خريف المثقف العراقي
للكاتب والناقد العراقي محمد غازي الاخرس الذي يقول في مدخل الكتاب
عندما انتهيت من فصول هذا الكتاب شعرت براحة كبيرة، راحة تشبه تلك التي يستشعرها واحد خرج لتوه من نقاش دام قرنا من الزمن مع اناس سفسطائيين تعطلت آذانهم وتوقفت عن السمع في حين لم تتوقف السنتهم عن الصراخ باصوات عالية طوال فصول الجدل التي دونتها.
هل سينفع هذا النقاش أحدا سواي ..؟ هل ستنفع الرحلة معنيا بالامر غيري..!!
تساؤل يستطيع الاخرون الاجابة عنه حتى لو همسوا بالاجابة لانفسهم. لكن الشكوك ستبقى تراودني في ان أحدا من "أبطالي" السابقين يمكن ان يتفهم ما اردت فعله، اولئك الذين أظن أنهم لن يسمعوا حرفا واحدا مما سأقول فهم ـ وهذه هي الخلاصة برأيي ـ والسبب أنهم مهجوسون دائما بالصراخ، لا الانصات وهم ـ على يقين لا يتزعزع ـ من انهم ملاك الحقيقة الوحيدون. لذلك لا اتوقع ان يؤثر الكتاب فيهم ايما تأثير, هذا اذا لم يستسخفوه جملة وتفصيلا.
ولكي لا تتيهوا في عبارات أشبه بالاحاجي ـ كونكم لم تقرءوا الكتاب بعد ـ بودي أن أختصر الفصول الخمسة بأقل ما يمكن من العبارات : يسرد الكتاب حكاية المثقفين العراقيين من حدث احتلال الكويت الى ما بعد سقوط نظام البعث في خمسة فصول. الأول يتتبع ما جرى داخل العراق بعد احتلال الكويت والانتفاضة مركزا على تأثيرات الأنكسارة الكبرى بدءا من ظهور المد الديني مرورا بخيبة المثقفين ووصولهم الى عتبة العدمية وانتهاء بوقوعهم ضحايا التطرف الثقافي في الأفكار والممارسة.
ثم يمضي الفصل الثاني ليتتبع ظاهرة هرب المثقفين العراقيين من البلاد بعد الانتفاضة واساليب ذلك الهرب مركزا ، هذه المرة ، على دخولهم فعليا في مرحلة عدمية لا مثيل لها .أما الفصل الثالث فيقف مطولا عند لحظة مواجهة زاخرة بالدلالات بين نمطين من الثقافة وقد بدأ الصراع المقصود ابتداء من منتصف التسعينيات . احد هذين النمطين كانت هاجرت رموزه من العراق في السبعينيات وصاغت لها خطابا خاصا في حين خرج ممثلو النمط الآخر من البلاد زرافات ووحدانا بعد حرب الكويت. الحق ان لقاء الثقافتين لم يكن وديا بالمرة وقد بدا في بعض ملامحه وكأنه امتداد لصراع قديم ابطاله الشيوعيون والبعثيون.
الفصل الرابع مختلف بعض الشئ فهو يترسم صورة المثقف العراقي كما ألتقطت قبل الغزو الأميركي للعراق وأثناءه ويتم التركيز على استكناه طريقة فهم المثقف لهويته الوطنية وكيفية قراءته للحرب وتعاطيه معها. وفي هذا المفصل يشخص الصراع في بضعة رموز اشهرها المفكر كنعان مكية الذي تغنى بالحرب وطرح ـ على ما أزعم ـ فهما جديدا للهوية.
وكما هو متوقع في كتاب كهذا ينتهي الأمر بفصل خامس يتتبع مجريات الأحداث المتعلقة بالمثقفين بعد سقوط نظام البعث وطرائق تجدد الصراعات القديمة بينهم حيث تصل الأمور الى حد القتل الجسدي وحيث يبدو المثقفون وكأنهم يتصارعون في مركب سكران يمكن ان يهوي بهم بين لحظة وأخرى.
