[size=4]
متى نحتسي القهوة في روابي عمان ؟؟
شريط الذكريات
زياد جيوسي
أخي جهاد00لقد نكأت كلماتك جراح الوطن في نفسي, أعدت إلي ذكريات طفولتنا, أشعلت نار الحنين في نفسي إلى مدينتين00مدينة أحيا بداخلها و مدينة تحيا بداخلي00
رام الله التي نشأت بها بداخلنا بذور الوعي, عشق الثقافة, عندما كنا نتألم للحصول على مجلة مصورة أو كتاب للأطفال نلتهمه التهاما, عندما كنا نوفر أجرة المواصلات كي نشتري مجلة أو كتاب, ونسير المسافات على أقدامنا الغضة للوصول للمدرسة أو العودة منها00
رام الله التي بدأت أنت فيها ( فك الحرف ) في المدرسة, بعد أن كنت قد سبقتك بعامين دراسيين في روابي عمان00
عمان التي كانت حاضنتي الأولى, وفيها بدأت الدرس الأول في الحياة00 إ قرأ00درس أعطاه الله سبحانه لرسله وأنبيائه00
قرأت الحروف لأول مرة في مدرسة عظيمة ومقدسة00ليس على مقاعد الدراسة, وليس تحت ظلال شجرة الكتاب00بل على يدي معلمة الكون00والدتنا00هذه ألامرأة البسيطة العظيمة, التي بوعيها الكبير ودراستها المتواضعة, علمتني كيف ( أفك الحرف )00وأن اقرأ وهي تعد الليالي بانتظار عودة فارسها ( الوالد ) من عمله المتنقل بين مدينة وأخرى, كعسكري لا يملك من أمر قراره شيئا00
كنت أنت صغيرا 00كان عامين من فرق العمر بيننا تعني الكثير في تلك المرحلة00كنا وما زلنا أصدقاء00وكنت أنت ( وما زلت ) الطفل المدلل عند الوالد بشعرك الأشقر وعيناك الخضراوين00ربما لأنك كنت تشبهه اكثر00وكنت أنا ببشرتي الحنطية وشبهي من الوالدة, وكوني الأكبر لديها00الاقرب لها00فكنت اسهر الليالي معها وهي تقرأ بكتاب في زمن انعدمت فيه وسائل الحضارة الحديثة, فلم يكن لدينا تلفاز أو وسائل إعلام وتسلية, وكان لدينا مذياع لم نستمع إليه, لسبب بسيط أنه لم يكن لدينا كهرباء00 وكان المذياع جزءا من مهر الوالده00
كانت الوالدة تقطع الليالي, تقرأ على مصباح يعمل ( بالكاز ) وأنا أندس إلى جانبها, وقليلا00قليلا00 تعلمت ( فك الخط ), وبدأت اقرأ00
لهذا ما زالت عمان عندي ( حبة الفؤاد والعينين ), وما زلت أقول بعد أن أصبحت في الخمسين من العمر 00( أنا وعمان كبرنا سوى )00
ما زالت عمان عندي, بذرة الوعي وعشق الثقافة والأدب00نشأة الكلمة00نمو الشخصية00ما زالت وستبقى صفصافة باسقة مزروعة في النفس لا تنسى, وستبقى تحييا في داخلي وتسكن مني القلب, رغم سنوات وأد الحرية التي عانيتها فيها00
أعادتني يا أخي وصديقي كلماتك سنوات وسنوات إلى تلك الايام00الى عمان الصغيرة التي كبرت بنا وكبرنا بها, أعدتني إلى ذكريات ما زالت صورها في ذهن طفل عايشها, ذكريات عمان وأحيائها00الملفوف والخرفان والاشرفية والتاج والشعيلية والدبايبة والمريخ والنظيف والجوفة والأرمن وغيرها, من أحياء سكناها وتنقلنا بينها00 من الملفوف الذي تنطبع في ذاكرتي منه, أولى صور الوعي لعمان00 الذي كنا نرى منه سيل عمان وفيضانه في الشتاء, فيقسم عمان إلى قسمين, يموج في وسطها كأنه شلال موجات من الذهب جار بطريقه ما يجده00كان ذلك سيل عمان, الذي كان أشبه بنهر هادر في الشتاء, وتحف جنبا ته الأشجار وبساتين الفواكه بالصيف00ولا اعلم إن كان قد تبقى منه شيئا تحت سقفه الحالي, فآخر عهدي به قبل أن يسقفوه, خيط بسيط من المياه, لا علاقة له بما عرفناه00
