... الزمان ينذر بأول دمعة من السماء، والشمس تودع المساء، خفت أن يجرّ الموت وشاحه عليّ قبل الوقت ، وينشر على جسدي شكله الأبيض فأموت غريباً ..
عشرون سنة مضت ، والزمن يأكل عمري ، يخنق أنفاسي . ظلمة حالكة تتجول بين الحيطان ، لا أعرف متى أشرقت الشمس ومتى غربت . حياة تُخفي تحت ستارها ألغازاً وطلاسم محيرة ، نغمة حزن تخيم على المكان .. كلما زحفت الأيام إلي الأمام ، ينتصب بين عيني أمل فضفاض ، ومع ذلك تحـيا العروق وتتجدد مع الأيام المندحرة ...
خلف الجدران وقفت أنبش صمت الفضاء ، أتشمم سطح الزمن الباقي . دقات الساعة تقضم ما تبقى من عمري ثانية ثانية ، تعانقت عقاربها، تخيلت أنني أعانق الأهل والأحباب . خيالي يقرب المسافات ، وبريق أمل يرتعش ويتقوقع داخل نفسي بالتدريج ..
ما أن تخطيت عتبة باب السجن، أغلقه الحراس من ورائي بعنف . جفلت من ظلي ، خرجت وشعيرات رأسي القديمة تعانق الضباب الأبيض، اختنقت وردة الصبا ، اندحر الشباب مخلفاً وراءه وجهاً شاحب اللون ، وأسناناً مكسورة اكتسحها الخمج الأسود ..
أيامي جراح بالية نقشت كتجاعيد يابسة على وجهي ، لم تتوان الجدران أن تجاهر بعدائها طول هذه المدة . أسرعت في خطاي والخوف يشد على قلبي ، لا أدري لماذا كنت مستعجلا في مشيتي ..؟ !
وجدت نفسي في الشارع الكبير، لا أحد ينتظرني .. توقعت ذلك ..؟! مرة أخرى ألقيت نظرة علي أسوار السجن ، يغلب عليها اللون الأحمر ، عالية وسميكة تسرق الزمن ، تقتات من دم الأبرياء . كم من مرة هممت أن أتسلقها من الداخل ، لكن الرصاص كان يرقـبني باستمرار..
تتغير الأحوال كلما ارتجف الزمن .. ! تشابهت علي الشوارع ، وارتجت الأزقة من شدة اختناقها بأجسام بشرية .. تصارع الزمن الراجف وهي صامتة ...
أسأل عن محطة المسافرين ، أعيد السؤال . !! الكل في عجلة ، الكل يعتذر، يخطون ويخطون . لا يتوقفون ولا يستمعون ، السيارات تـنغـل كالنمل . بكيت دموعاً مالحة الطعم ، قد أتعرّى في الشارع ولا أحد يرد ملابسي ، قد أمــوت فلا يعرفـني أحد ..؟
قريتي لها نكهة خاصة ، مذاقها متميز .. كلما حفرت الذاكرة تترقرق في عيني . سرت إليها والظلام الدامس يغمرها، الناس في سبات عميق . تجاوبت الكلاب في نباحها فحاصرت الرقم الغريب ..! وقفت على أطلال متآكلة تتنفس بصعوبة تحت شعاع القمر . أنقاض ميتة ، بنايات منزوعة الأسقف قصمها الدهر، قـست عليها الأمطار والعواصف .. تنوح على الماضي الميت ، وتبكي على أيامها المتبقية . غول ضار يجوب زوايا المعمور، يغني ويصدح بمواله الحزين .
أعصابي تتقاتـل فيما بينها ، سعار حاد ينهش جسمي . صحت صيحة الموتى في القبور . تلاشيت على مصطبة متآكلة الأطراف ، تسكنها حشرات من مختلف الأصناف ، ساحت أتربة كثيرة في كل الجهات.. حصى رقيق ينسحق تحت أقدامي ، قصب بال يـئن تحت حذائي..!
أين ذهب الجميع ..؟ ماذا حل بالمكان ..؟ قلت في نفسي : ماذا يخبئ لك الزمان ياعياد من جديد ؟ تقدمت بخطى ميتة وحق الأهل مكتوب على الجدران المنهارة ،لا أحد يجيبني ؟
سألني الماضي ، كلمني الحاضر، هنا كان يجلس أبي يشرب الشاي الدافئ ، هناك كانت أمي تنخل الدقـيق... في هذا البيت قاسمتني حليمة الحصير، والجوع يؤاخينا على الحلو والمر، والصدق والوفاء يسكنان قـلبينا ..؟!