هذا ملخص كتاب "خريف المثقف في العراق" ولكي لا أكون متشائما اكثر من اللازم سأذكر القراء بتلك الفكرة التي طرحتها في البدء : ان مثقفا يعيش في شروط منظومة معينة كونته ، ان مثقفا كهذا يستحيل ان يتفهم طرحا يجهد لتفكيك تلك المنظومة. المثقف المذكور سيظل رهين تلك المنظومة، ومن ثم، سجين شروطها. وهو لن يفهم شيئا طالما بقي داخل محبسه.
هذه الملاحظة التي تتعلق بتوقعاتي المتشائمة ليست سوى واحدة من مزيد وهي ذات بعد شخصي .لذا ليس من الضروري ان تكون صائبة انها مجرد انطباع لا اكثر.
بالمقابل، ثمة ما هو غير انطباعي في الملاحظات الاخرى واغلبها يدور حول فحوى الكتاب ونتيجته شبه النهائية.
علي ان اقول، بهذا الصدد، وارجو الا أكون متسرعا، أن فصول الكتاب لم تنته بعد ولا يمكن ان تنتهي. واذ أقول ذلك فليس لانني امهد لكتاب آخر بل لان منطق الثقافة العراقية بعد سقوط دولة البعث ظل كما كان عليه قبل الحدث المزلزل. وعلي ان أشير، هنا، الى ان الابطال السابقين لم يختفوا من مسرح الاحداث. واذا كان ذلك قد جرى، بطريقة او باخرى في بعض الاحيان، فلأنه ارتبط بتغير بعض البنى الكلاسكيكة التي ميزت الثقافة العراقية طوال المرحلة المدروسة.
بامكاني ان المح،مثلا،الى التبدلات التي طرأت على مواقع المثقفين البعثيين والشيوعيين والاسلامويين في الخارطة الغرائبية التي ترسمت بعض ملامحها بحيث عاد البعض ليتسعيد لحظة اعتقد الجميع انها انتهت الى الابد.
ان تفاصيل ما جرى في السنوات الخمس التي تلت سقوط نظام صدام حسين تفيد، وهذا ليس خافيا، ان بعض المقولات انبعث فجأة، بعض التحالفات القديمة استعيد، فضلا عن ان الكثير من الصراعات والصرعات تجدد بالطريقة القديمة ذاتها حتى وان بدا المتصارعون مختلفين عما كانوا عليه.
ولكي تطمئنوا الى جدية هذه الملاحظة سأذكركم بانبعاث مفاهيم مثل"الشعوبية "و"الرجعية" وباستعادة البعثيين والشيوعيين والليبراليين التحالف القديم ضد"الرجعيين" من اتباع الثقافة الدينية.
علي ان اذكركم، ايضا، بتجدد صراع "العراقويين"و"العروبيين"ع لى خلقية الصراع السني ـ الشيعي اعوام 2005 ـ 2008 . ذلك الصراع الذي عرفه العراق منذ الثلاثينات وكانت ذروته في انقلاب بكر صدقي عام 1936 ، ومن ثم في انقلاب 14 تموز عام 1958.
الحال ان اللحظة السابقة استعيدت وسار اللاحقون على خطى السابقين حذو النعل بالنعل لدرجة ان شاعرا"عراقويا" صعد الى منبر اتحاد الادباء، ذات مرة, واستعاد ابياتا شهيرة كان وجهها محمد مهدي الجواهري لحكمت سليمان محرضا اياه على استئصال "العروبيين"
لا تبق دابر اقوام وترتهم
فهم اذا وجدوها فرصة ثأروا
تهامس النفر الباكون عهدهم
ان سوف يرجع ماضيهم فيزدهر
فحاسب القوم عن كل الذي اجترحوا
عما اراقوا و ما اغتالوا وما احتكروا
فضيق الحبل واشدد من خناقهم
فربما كان في إرخائه ضرر
و لا تقل ترة تبقي حزازتها
فهم على كل حال كنت قد وتروا
الملاحظة الاخرى تتعلق، وهذا يحتاج الى وقفة طويلة، بخصائص المثقف العراقي الذي انتج لنا هذا التاريخ الذي قلبنا بعض تفاصيله. ولي ان اطرح تساؤلا ربما يكون مدخلا لفصل لم يكتب بعد:هل للمثقف العراقي خصائص ثابتة وجوهرية تتمظهر بوصفها خصائص لا تاريخية معزولة عن السياق الذي يحيطها؟
هل الانتهازية والتقلب ونقل البندقية من كتف الى اخرى خصيصة "عراقية" اصيلة ..ام هي مجرد ردة فعل تقوم به اي ذات تجد نفسها في خضم زلزال تضطرب معه البنى القارة والعلاقات المستقرة ..؟انه لأمر محير بالفعل وهو يحتاج الى وقفة متأنية، وقفة ذات طابع نظري لا تمثل التفاصيل فيه سوى هامش يتسع باتساع الشروح.