أعدتني إلى وسط المدينة, ونافورة المسجد الحسيني الكبير, التي كانت معلما ومركزا للراحة, ونقطة لقاء الغرباء00
تذكرت المصرفين العملاقين, العربي والعثماني في شارع السعادة, والجزرة في وسط الشارع, التي كانت موقفا للسيارات المتجهة شمالا000يا الله كم تغير الزمان وكم تغيرت عماني00نفس الشارع الآن يختنق بأزمة السير ويموج بالمركبات التي تملئه00ما زال المصرف العربي قائما وشاهدا, بينما ذهب العثماني وأصبح مكانه مركزا للشرطة ومكاتب ومحلات تجارية00
تتدفق الذكريات إلى مصدار عائشة. والى الدير القابع في منحدره, والى بداية جبل النظيف مقابل ما عرف بشارع بارتو, حين سعت الحكومة لتوسيع الطريق عند منحنى صعب وشاق, فإذا الأرض تنشق عن قبرين رومانيين, وتدفقنا مع المئات من الناس, وأنا امسك بيدك خوفا أن تضيع مني في لجة الطريق00للنظر لهذا الكشف قبل أن تنقله الحكومة للمتحف, ولأول مرة بحياتي أرى هيكلا عظميا في مثواه, ولم استطع لصغر سني أن افهم شيئا, أو أن أجيب على تساؤلاتك البريئه00
وما زالت الصورة مرسومة بالذاكرة00وتجول الذكريات إلى بيادر القمح بالا شرفية, التي لم يكن بها إلا أربعة معالم لا تنسى, أضيف لها خامس0
الإصلاحية وهي سجن الأحداث على رأس التل, والتي تحولت لمبرة أم الحسين, لتحتضن أطفال جنى عليهم الدهر أو الأهل, ودار النهضة والتي لا أعلم إلى ما آلت إليه, بعد هذه السنين, والمستشفى الجراحي الرابض في أعلى الجبل, بين حر ش من أشجار الصنوبر والسرو, والذي توسع وكبر, وأصبح مستشفى البشير00
ما زلت أذكر الأساطير التي حيكت حوله, وحجم الخوف الذي كان يلبسنا إذا مررنا من هناك, فقصص الأشباح الذين يخرجون من غرفة ( عزرا يين ) كما كنا نسميها, كانت تسيطر علينا, فكان قلة من يجرؤون أن يمروا من هناك بعد غياب الشمس00 ترى لو أن المئات من الذين دفنوا في حفرة ضخمة, تقبع في أحد زواياه, في لحظة من لحظات غياب العقل00 لو أنهم دفنوا أيام طفولتنا00 كم من القصص ستخرج من الخيال الشعبي عندها 00؟؟؟
ورابع المعالم هو الكنيسة المتربعة على التل, مواجهة لجبل القلعة والقصور00 الكنيسة ذات الجرس الصامت, والتي اذكر عش الحمام في برجها منعما بالهدوء والسكينة00
والمعلم الخامس الذي أضيف هو مسجد أبو درويش, هذا المسجد الذي بناه ذلك الشيخ الجليل القادم من القوقاز, ليكون رحمة لآخر ته, ودعاءا له من المصلين, وصدقة جارية ما دام هناك من يصلون به00
ذاك المسجد الذي بني من حجارة بيضاء وسوداء, فكان آية بالجمال, وأنموذجا من البناء لم تشهده عمان من قبل00
أتذكر يا صديقي يوم افتتاحه 00؟؟ عندما كان رجال ( الدرك ) يحملون سياطهم المشهورة, لتنظيم دخول آلاف الأشخاص الذين تدفقوا من اجل التمتع بآيات من الجمال لم نعهد ها من قبل 00
كانت ذكرى افتتاحه, وانبهاري بسجاده وثرياته وزخرفه, ذكرى لا تفارقني, حتى دار الزمان دورته, وعدت إليه في بداية الشباب, لأكمل مرحلة الثانوية, في المدرسة الرابضة اسفله00
