إليكَ أبي..
أبي،
تراني كعادتكَ، جالسةً، أرقبُ النجمةَ الأولى وهي تطلّ من شرفتها، لتأخذني إلى حزنٍ مازالَ يحرِقُنا..إلى أمّي ، تراقبنا، كلما هجعَ الحزنُ واستيقظت الأشواق.. أعلم، أنها مازالت تعيش بنا مطراً أخضرَ، يكفينا كل زهرِ عمرنا الباقي..
أعلمُ بأنّك، من أجلي، تنسجُ الصمتَ الجميلَ، وتعتني بحديقةِ قلبي، تسقيها كلّ صباحٍ بغيثِ حبكَ، وتملأ لي كأساً، بل كأسيْنِ، بل كؤوسَ حنانٍ لاتتقنُ ترتيبها، وتُحضِرُ لي من أرضِ القمر، في كل رحلةٍ لكَ إليه، باقاتِ ضوءٍ تخضبُ بها زوايا قلبي، وترمّمُ بها بقاياه وبقايانا، وترتبُ بها أيضا بيتنا الذي اعتزلَ البوح مذْ رحلتْ حبيبتُه، فَأعلنَ العصيان علينا، ثمّ انزوى بِذكراها يكتب شعــرَه فيها..
أعلمُ، بأنكَ تنقلُ أعشاشَ الطير إلى جرحي، لتهدأَ غضبةُ الأحزان وتغفو، ولأفتحَ للشمسِ المُراقةِ على كبدي، كلّ الأرصفة والمدائن التي اغتيلتْ.. فقدْ تقتنعُ الشمسُ أخيرا بأنني أرسم لها شكلا آخر للإشراق..أعلمُ، أنكَ، كلما نمتُ بين الذكريات سرًّا أو جهراً، تتسلّلُ إلى قلعةِ أحلامي، بِرِفقٍ، لتحرسها من دمعةِ الخوف، من نومةِ الزهر، منْ مزنةٍ أودعَتني سرها ثمّ رحلتْ، لتُحضِرَ الليلَ في يدها..أعلمُ، أنّكَ حللتَ معادلةَ الصمت التي نبتتْ بيني وبينك..وعثرتَ على مفتاح السرّ الذي أخفَته تقاسيمي عنكَ، فقدْ قرأتَ الوشمَ الذي نقَشَتْهُ أمي بالقلبِ قبل أن ترحل، قرأتَه مُهراقاً على جفنيّ، في غفلةٍ مني وأنا أجمعُ، لك،َ من شواطئِ الورد أغنيةً تتعلمُ لغتَه..
ولكنْ..!!
أتعلمُ، يازهرةَ عمري الثانية! بأنني أخبّئُ شمعةَ حزني عنكَ، أُشعِلها حين تنام، وأطفِئها حين تقوم، وأرقبها حين تسافرُ إلى مدنِ الملح لتُذكي شُعلَتها، ثمّ تعودُ إلى ضلعي لتحفرَه، أو إلى جفني لتُرضعَه؟؟ أتعلمُ أنّي أخبئها، عنكَ، كي لاتقرأَ تفاصيلَ الألمِ على وجهي؟؟؟ وماكنتُ لأحتملَ حزناً واحدا يلدغُكَ أو يأخذك مني إلى سجنِ الوجع..
أبي،
أتعلمُ، أنني، أشتاقُ لها، شوقَ الأرضِ للمطر، شوقَ المُغتربِ للوطن، شوقَ الوردِ لقطرات الطلّ التي تُحييه؟ لكنني جعلت ُالكتمان لي وتراً، وقريضاً كتبتُه بماء الشؤون ومدادِ الرمّان، أخفيه بأدراجِ القلب، وأجمع لذلكَ كلَّ أحزاني وأشواقي لها، بحقيبةٍ دفنتُها بمدارج الروح..فقط لتظلّ أنتَ دوماً، وطناً للبسمـة والصُّبْــح..
أبي،
لاأدري إن كانت رسالتي هاته ستصل إليك، أكتبها لكَ بيراعٍ صنعتْه لي مسافاتُ الوجع، وأوطانُ الصمت الكبرى، وقبائلُ اليمام التي ماتزال تأخذني، كلَّ جرح، إلى مضاربها، لنحتفلَ معاً بعيدِ شوقنا الأول لحبيبةِ قلبيْنا.. قدْ أبعثُ رسالتي بطوقِ يمامتي البيضاء، أوبأصدافِ البحر، أو بضفائرِ زهرةِ البنفسج التي تؤسس على مكتبي مملكةً للورد.. قد أبعثُها بقافلة القمر التي سيبتدئُ خطوها بعدَ منتصفِ الشوق، وقد تقطع كل مسافاتِ الوجع قبل أن تصل..أو ربما، أترك رسالتي هنا..لتكملَ إخفاءَ ملامحها، ثمّ أعود مرة أخرى إلى معادلةِ الصمت، وأبحثُ عن مفتاح آخر للكتمان، وأعيد ترتيبَ طقوسِ البسمة وفْقَ وقتِ طلوع الشمس، كي لاتغيب عنكَ و ....عنّي...