تراكمت جهود العلماء وعطاءاتهم في البلاغة؛ حتى استوت فروعا ثلاثة تحتوي فنونا متباينة المنهج والتناول بغض الاهتمام عن عدم اقتناع البعض –غير المقنع- بهذا التقسيم. استبان المنهج ورسخت المصطلحات، وظل العلماء يحافظون على ذلك المنهج وتلك المصطلحات زمن كان التعليم تعليم كتب لا تعليم فنون، وزمن كان التخرج في الكتب لا في المدارس. وأنشئت المدارس، واستمر ذات المنهج بذات المصطلحات في التعليم الأزهري بما يتلاءم مع الزمن المعاصر.
لكن.. التعليم العام في بدئه حافظ على بعض المصطلحات كالمسند والمسند إليه؛ لكن فارق المنهج القديم، ومن يتصفح كتب البلاغة أيام الأربعينيات والخمسينيات يلمس ذلك. ثم كانت تجربة الاطلاع على النقد والأدب الغربي، فعاد ذلك بنظرات تناثرت في طبعات كتب البلاغة بعد ذلك؛ مما جعل المنهج يختلف شديد الاختلاف. واختلف المنهج بين واضعي المقررات ما بين منهج يفرد البلاغة بكتاب منفرد عن النصوص، ومنهج يدمج البلاغة مع النصوص ويلحقها بها. ولكل فلسفته وأدلته، وليس هذا مكان التفاضل والاختيار بين المنهجين.
وأدت هذه البلاغة المدرسية إلى دخول أشياء جزئية إلى البلاغة، ودعم ذلك الدخول التجارب النقدية التي استفادت من الاتجاهات النقدية الغربية، وزاد من هذا الدعم تفرع وتشعب علوم علم اللغة، وظهور علوم بينية تتوسط المسافة بين علم اللغة وعلم الدلالة. كان ذلك على مستوى التعليم الثانوي، ثم بدأت التجربة دخول المرحلة الإعدادية بمنهج جديد مغاير، وظل التعليم الجامعي حقلاً خصبا للبلاغة العربية والبلاغيات الحديثة بتياراتها واتجاهاتها.
وأدى هذا إلى ثراء "علم البيان" بمصطلحات منها "الصورة الكلية"، و"علم البديع" بمباحث "الثنائيات، وملاحظة التكرار بين الصيغ والتراكيب لبيان الإيقاع". ولم يكن "علم المعاني" بعيدا؛ لأن جُل البلاغة المدرسية تقوم عليه، وتعتمده حين تستخدم اسمية الجملة وحرفية بعض الحروف وزمن الأفعال –وغير ذلك- لتوضيح المعالم الجمالية المتناثرة في النص. واتباعا لمنهج عبد القاهر الجرجاني الذي يقوم على الانطلاق مما يعرفه المخاطب –أو القارئ أو المتعلم- إلى توصيل ما يراد توصيله من معلومات على مراحل كل مرحلة تخرج من سابقتها وتدخل لاحقتها.
وآن الأوان بعد كل هذا الزمن الذي أثمر مباحث جزئية –أن يضم ضامّ هذا الشتات المعرفي البلاغي تحت عنوان أو عناوين دالة تجعل العين ترى الموضوع مرة واحدة في مكان واحد مما يزيد الوعي والعمق. ويجب أن ينضم لهذا المبحث الجديد الضام مباحث الدلالة المتناثرة في النحو والصرف؛ مما ينتج لنا مبحثا جديدا يخصب "علم المعاني" ويجعله يمتد امتدادا داخليا بنائيا، لاسيما أن هذا المبحث الجديد يتناغم مع منهج "علم المعاني" في كل أبوابه الثمانية المعروفة.