أعدتني يا أخي بكلماتك سنوات وسنوات00 وما زال معين الذكريات يتدفق كشلال ضوء, انبثق فجأة من خلف غيمه00
أذكر يومي الأول بمدرستي الرسمية الأولى - مدرسة عبد الرحمن بن عوف -الواقعة ما بين حافة المخيم, وبداية العمران الزاحف, وحافة الصحراء, فكانت خليطا من التلامذة, القادمين من الحضر والقادمين من البادية00
اذكر عندما أتى العم أبو عبدا لله, ليأخذني إلى المدرسة في يومي الأول, وكانت المدرسة قد بدأت منذ فترة وأنا لم التحق لأني اصغر من السن المطلوب قليلا00واعطتني الوالدة زوادتي الأولى ( خبزة متضمخة بالزيت والزعتر ), وهل كان لنا أن نعرف غيرها ؟؟ ومصروفي الأول الذي كان الحاجب لي من رهبة المدرسة ( تعريفه ) كما كنا نسميها, أي خمسة فلسات كامله00وحقيبة صغيرة لا اعلم من أين حصلت عليها, وان كنت أجزم أنها لم تشتريها فلم تكن تمتلك ثمنها00 وقلم رصاص ودفترين00
أدخلني العم أبو عبد الله, وهو يرتدي بزته العسكرية, ونجمة أو نجمتين تتلألئان على كتفيه, عند أبو علي مدير المدرسة, والذي كان مكتبه في زاوية من صالة المدرسة00فلم تكن المدرسة سوى صالة تتوسط أربعة من الغرف تحتوي بجنباتها الطلاب من الصف الأول إلى الصف الرابع الابتدائي, وكنت هزيل الجسم وزادني من رهبة الموقف هزالا, وقال له00 هذا الولد الذي قلت لك عنه, لك يا أستاذ اللحم ولنا العظم00
ووقفت بيناهما لا أدرك شيئا00مدير المدرسة الذي حمل عصاه ووضعها تحت إبطه, والعم أبو عبد الله ببزته العسكرية, ومسدسه على وسطه00
شعرت لأول مرة برهبة السلطة00سلطة المدرسة وسلطة الجيش00 ونادى المدير على أستاذ ما وقال له: خذ هذا الولد عندك وأخبرني إن كان يصلح, وان لم يكن فأبقه مستمعا للعام القادم, فهو اصغر من السن القانوني00
أمسكني المدرس بحنان من يدي, وما زلت اتسائل00هل كان المدرس حنونا يومها, أم أنه تصرف كذلك أمام رهبة السلطة المتمثلة بوجود ضابط من الجيش !! وأدخلني الصف00ووقفت لحظات خلتها الدهر00وكل عيون الطلبة محدقة إلي, وقال لي المدرس: حظك جيد00 هناك طالب غائب اليوم, سأجلسك مكانه في آخر الصف ولكن لا تحضر غدا إلا ومعك مقعد صغير والا ستجلس ارضا0فأنت متأخر ولا يوجد مقاعد فارغة00وكان كل مقعد يجلس عليه ثلاثة من الطلبه00
كانت الحصة الأولى باللغة العربية, كان هذا من حسن حظي, كانت بعض الكلمات مكتوبة على اللوح00 وفجأة قال المدرس من يستطيع القراءة ؟؟0رفعت يدي00نظر إلي المعلم باستغراب00أنت !! هل تقرأ 00 تحشرجت الكلمات في حنجرتي, بالكاد استطعت أن أقول نعم00اذن اقرأ00 استجمعت شجاعتي وقرأت00ولم اشعر إلا بيد المعلم تتناولني من مقعدي, ذاهبا بي إلى المدير قائلا له00هذا الولد قرأ الدرس المكتوب على اللوح00
نظر إلي أبو علي 00هل قرأت00نعم يا استاذ00اذن امامي00ساقني أمامه للصف وطلب أن أقرأ00وقرأت00لم أكن متفهما لما يجري, كنت خائفا جدا, أشعر أنني اقترفت ذنبا لا اعرفه00وهنا طلب من الطلاب أن يصفقوا لي00لماذا وكيف لا اعرف00
