بسم الله الرحمن الرحيم
أثر التصوف في شعر محمد نعمان الحكيمي
د. اعتدال الكثيري
أستاذ النحو والصرف المساعد في جامعة عدن-اليمن
(الجزء الأول)
في ديوانه الأول أرسى الشاعر محمد نعمان الحكيمي أساساً لشعر يتجاوز الوجود إلى عالم الروح ، وفي قصائده اللاحقة دعّم هذا الأساس وبنى سقفاً من الرؤى الصوفية بدا فيها تأثره بالتصوف من حيث هو منهج في الحياة ، ومن حيث هو أسلوب في الخلق الفني تجلى في أروع صوره في أشعار الشيخ أحمد بن علوان الذي يعدّ الشعاع الذي امتدّ منه النور الذي غمر شاعرنا الحكيمي وأنار سبيله.
و"التصوف هو الوقوف مع آداب الشرع ظاهراً وباطناً، وقد تستعمل هذه الكلمة أحياناً مرادفة لمكارم الأخلاق، والتصوف عدة أصناف : التصوف المتأدب الملتزم بآداب الشرع والملتزم بالقرآن والسنة ، والتصوف الطرقي الذي يتم فيه خضوع المريدين لنظام خاص من السلوك يفرضه عليهم الشيخ المرشد والتصوف النظري المتفلسف وهو تصوف باطني إشراقي يهدف إلى إدراك الوجود الحق (1).
ويخلط بعض الناس بين أنواع التصوف فيتخذون موقفاً عدائياً منه، في حين أن كلاً من السلفي المخلص والصوفي الحقّ لهما الهدف نفسه وهو تنقية النفس من الشوائب حتى تصبح خالصة لله سبحانه وتعالى، فلا تناقض بينهما ولا تعارض.(2)وإذا كان مما يؤخذ على بعض المتصوفة إدخالهم بعض البدع ، والمنكرات ، كتلك التي تظهر ممن تصيبهم الأحوال من تصرفات لا إرادية وفي جزء منها إيذاء للنفس، فضلاً عن اعتقاد بعضهم أن المعرفة الحقة إنما تفاض على النفس فيضاً ، مما ينظر إليه في بعض الأحيان على أنه تقليل من شأن المعرفة العلمية ، والسعي إليها. وفي واقع الأمر فإن الرياضة الروحية وتفريغ القلب من كل شيء من شأنه أن يحرك على العمل ويبعث على الفعل أو الترك.(3)
وليس من شأن هذا البحث المتواضع الخوض في مفهوم التصوف أو المواقف المختلفة منه، فهو يهدف في الأساس إلى تبين آثار التصوف وأشعار التصوف في النتاج الأدبي للحكيمي، وحسبي أنني قدّمت لهذا الموضوع بهذه المقدمة اليسيرة .
ولتبيين أثر التصوف في شعر الحكيمي فإنني سأقسم هذا البحث على أجزاء : يتناول أولها الكلام على الأثر الموضوعي في شعره :
1) الأثر الموضوعي:
تدور أغراض شعر التصوف بعامة حول التوبة والطريق إلى الله والزهد ووصف الشيوخ وأحوالهم والنصائح والمواعظ والأوراد والأدعية والمناجاة الربانية ، والسماح والوصول والفناء ، والمعرفة والمدائح النبوية وذكر الأولياء والكرامات والاستغاثة والتوسل.(4)
ولما كان الحكيمي ليس متصوفاً بهذا المعنى ، فإننا لا نقف على هذه الأغراض مجتمعة في شعره ، وليس بالمعنى الذي وجدناها فيه عند متقدمي شعراء التصوف. ولكن التأمل في شعره سيقودنا إلى الاعتراف بوجود إسقاطات غنية لكثير من هذه الأغراض، فضلاً عن أنه صرّح بتأثره بالصوفيين ، وضمـّن قصائده نتفاً من أشعارهم ، ولاسيما الشيخ (أحمد بن علوان) و(الشيخ السودي). فمثلاً : يقول في قصيدة (امتداد):
" وروائع (الباهوت) تتلى في مقام الخوف إشفاقاً عليك:
(إلامَ نهاركم بالله ليلٌ وليل العارفين به نهارُ)"(5)
والباهوت هو لقب للشيخ ابن علوان.
ويقول في قصيدة (ذات ذكرى وألم):
" امنح فؤادك بعض عشق من هوى (السوديّ )
ماشطّ من كلف الرجال ومادنى
(يا مقعد العزمات يا عبد الهوى يا بانياً والبين يهدم ما بنى
زرني أعلمك الهوى وفنونهُ واشتمّ أنفاسي يزلْ عنك العنا)"(6)
وليس عجباً أن نراه بعد ذلك يترسّم خطا أولئك السابقين ، ويفرغ كثيراً من أشعاره لمعانٍ دارت في شعر التصوف على نحو أو آخر. ومن أهم هذه المعاني:
1) العشق الصوفي : وهو يشمل هنا مفاهيم عدة من الحب الإلهي وحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن طريق الشاعر في الغزل التي تسير وفق منهج عام ينتظمه مصطلح (الحب) عنده . و" الغزل الصوفي نسق شعري مغاير ، فنحن نلمح فيه تسامياً إرادياً من قبل المحبّ عن الرغبة في ممارسة الفعل... ويردّ فيه الجمال الأنثوي إلى الجمال المطلق الذي لا تعيـّن له، ويتـّخذ المحسوس سبيلاً إلى اللامحسوس، والداثر الفاني وصيداً إلى الأبدي الباقي ، وتمتزج فيه تجربة الحب بأفكار فلسفية وخواطر تأملية حول الحب وعلاقته بالاتحاد وعن كيفية امتزاج النفس بالمثل والمعقولات حتى تستهلك في النور الإلهي الغامر". (7)
يلمح المتأمل في التجربة الشعرية للشاعر محمد نعمان الحكيمي بروز الحب ممثلاً لكل القيم الجمالية في الحياة . وتتعدد أشكال هذا الحب من حب إلهي مثالي ، حب المتصوفه لذات الله المتفردة بالجمال ، إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبدو تصويره عاطفة الحب الإنساني معيناً يستمدّ منه مفهومه الكلي لمنظومة الحب والجمال والحياة ، لذا فلا نعجب إذ ما وجدناه شاعراً يتغنى بحب المرأة ، والوطن ، والطبيعة .