لكن عموما، فأن واحدة من الخلاصات التي اجتهد الكتاب في الخروج بها هي ان هذه الخصيصة تبدو كأحد محركات التاريخ الثقافي في العراق. وهي، في بعض المفاصل، تظهر بوصفها المحرك المركزي كما هو الأمر في مفصل علاقة المثقف بالسلطة وطريقة تعاطيه معها .
لا اتحدث، هنا، عن علاقة المثقف الايديولوجي او العقائدي بالسلطة التي ربما شارك في بناء منظومتها بل اعني ذلك النموذج التابع الذي يستمد شرعيته من السلطة سواء كان معها او ضدها. والمفارقة ان هذا النموذج ممثل دائما، وفي كل وقت، بشريحة تغلب على الشرائح الآخرى بما في ذلك العقائديون التقليديون.
لعل واحدة من نتائج الكتاب تتعلق بتفكيك هذا النموذج ومطارته في جميع اشكاله وتبدلاته التي أمكن ملاحظتها. وهي رغم كونها نتيجة مؤسفة الا أنها ضرورية لفهم شكل يبدو غالبا على الجزء الأعظم من فعاليات الثقافة العراقية غير المؤثرة ولكن السائدة .
ان هذه النتيجة، رغم انها غير مؤكدة، تبدو مسؤولة عن الكثير من الظواهر الماثلة امامنا ومنها، مثلا، الغياب شبه الدائم والممنهج لنموذج المثقف المستقل الذي ندر وجوده منذ 14 تموز 1958.
الملاحظة التي اود التوقف عندها بعجالة تتعلق بظاهرة العنف المطردة الظهور في تاريخ المثقف العراقي . وقدر تعلق الامر بهذا الاخير، يبدو العنف المقصود رمزيا غالبا، رغم وجود اشارات لا بأس بها بوجود عنف فعلي مستوحى من صراع الايديولوجيات في العراق.
المهم، بالنسبة لي، كما تبدى في فصول الكتاب هو البحث عن ضحية هذا العنف غير المفكر بها مطلقا .فخلافا لما يتبادر الى الذهن, لم يكن المثقف المقصود هو الضحية الابرز لهذا العنف، بل ان الضحية الأبرز هي الفكرة وليس الشخص، فكرة المثقف المستقل التي تلاشت تماما بسبب طبيعتها المخالفة. فهذه الفكرة التي تؤمن بالحوار المسالم وبامكانية تعايش المختلفين كانت قمعت بقسوة لا مثيل لها وبات من غير الممكن ان تنبس ببنت شفة وسط صخب المثقفين "المسلحين" بايديولوجياتهم العنفية.
النتيجة، باختصار، هو تحول المشهد الى ساحة "قتل رمزي" بكل معنى الكلمة حيث بتبادل الابطال مشاعر الاحتقار والكراهية ويأبى بعضهم الأعتراف بـ"الآخر".
كيف يمكن ان تجد فكرة استقلالية المثقف موطئ قدم لها في ميدان كهذا ..!!
الخلاصة ربما اتضحت بشكل مثالي في الفصل الخامس من الكتاب حين تحول العراق الى شئ شبيه بمركب سكران، مركب يقتتل ركابه بالمجاذيف امام انظار العالم ويكاد جميعهم يغرقون في اية لحظة. هذه الصورة ليست خيالية ابدا .وقد حاول الكتاب ترجمتها بطريقة تنهل من طرائق كتابة التاريخ بقدر ما تبتعد عنها .