سألني من علمك القراءة00 قلت له باعتزاز00أمي يا استاذ00كم أنت عظيمة يا أمي00كم اذكر هذه اللحظات التي ميزتني عن غيري, وكم شعرت بالفخر والاعتزاز بأمي وما زلت00
جاء الربيع00وجائتني معه تجربة جديده00فالوالد نقل إلى القدس, وفاجئنا باكتراء بيت هناك, وكان لا بد من الرحيل, ولكن لم يكن لدي من انتقال من المدرسة, فتقرر تركي لدى جدتنا لأمي رحمها الله, ولأول أيام حياتي أعيش بعيدا عن دفء الوالدة وعنك00شعرت باليتم مبكرا, فلم يكن لدي من صديق غيرك, وغالبت دمعاتي وأنا أودعكم, وبقيت صامتا, فقد تجمد مني الحس والدمع أمام جبروت نظرة الجده00
تجربة جديدة أن تعيش بالمخيم, لاجئ جديد بعيد عن أهله, يضاف إلى لاجئين طردوا من ديارهم, كنت لا اعرف ماذا تعني كلمة لاجئ00 ورويدا رويدا بدأت اعي معنى التشرد وفقدان الوطن والبيت00
كان بيت جدي في المخيم, يموج بالعدد الكبير, فالجدة ولود والأعداد كبيرة, بالكاد أجد لي زاوية أتكور بها لأنام, على حاشية رقيقة من قطع القماش التي جمعت مع بعضها, وكان اسمها ( جنبية ), بالكاد كنت اشبع من الطعام, فالجدة تقسم الطعام لكل حصة بماعون صغير وقطعة من الخبز, وكانت ترسلنا لنأكل في مطعم وكالة الغوث أياما, على بطاقة منحت للاجئين, وكان علي أن أتدبر أمري بين هؤلاء الأطفال والا حرمت من الطعام, رحمها الله كانت ظروف الحياة تجبرها على القسوة, بعد أعوام العز التي مضت في فلسطين, والتي كانت تتحدث عنها بكل ألم وأسى, والجد الطيب الرائع الحنون يقول لها بألم صامت, وحدي الله يا (مره )00رحمه الله كم كان طيبا ورائعا, ولعل طيبته وحنانه, هو ما كان يواسيني بألمي الصامت بعيدا عنك والوالدة00
جاء الصيف00 وانتهت السنة الدراسية, وحضر الوالد بلباس الشرطة, على دراجته النارية, وقبلت يده وهو يقف عملاقا ضخما فارعا بالطول, مفتول العضلات, وسألني حضر حالك بدك تروح للبيت00وسألني عن شهادة المدرسة وأحضرتها له, وأنا ارتجف كورقة في مهب الريح, وأبتسم مغادرا وقال سأعود بعد ساعة لأخذك00
قامت الجدة فورا وسخنت الماء, ونادت إحدى خالاتنا الكثيرات وقالت لها ( حميميه ) وخليه يروح لأمه نظيف 00وبعد الحمام ألبستني جدتي بنطا لا بصدر ازرق اللون ذو أزرار ذهبية لامعه00قالت لي هذا( طلع) لنا ( بالبقجة ) وهي ملابس كانت توزعها الهيئات على اللاجئين, وأخفيته لك00قل لامك هذا من جدتي, واحذر أن تقول لها إنني كنت اضربك00لا تغضب مني يا جدتي فأنا أمك التي أرضعتك, وأنا احبك00ولأول مرة اكتشف أن لي أما أخرى هي التي أرضعتني كما أرضعتك أيضا ومازجت دمنا ولحمنا بحليبها00
وجاء الوالد00 ووضعني بسيارة مع أناس غرباء, وسار أمام السيارة بدراجته النارية, وأنا انظر يمينا و يسارا, أتأمل بطريق يتلوى من عمان للقدس, تحيط بمجنباته الوديان أحيانا, والأشجار أحيانا أخرى, وأنا اشعر بالفخر والوالد يتموج على دراجته إمامنا, فاتحا لنا الطريق خلفه00فكأننا موكب رسمي00
وصلنا إلى القدس وكانت لحظة لقاءي بك وبالوالدة, وأنت تصرخ فرحا و تجمع ألعابا لا تزيد عن قطع من الأخشاب متروكة وتقول لي 00كنت ( مخبيها ا لك عشان تلعب معي ) ولعبنا, وأخذتني للحارة بين أبناء الجيران متباهيا, تقول لهم هذا( اخوي ) القادم من عمان00
