مناص أمامهم من فقء دمَّل الطائفية التي تزايدت أدرانها بسبب سوء إدارة التنوع خلال العقود الماضية. وأظن شخصيًا أن هذه المسألة ستكون أهم ما سيواجهه السوريون بعد الخروج من الأزمة الحالية، أيًا كان الباب الذي سيتاح لهم الخروج منه.

  8. #18
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    الدولة : مصر
    العمر : 44
    المشاركات : 250
    المواضيع : 45
    الردود : 250
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    تصوُّرات
    كيف سيتسنى للسوريين عيش تنوعاتهم على أساس قيم المساواة والتعايش والقبول بالآخر؟ إنها قضية ليست بالسهلة أبدًا، فهناك ممارسات وطبائع تكرَّست خلال العقود الأربعة الماضية كما أن هناك احتقانات وأحقاد ترسخت خلال الأشهر الماضية ولا يمكن تغييرها بالنوايا وحسن الكلام وإنما تحتاج إلى جهد مشترك وإلى عمل شاق وطويل. ونعتقد أن من أولويات ما يجب عمله في هذا الميدان:
    تفكيك النظام الطائفي (بالمعنى المذكور آنفًا): وهذا الأمر يتجاوز مسألة الانتهاء من النظام السياسي الحاكم حاليًا، ويتعدَّاه إلى شكل النظام القادم، فإن جاء النظام بطريقة فوقية لا تنبثق عن خيارات المواطنين فأغلب الظن أنه سيعاد إنتاج نظام طائفي آخر، قد لا يختلف عن القائم حاليًا سوى بتموضع مجتمعه المضاد بالنسبة إلى هذا المكوِّن المجتمعي أم ذاك.
    ترسيخ المواطنة في شتى مجالات الحياة: القانونية والدستورية والتعليمية والاجتماعية... هذا يعني مما يعنيه إعادة النظر بالمناهج التربوية التي تؤسِّس للتصدعات المجتمعية وتكرِّس الجهل بالآخر (مناهج التربية الدينية) ودونية الأنثى (كل المناهج النظرية) والتمايز الأقوامي (مناهج مادتي القومية الاشتراكية والتاريخ).
    وضع آليات ديمقراطية تؤمِّن مشاركة المكوِّنات المجتمعية المختلفة في خيارات الدولة في كل ما يخص حياة المواطنين. ولا شك أن هذا الأمر يتطلب تمحيصًا دقيقًا في آليات العملية الانتخابية بشكل يضمن من جهة تمثيلية هذه المكوِّنات في المجالس ويضمن، من جهة ثانية، عدم الوقوع في مطب المحاصصة الطائفية أو القومية.
    إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والدين بما يؤمِّن فكَّ الارتباط بينهما بشكل يضمن استقلالية الدولة عن السلطات الروحية في المجتمع، ويمنع من جهة أخرى الدولة من أدوتة الدين واستغلاله لمصالحها.
    إعادة النظر في بنية الدولة (الأمنوقراطية) القائمة على كلية سلطة الأجهزة الأمنية على مؤسسات الدولة والمجتمع. وكذلك إعادة النظر في بنية الجيش وفي الوظائف المطلوبة منه.
    العمل سريعًا، ومنذ الآن، على وضع نظم مناسبة، ومتكيفة مع المجتمع السوري، لتحقيق عدالة انتقالية تسمح بالعبور نحو سورية الجديدة بأقل ما يمكن من خسائر إضافية تتهدد المجتمع السوري.
    إن المرحلة التي تمر بها سورية اليوم هي من دون شك مرحلة مفصلية في تاريخ البلاد، ولا أظن أننا نجانب الصواب إذا قلنا إن شكل إدارة التنوع الذي سينبثق عن هذه المرحلة هو الذي سيحدد إلى حد كبير شكل سورية القادمة. فسورية غنية بتنوع ثقافاتها واختلاط شعبها. لكن لهذا الوضع وجهين متناقضين: فهو يشكل من جهة أرضًا خصبة للديمقراطية والتعددية والثراء الفكري والروحي والثقافي، ويشكل من جهة أخرى ميدانًا جهنميًا للاحتراب لن يخرج منه شاغلوه أحياء. الوجه الأول هو الذي يتبنى إدارة صالحة للتنوع، أما الوجه الثاني فهو الذي سيبقى يستثمر التنوع ليبقى السيد الأوحد المستبد، ولو على أكمة من الجماجم.
    *** *** ***




    ٭ باحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، دمشق.

    [1] ضم المؤتمر الوطني الكردي ممثلين عن عشرة أحزاب كردية سورية، ثم انضمت إلى المؤتمر خمسة أحزاب أخرى في نهاية شهر شباط 2012.

    [2] انظر البيان الختامي للمؤتمر الوطني الكردي الذي انعقد في 26 تشرين الأول 2011.

    [3] يجب الاعتراف بأن هذا التقسيم لم يعد ملحوظًا في السنوات العشر الأخيرة.

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. التنوّع الإيقاعي في أوزان الشعر
    بواسطة د.عمر خَلّوف في المنتدى العرُوضُ وَالقَافِيَةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-11-2015, 03:19 PM
  2. التنوع و التناغم لدى عاطف الجندى
    بواسطة عاطف الجندى في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 27-05-2012, 08:52 PM
  3. الوحدة و التنوع في شعر "الشهاوي"/ د. رمضان الحضري
    بواسطة محمد الشحات محمد في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 16-03-2011, 01:35 AM
  4. التنوع و التناغم لدى عاطف الجندى
    بواسطة عاطف الجندى في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 22-06-2010, 05:24 PM
  5. إستقالة كولن باول تعني رحيل صوت الإعتدال في إدارة بوش
    بواسطة لحظة صدق في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 19-11-2004, 11:39 PM