أين أنت يا حليمة ..؟ أين ابني ..؟ ترى ما اسمه ..؟
في ذلك اليوم الأسود ،همست بين القضبان بصوت عال : لا أستطيع الانتظار..؟ الحياة انتهت معك ياعياد في نصف الطريق ..
غرقت في أسف شديد ، رددت مع نفسي كالمخبول .. ما كنت قاتلا لجاري ؟ ما كنت مجرماً ؟ لفقوا ، كذبوا ، كتبوا وحكموا ..
ليل حالك يلقي نظرته الأخيرة على المنزل المنهار . ينسحب في هدوء تاركاً وراءه أنواراً مشعة . سكون قاتـل يجـثم على أنفاس القرية ، يعزف نغمات الخواء .. !
جاء الصبح ينازع الظلام ، والنهار يزحف في تؤدة .. برزت أطلال من الدور المتآكلة منبتة هنا وهناك .. كأن حرباً ضارية حلت بها... سكنني رعب مخيف ، وموت قاتل يتربص بفؤادي ويراقب جريان دمي ، وفي لحظة ما سيخرج عن مجراه ، وتحدث الكارثة .. ! تلهيت بالحسرة والأسى ، والآهات تأكل وتقتات مني، تفتت عمري بين ظلمة الزنازن ، فلم أعد أقوى على مجابهة المصير.
فجأة، دبت مخلوقات القرية متباطئة في حركـتها . بقبضة يدي حاولت أن أدق على الجيران ، ولكن... سألت عن الأصحاب القدامى بالكلمة الطيبة .. فلا زمن يحمل الذكريات ، الكل يفرّ من أمامي ، تمنيت أن يتخطفني الموت قبل أن تحرقـني النظرات الثاقبة ..
ــ ما مصير أرضنا..؟ الأرض لازالت في مكانها ، تربتها لم تتغير ، ولكن حدودها تناقصت . فالأكاذيب تتفرق وتتسع بدون حدود ، والتزوير علي الأموات موجود في القرية قبل أن تقـتـل الشمس النجوم .. ما باع أبي أرضه ، بل انتزعت منه بالقوة ، مات وهو يلوك بين شفتيه حسرته ..
أخذني الدوار من ناصيتي ، ارتجّت أطرافي كلها، تفصد العرق مني، بعيون جاحظة تزحزحت من مكاني مـتـثاقلا لا ألوي على شيء، ضاع الأهل ، ضاعـت الأرض ..
رجعت قافلا إلى المدينة ، والزمن قد أدبني ولا أرغب أن أعود من حيث أتيت ، صراخ صامت يستبد بي . والشمس توشك أن تتهاوى على عجل .
تهت أمضغ المرارة في زنقة تدعى السكاكين ، أرضيتها يحتلها الباعة المتجولون ، لا يتركون منفذاً للمارة ،
وصلت إلي باب السوق المركزي، لمحت عدة أقفاص معلقة على الجدران ، بداخلها طيور جميلة وغريبة الألوان، تُطعم بالتقسيط ، تقرأ سر البشر في صمت . وما هذه الطيور إلا مخلوقات ضعيفة فقدت حريتها بسبب ظلم الإنسان ..؟
اعتصرتـني الغربة ، أخذ الحزن ينش داخل فؤادي كالقدر الذي فقد غطاءه ، وأنا متأكد أن أعوام الشقاء لم تنته بعد..
داع يدعو إلى صلاة المغرب ، تدحرجت عبر درب ضيق إلى مسجد تاريخي ، فبرزت لي مئذنته البالية تخرق الفضاء في شموخ . تجمعت النساء عند عتبة المسجد قبل المصلين يطلبن إحسانا ً. انتهت الصلاة ، فتعالت أصوات مختلفة الإيقـاع تدغدغ العواطف ، تمنع في العمق استفحال الجوع ..
صوت امرأة يخرق القلوب.. كانت كلمات الاستجداء تنضج في فمها كما تنضج الفواكه قبل الأوان ، تنساب إلي فناء المسجد فتهـتز الأجسام ...هزني تيار الصوت الجارف ، قلت :
ـــ من يصدح بهذا الصوت الحزين ..؟
هممت أن أمد يدي إلى جيبي فتذكرت أني لا أملك إلا القليل من الدراهم .. وكانت مفاجأة الزمن قاتـلة ..؟
ـــ من ..؟ زوجتي..؟ حليمة ..؟