كانت أيام لا تنسى, كان بيتنا المستأجر( كالعادة ), يقع في أعالي وادي الجوز في القدس, وكانت خلفنا مباشرة قلعة ( هداسا ) وكنا نرى اليهود من بعيد, ونلعب قرب السلك الشائك الذي يحيطهم, ونسمع القصص الخيالية عن هذه القلعة, التي كانت معزولة لوحدها عن القدس الغربية المحتله00
وبدأت الدراسة00بمدرسة جديدة بكل شيء, بطلبتها ومبانيها وساحاتها ومدرسيها, كانت تختلف تماما عن مدرستي السابقة, كان اسمها مدرسة خليل السكاكيني, وفيها عرفت بداية الوعي الوطني, فقد كنا نجمع الفلسات التي نأخذها مصروف لنا, وندفعها لدعم ثورة الجزائر, وكانت الصفوف تتنافس فيمن يدفع أكثر, فكلما جمعنا خمسون فلسا, كان توضع لنا صورة صغيرة لمليك البلاد, على لوحة خاصة داخل الصف, وفي السكاكيني أيضا عرفت لأول مرة تعبير الغضب الوطني بالحجارة ضد المحتل, فقد كانت هناك قافلة تمر برعاية الصليب الأحمر قادمة من هداسا إلى القدس الغربية, مرتين بالأسبوع لتنقل التموين لليهود في هداسا, والتي تبين بعد حرب حزيران أنها كانت تنقل السلاح والعتاد والرجال أيضا, وكانت القافلة تمر من أمام المدرسة, وكانت الشرطة العسكرية تطردنا من الساحة المطلة على الشارع, إلى ساحة أخرى من ساحات المدرسة, ولكن هذا لم يكن يمنعنا من التسلل وضرب الحجارة على القافلة00ورغم قصر الفترة, إلا أن مدرسة السكاكيني بقيت منقوشة بالذاكرة ولم تزل00 ترى 00 هل هو نسيج الذكريات الذي أعادني بعد أن عدت لرام الله عام 1998 إلى الالتصاق بمركز خليل السكاكيني الثقافي, حتى وصلت إلى هيئته الإدارية عضوا منتخبا ؟؟
في القدس ارتسمت بذاكرتي صورة الأقصى وقبة الصخرة والقيامة, عندما أخذتنا الوالدة لزيارتها00وكانت المرة الأولى والأخيرة00 فما طال المقام شهرين من بدء المدرسة حتى عدنا إلى عمان من جديد, وعدت أنا إلى مدرستي السابقة00
ما أن اكتمل العام الدراسي, حتى كان الوالد قد نقل إلى رام الله وحان موعد الرحيل مجددا, فاكترى لنا بيت في رام الله على أطراف بيتونيا بعيدا عن البلدة, بل اقرب لرام الله من بيتونيا, وكنت أسائل نفسي دوما لما يختار الوالد المنازل البعيدة, البعيدة عن المدرسة والبعيدة عن الناس وعن اقرب بقاله حتى00
شددنا الرحال إلى بيتونيا, بلدة جميلة بحق, كان بيتنا الذي تذكره جيدا جميلا, في حي كل بيوته الحجرية الحديثة خمسة منازل وكل مستقل بذاته, ودخلنا المدرسة أنا وأنت لنبدأ مرحلة جديدة بحق, مرحلة من أجمل المراحل وأكثرها أثرا في حياتي, مدرسة تستحق اسم مدرسه, معلمين عظام يعتبر غالبيتهم التدريس رسالة أكثر من مهنة, وفي مكتبتها الكبيرة وعلى أيدي مدرسينا بدأت التهم الكتب التهاما, وبدأت مداركي بالتوسع رغم صغر سني, وساهمت ثقافة الوالد وتفتحه على الفكر القومي والناصري, بزيادة كم المعارف لدينا, كان لا يتأخر عن إحضار مجلات كنت التهمها, مثل العربي الكويتية وآخر ساعة والمصور والكاتب المصرية, وان كنت أواجه صعوبة في فهم ما يكتب بمجلة الكاتب من موضوعات زخمها لا يتناسب مع عمري وسني, وما كان الوالد يبخل علينا بشرح بعض المسائل التي لم نفهمها, فمنه عرفت عن عبد الناصر الكثير, وعن ثورة السلال باليمن, وكثير من قضايا تلك المرحلة00