وما أجمل أن تجتمع صورتان فأكثر في إبداع هذا الشاعر ، فتتجسد لوحة بالغة الجمال في قوله من قصيدة (أشبه بالظلال):
وتخضرُّ الـرؤى فـي قـاع نفسـي=وتـرفــل بالـسـنـاء يـــد الـخـيــال
وتـمـتـزج اشـتـعـالات الــروابــي=بـتـبـريــح الــجـــداول والــتـــلال
وتغمرنـي السـعـادة حـيـن تـغـدو=شـخـوص الـحـب ماثـلـةً حيـالـي
أرانـي حيـن ألهـج بـاسـم (طــه)=يضـيء الوجـد فـي كـل انفعـالـي
فهنا يصور اشتراك الطبيعة مع المشاعر الإنسانية في إدارك ظاهرة الجمال المتجسد في شخص (طه) الذي يمثل شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يجسد عنده أسطع صور الحب والجمال:
أرانـي مــا رنــوت إلـيـه أحـظـى = بــأســـرار الـمـحـبــة والـجــمــالِ
ولا نكاد نعدم صورة العشق الصوفي في كل ما يسطر شاعرنا من قصائد حتى ما يتغنى فيها بعشق دنيوي ، أو بحب الوطن؛ يقول في قصيدة (جواهر):
أحسُّكِ مُذْ توهج وجـدُ روحــــي = بفيض العشق .. يا(بنتَ المعافرْ)
عشقتكِ ، والهوى قدرٌ لطــــيـفٌ = تَحقَّقَ فـي الضمــــائـر والسرائـرْ
وجئتك مفعماً بجـوى افتنــــــــاني = فطوّعْـتِ الحشاشـةَ والنواظـــرْ
على عينيكِ ... أنتِ صنعتِ حبي = تُجلِّيـنَ المحـبـةَ كالشعـــــــائـرْ
وليسَ سواكِ مَنْ وَجَدَتْ فـــؤادي = لدى ملكوتهـا القدسـيَّ حاضـــر
فكل ما استعمل من ألفاظ في رسم هذه اللوحة هو من معجم شعر التصوف من (الوجد) إلى (الفيض) إلى (الشعائر) و(الملكوت القدسي)، فلولا تحديده المقصود بالشعر لظنناه يتكلم في الحب الإلهي.
وهو يلخص موقفه من الحب الخالد في (ناشئة) القصيدة التي دلـّـل بذكره اسم (الأسودي ) شريكه في تجربة الشعر ، دلـّل على عمق الارتباط بين كلا الشاعرين ، وقال مختتماً إياها:
الحــــــب فــي أجلــى المنــازل بــــارزٌ =فأنــخ لــــه قيم المحبـــــة واسـجـدِ
والحب عنده أيضاً وسيلة لاكتشاف الحقيقة :
الله لو صدقت شئون صبابتي
واستيقظت في مهجتي
شمس الحقيقة
وفي الجانب الآخر نجد نقيض هذا الموقف، وذلك عندما يتخذ موقفاً من الحب الدنيوي القائم على تحري الغرائز والرغبات الزائلة ، إذ الشاعر يسخر بفظاظة من الحب القائم على الغرائز الحسية، ويرسم صورة منفرة لهذا الحب ، فتفصح ألفاظه بفجاجة عن قيمة هذا الحب لديه ، و تتلاشى مفردات التصوف، ومن ذلك: قصيدته (الجرة الفارغة)، التي يدل عنوانها على محتواها:
إلى رعبوبة أذكت العيد في عارشات"المعلا" .. بخوراً وضوءاً
«1»
لها زغب المعصرات الحبالى
تشاطره حلمة الجب
والجرة الفاغرة
«2»
تلفحهم باشتعالات ناقوسها
حين يعتادها
شبق الوقفة البكر
والقزعة الثائرة
مصادر البحث :
(1)ينظر تصوف الغرب الإسلامي (معجم مصطلحات التصوف الفلسفي ، مصطلحات التصوف كما تداولها خاصة المتأخرون من صوفية الغرب الإسلامي) . د. محمد العدلوني الإدريسي. دار الثقافة . الدار البيضاء . ط1. 2002م . ص 64.
(2) ينظر التصوف بين الإفراط والتفريط . د. عمر عبدالله كامل . دار ابن حزم. لبنان. ط1. 2001م. ص 20.
(3) ينظر التصوف بين الإفراط والتفريط . ص 83، و112.
(4) ينظر الشعر الصوي في اليمن حتى نهاية القرن التاسع الهجري (دراسة موضوعية وفنية) عبدالله حمد علي بانافع . رسالة ماجستير . كلية التربية/جامعة عدن. 2006م.
(5) بوابة الشجن . الطبعة الأولى . 2004 . ص 15.
(6) بوابة الشجن. ص 35 و36.
(7) شعر عمر بن الفارض (دراسة أسلوبية) .رمضان صادق . الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998م. ص20