الملاحظة ماقبل الأخيرة التي أريد اثارتها هي النزاع حول "الهوية الوطنية" ودور المثقف في تشكيل رأسمالها الرمزي. ورغم ان الكتاب لا يختص بهذا المحور الجوهري الا انه جهد في ترسم صراع اساسي ربما شكل كل ملامح تاريخ العراق في حقبته الحديثة. نعني تحديدا الصراع المستمر بين النزعة"العراقوية"ـالمحليةـ والنزعة "العروبية" المضادة لها. لدى المرء اكثر من دليل على ان هذا الصراع تواصل، بحدة وشراسة اكبر، حتى في سنوات ما بعد صدام. وذلك حين تصدرت الشرائح والقوميات والاثنيات والاقليات المشهد معيدة، الى الأذهان، ذلك السؤال المختلف عليه منذ العشرينات: هل العراق كيان مكتف بذاته ام انه جزء من كيان اكبر ينبغي الالتحاق به؟
هذا السؤال الذي قمع بحزم وقوة طوال مرحلة الدولة القومية ـ الطائفية المرسومة باصابع ومخيلات العسكر بدا وكأنه فرس رهان في سلة ملأى بأسئلة مشابهة: ما علاقتنا بالعرب ـ مثلا ـ؟ هل يتوجب الارتهان بهم الى ابد الابدين ..؟ هل من الضروري، لكي نبدأ حقبة جديدة، العودة الى ذاتنا المنسية او لنقل المهمشة، المقصية والمقموعة بالحديد والنار..؟ وفق اي استراتيجية ينبغي ان نحاول ذلك ..؟
مثل هذه الاسئلة ربما شكلت، منذ لحظة سقوط نظام صدام، مادة اساس لحشد مميز من الافكار والافتراضات والرؤى. والملاحظ ان أبطال هذه النقاشات بدوا مختلفين تماما هذه المرة فاغلبهم ظلوا مقصيين ومهمشين لعقود وكان لا يسمح لهم بابداء افكارهم حول القضايا التي يعتقدون انهم يمتلكون رؤى واضحة فيها.
الاختلاف، اختلاف ابطال السردية الجديدة عن اقرانهم المنسحبين من ساحة التاريخ، ليس ذا منشأ فكري او ثقافي فقط بل المهم انه ذو منشأ اجتماعي ايضا. فالاغلبية المطلقة من اصحاب الأفكار الجديدة والاجوبة غير المطروقة تحيل الى شرائح مهمشة اقتصاديا و"منفية" عن صلب المشهد السائد. والكلمة الأخيرة "منفية" تبدو مجازية وحقيقية في الآن ذاته ذلك ان عددا كبيرا من هؤلاء الابطال كانوا منفيين بالفعل. بعضهم عاد الى البلاد بشكل نهائي او جزئي والبعض الآخر وجد متنفسا لاثارة ما يظنه مركزيا من تلك الاسئلة بطريقة جديدة: بدلا من التفكير"هناك"، خارج التاريخ ربما، سيكون عليه التفكير "هنا"، في صلب التاريخ الجديد.
من هذه الملاحظة استطيع الانتهاء بثقة من جميع ملاحظاتي المبثوثة ، في هذه الخاتمة غير التقليدية، وقبلها في الفصول الخمسة المكونة للكتاب .
الختام لن يكون مسكا بالتأكيد والسبب هو أعتراف شخصي جدا لن يرضي مدعي "الحياد العلمي". اقصد الاعتراف الذي غالبا ما ينكره المؤلفون على انفسهم ويحاولون مخادعة قراءهم بتوريته ما امكن لهم ذلك.
الاحرى انني لم أكن حياديا كما يتمنى المؤرخ "التقليدي" ان يكون . كنت ميالا إلى جهة ما او رؤية معينة بل أظنني في بعض الفقرات لم أتورع عن التصريح بميلي والدفاع عن "رؤيتي" التي قد لا ترضي الكثيرين .
هذه هي ملاحظتي الأخيرة .