ولعل موقع البيت الذي سكناه, بعيدا عن البلدة, في قلب منطقة تزدحم بالأشجار من كل الأنواع, والهواء العليل النقي, والطبيعة الخلابة, ساهمت كلها بتوسيع مداركنا, ففي تلك الفترة اشتدت لدي رغبة الرسم, وصنع بعض القطع الصغيرة الجميلة, من لحاء شجر الصنوبر, وكنت اعتمد من أزهار الربيع ألوانا بدل أقلام الألوان الصناعية الغير متوفرة دوما, فهي علبة صغيرة من خمسة أقلام, كان علينا أن نكمل بها العام الدراسي بطوله, فكان لا بد من بديل, هذه الهواية التي لازمتني حتى تزوجت, وانغمست بالحياة العملية, فابتعدت عنها, وان ما زلت لا يفتني معرض للفن اعرف عنه, وكنت وكلما سألت من احد عن ابتعادي عن الرسم والفن, أجيب مبتسما00 كنت ارسم باحثا عن الجمال00 لقد تزوجت من امرأة أجمل من كل اللوحات التي رأيتها00فاكتفيت00
عامين من أجمل الأعوام قضيناها في ذلك الحي الهادئ الجميل, والذي أصبح الآن بعد أن عدنا إليه زوارا بعد ما يزيد عن الثلاثون عاما, لا هادئا ولا جميلا, فقد اختفت أشجاره, وتزاحمت منازله, وأصبحت ذات ادوار عديدة, ولوثت أجواءه المصانع وورش تصليح السيارات 00
فترة لا أنساها, ولا انس قسم من المدرسيين, الذين طبعوا بصمتهم في صفحات نفوسنا, وفي بناء شخصياتنا, وفي توسيع مداركنا00 ولعلي لا أنسى ولن أنسى مدرس اللغة العربية, الأستاذ خالد الأسمر, لما كان له من دور لا ينسى, ولعلي عندما عدت إلى رام الله, بعد غياب طويل سارعت بالبحث عنه, وكنت كمن يبحث عن إبرة في كوم قش, حتى التقينا ذلك اللقاء العاطفي الجميل, بعد أن لم أراه طوال أربع وثلاثون عاما, وحين انحنيت على يده مقبلا إياها, بكى وترقرقت الدموع في عينيه, فرحا أن يجد طالبا كان عنده طفلا, يبحث عنه ليراه بعد أن أصبح رجلا يخط الشيب ما تبقى من شعره, وبعد سنين طوال00 ولا أنسى يوم رأيته مرة في الطريق بعد لقاءنا بفترة, وبيدي لفافة من التبغ, فلم أتمالك نفسي وألقيتها أرضا, خجلا وخوفا, وكأني ما زلت ذلك الطفل الذي يلعب في ساحة المدرسة وملاعبها, وهو ضحك وقبلني وربت على كتفي, وقال لي ما زلت أنت تلميذي الذي اعتز به وبتربيتي له00
وفي هذه المدرسة, تفتحت عيني على معنى المظاهرات والاحتجاج, فكانت أولى الأحداث التي عايشتها, حين انطلقنا في تظاهرة احتجاجا على تصريحات الحبيب بورقيبة, ومظاهرات الاحتجاج والاستنكار, للغارة البشعة التي شنها اليهود على قرية السموع000
انتقلنا بعد عامين لبيت جديد, في مدخل مدينة رام الله, منطقة هادئة وجميله, ولكنها تفتقد المساحات الخضراء, التي عشناها سابقا, ولكنها فترة جميله عرفنا فيها رام الله أكثر, فنحن أصبحنا أكثر قربا من وسط المدينة, والتصقنا بها وعشقناها00
وفي هذه الفترة تنقل الوالد بعمله مرة إلى أريحا, ومرة إلى بيت لحم, ورفضت الوالدة الانتقال معه, حرصا على دراستنا وحبا لرام الله التي أحبتها كثيرا00
حتى كان ذلك اليوم المشئوم, حين استيقظنا على اشتعال حرب حزيران, وودعنا الوالد ملتحقا بعمله كعسكري منضبط, وتركنا مع الوالدة اطفالا00
