أمي،
أعرف أنك هنا..على مقربة مني..لكني لا أعرف لماذا في كل زياراتك لي، تبوحين لي بالصمت وتمضين؟ تنبشين بعضي الراحل في متاهات الجنون، وتُقْبلين على مساءات الزيزفون التي جمعناها معا من حدائق وجنتيـك...
أمي،
لا هديل بعدك يشدني سوى بقايا الأرق...مازلتُ أتذكر حين كنتِ تغنين لي والنجوم بيننا تغرد كعادتها، والليل المكتمل قد وضع الكحل في عينيه ليبدو أجمل مما كان..مازلتُ أتذكر يوم عانقتني وابتسامتك تحطّ على قلبي كعصفور صغير لمّا يذقْ رحيق الورد بعد..ما زلتُ أتذكر يوم أهديتني قلبك لأضعه في قلبي الصغير جدا أخفيه عن جراح اليمام..مازلت أتذكرك قادمة كالمطر، وقصيدةُ الحب تشتعل في شمعتنا..ماتزال على مكتبي غارقة في صمتها...كل يوم تحدّق فيّ ..كل يوم تسألني عنك..أسألها عنك..والليل لماّ يذكرْ بعد آخر عودة له من الرّماد...مازلتُ أتذكر يوم ألقيتُ بصمتي بين ذراعيك وصرختُ ملء جرحي، كيف أغرقتِ خوفي ومحوتِ عني غبارَ الألــم..مازلتُ أذكرُ يوم فرحتِ بقطاف دراستي ووقفنا معا في محراب الشكر، نسقي قحط المكان بسجوم الحمــد والانكسار..لله..
مازلت أذكر يومها (...) ..يوم ألفَيْتُك صامتة على فراش الرحيل تعاتبينني على الرقاد بين أفنان الحزن..مازلتُ أذكر آخر نَفَسٍ اصّاعَدَ إلى النجمة الأولى..التي كانت تعشقك..مثلي.. وأقسمتِ حينها على العودة..إليّ.. كلما هجع الليل ورحل الصبح مُغَاضِبًا..
مازلتُ أذكر خوفك، كلما اقترب الليل مني..وتلكَ الشمعة الوردية التي كانت تتوهج كأمسنا الجميل..ما زلتُ أذكر أحلامك التي كانت تراقصني على أنغام قوس قزح..وأذكر فتاةً زهوتِ بها ..خبّأتها في جفنيك وغطّيتِها بالصدَفِ وبدعاء البحـر ورداء القلب..مازلتُ أذكر همسك صباح مساء..وأنت ترسمين بريشة الفجر لوحةً كتبتِ فيها كلّ قصائدك قبل الرحيـل....
الليل لم يعد كما كان...برحيلك غابت عني قصائدك وقصائده..حتى الشمس بعد أول يوم من سفرك الطويل تركت ضوءها راقدا في قلب البحر ولم ترغب في إيقاظه، ربما لأنها أبتْ أن يرى أحد لون الحزن الذي كسا وجهها..ولم ترغب في أن يعلو التعب جفنَ قلبها..أرهقها رحيلك !! ومنذ ذلك اليوم، لزمت الصمت بالرغم من أنها ماتزال تشرق في موعدها...
حتى البحر، منذ أول يوم من سفرك الطويل، بعث إلي برسالة اعتذار عن غياب له قد يطول..رحل في سفائن الصمت إلى أقرب جزيرة بقلبي، تحدها شمالا مدائن الوجع، وجنوبا مدائن العشق، وغربا مدائن الوحدة، وشرقا مدائن الياسمين ..أجل..كان على استعداد لكتابة صكّ استقالته من إمارته على مملكة البوح..لكنني انتهزتُ الفرصة وقد كان يجفف منديله المبتل بـكِ، وأسرعت بإحضار مدائن الياسمين إليه...فعاد إلى رشده..