لا أنسى تلك الأيام, وبالتأكيد انك لا تنساها, صوت العرب يتحدث عن انتصارات العرب, ونحن نقف على شرفة المنزل, ونرى الطائرات اليهودية تقصف ضواحي القدس, ونظنها طائرات عربيه تقصف بجيش يهود, والوالدة ترفع يداها إلى الله تضرعا ودعاءا00 انصرهم يا رب00انصرهم يا رب00حتى جاءت الطائرات إلى سماء رام الله وشنت غاراتها على محطة الإرسال الإذاعي, وجاء بعض من الجنود من المعسكر القريب, وقالوا للوالدة, غادري المنزل فقد سقطت القدس, وصدرت أوامر الانسحاب, خذي أولادك ولا تبقي فاليهود قادمون, ونحن مغادرون, وأنت صغيرة بالسن ونخشى عليك000
وفي هذه اللحظات, بدأت القذائف بالتساقط على المدينة, وغادرنا على عجل, واندفع الآلاف من البشر متدافعين إلى وادي العين, واختلطت الجموع بالجنود الفارين من ساح المعركة, ورأيت بأم عيني العشرات من قطع السلاح الملقاة بين الأشجار, وأذكر منها جهاز للتخاطب اللاسلكي الذي يحمل على الظهر, وصوت جندي ما يصرخ وينادي, وما من مجيب, والطائرات تحلق بالجو فوقنا, مما زاد من الرعب والخوف, حتى وصلنا إلى مغارة قادنا لها احد الجيران الذي التقانا ولم يتخلى عنا, وما زالت أصوات الناس الذين تفرقوا عن بعضهم البعض, وهم ينادون ويصرخون ترن في أذني, وقضينا أياما لا أذكر عددها في تلك المغارة, نقتات على ما تنبته الأرض, وعلى بعض المواد التي تمكن البعض من التسلل وإحضارها من البيوت, حتى سمعنا أن اليهود سمحوا لمن غادروا إلى البراري بالعودة رافعين الأعلام البيضاء00
عدنا رافعين قطعة قماش بيضاء, ووصلنا لبيتنا, لنجد جزءا منه قد تهدم, والرصاص قد اخترق نوافذه, عدنا وشعرت لأول مرة بذل الهزيمة, ومعنى الانكسار00عدنا ونحن لا نعرف عن الوالد شيئا00 احي هو أم شهيد, أتمكن من الانسحاب, أم أصبح أسيرا في الاصفاد00
كانت مرحلة صعبه, فالوالد مفقود, ونحن صغار بالسن, ولا أهل لنا ولا أقارب في المنطقة, شعور قاس بالغربة تشعر به وأنت في وطنك00وبدأنا نسأل هنا وهناك عن أخبار عن الوالد, حتى أتانا خبر أن سيارته شوهدت فارغة, في منطقة عقبة جبر في أريحا, وأن الرصاص قد زنرها, وأن دبابة قد سحقت قسما كبيرا منها00وهذا ما زاد بالألم والأسى والقلق00
حتى جاءنا النبأ مع متسلل ما عاد من شرق النهر, ليخبرنا أن الوالد في عمان ويطلب أن نلتحق به, وبدأنا بجمع القليل من الحوائج المسموح أخذها عبر الجسر المحتل, وغادرنا رام الله الجميلة عائدين من جديد إلى عمان, مرتع الطفولة والوعي, ولكن عدنا بقلوب كسيرة, وآلام في النفس لا تنسى, حاملين لقبا جديدا علينا00نازحين00
عدنا لعمان00والتقينا بالوالد والأهل والعشيرة, لنبدأ مرحلة جديدة في حياتنا, لعلنا نتذاكر ها يوما00
وها أنا الآن وأنا بعيد عن عماني منذ سنوات ثمانية لم أراها, تجول في النفس الذكريات, وتخترق حواشي القلب محبتها00وأصرخ من صدر يملؤه الشوق00
أما آن لنا أن نحتسي القهوة في روابي عماني ؟؟؟؟؟؟
06 كانون الأول، 2004\ رام الله \ فلسطين
http://groups.yahoo.com/group/RAMALLAH-ARTS/