حتى القمر الذي كان يجالسنا يا حبة القلب، آهٍ أمي ! كان هو الآخر بعد أول لحظةِ وداع حضرتْ غيابك، بعد أول قطرة سقطت في كفه ...في طريقه إلى المجهول..جمع حقائبه وأخذ راحلته وانطلق مسرعا وقد امتطى جوادَ روحك....إلى أين؟ لم يرغب أن يخبرني ..لكن العنادل أخبرتني بمكانه سرا..وجدته في الصباح الموالي جالسا على ضفة البحر العائد ينظم فيك قصائد رثاء، وقد نَــذَرَ ضوءه للماء...لكنه سرعان ما استبدّ به الشوق فعاد إليّ، كان يعرف أنني..الآن أحتاج إلى من يؤنس عويلَ الصمت..وما زلتُ للآن أضع له وللنجمة الأولى ولقلب البحر كراسيّ من شعر يجلسون عليها ..معي..في شرفتي كلما دغدغتهم نسائم حزن قادمة من هنا (...)
حتى الحمامة أمي، تغرد لك. الآن... كما علّمتِها. .. تغنّيـكِ قبل أن ينثر الفجر في شرفتي ضوءه ويرمقني بوردة... كانت هي الأخرى بعد رحيلك تمسح الأرض جيئةً وذهابا..وكأن شيئا من اللمم أصاب عقلها...نسيت صمتها وهمسها..نسيت اسمها ولونها..نسيت حتى اتساق الفصول ودفء الحقول المغطاة بالقمح..
أمي، أَحبّة الروح، آهٍ أمي ! تكثرين زيارتي مؤخرا..أراك تهمسين لي كلما أطعمني الرقاد بعض الماء والسُّكَّر ..وكأنك تنادينني لأهمس لك وأُقْبِل على يدك لأقَبِّلَها..اشتقتُ لكِ..اشتقتُ لكِ..اشتقتُ لك..ولا أدري وهذه النبضة المرتعشة تزعزع قلبي، تخلعه عن مكانه وزمانه وحتى عني..هل أنتِ مني كهذا العمر..أم أنني ..اقتربت منك حدَّ الجنون...أخطو قليلا لأقترب كثيرا..
أمي...أتدرين؟ برحيلك ابتعدتُ عني وعن زمني..كانت بالأمس هنا فاكهة حبك أقضم منها كطفلة مجنونة بالرحيق..وكانت هناك شجرةُ دفء أشاكس نبتتَها كلما غادرتني أحلام الشباب..
حتى هو..أمي..وضع الليل في جيبي وغطاني بستائر الجرح ....ظننتُ أنني سأجد الوردةَ نائمة بعمق على كتفـه يهدهدها وينفض عن قلبها الصغير كل الرماد.. يحكي لها كعادته عن حكايا العشاق الذين مروا من هنا وبأيديهم جِرارُ الماء...لكنني قبل أن أدير ظهري لأستقبل الربيع القادم على حصانه الأبيـض، وجدتُ الوردة قد ماتتْ..!!
شرفتي..تحن إليك..حديث الغصون والنجوم بدونك جذع خرافـة..زوريني دائما أمي..وجهك أراه فيّ محفورا كجرحي أنا..لا ترحلي كثيرا..إني أضعك دائما بالقافلة التي تسافر عبر أوردتي تنثر زهيرات الأمل لتحيي الأرض بعد موتها..أنت الحب الذي علّمني كيف أشدو وأبعثر خوفي ودمعك .. أنثرهما في شقوق النسيان وأرسمهما على أدواح التيه كيلا أنساني في قافية الحزن إذا ما قررتُ العودة إليّ..حتى لا تشيخ في غفلة مني هذه السنين المتكئة على الورق...
أمي..يا حبّة القلب..تغيرت أمور كثيرة لو تدرين ! ..لكني أشفقتُ على الدمعة الملقاة هنا من أن ترويها عيون المزن فتصبح وريدا من أوردة الصمت..
لا تقلقي عليّ..كل شيء بخير والحمد لله...إنني الآن أزركش قلب البحر بأغنية المساء..أغنّيها وأغنّيك..لا تنسي أن البحر أهداني قلبه قبل أن يعود إلى هنا..قلبا نصفه ياسمين ونصفه أنا. ..منذ تعاهدتُ وإياه على حفظ العهد.. ورسمنا على الرمل المبتل ذلك العهد الجميل ببقايانا ...أما قلبي فلم يعدْ لـي، لأنني وزّعتُه عليــكِ وعلى رفيــق دربك..وعلى قصائــــدي...
الآن عرفتُ لماذا يسكنني الشــــوق...(..)