يعودُ الى منزله مساءً بعد معاناة يومٍ طويل ..يطلق تنهيدة ً ضاقت بها أحشاؤُه بعد ما تخطّى ستين درجة من السلالم إلى شقته في الدور الثالث حيث يقبعُ وحيداً ..على عتبة منزله يتخلى عن معطفهِ المعبق برائحةِ العرق.. يلقي بحذائهِ عند الرّدهة ثم يتوجه لصنبورِ الماء المصلوبِ عند فناءِ البيت.. . صوتٌ كفحيحِ الأفعى يخرجُ من الصُّنبور قبل أن يهتز ليسح َّ بخيطٍ رفيع ٍ..يملؤُ كفّـيه ماءً ثم يلطمهُما بوجهِه، ..يدلّكَ جبينه ثم ينثر ما علقَ بأصابعه كأنّه يستأصل رهقَ يومه..يلقي بما في يديه ..هاتفََه المحمول ..مفتاحَ البيت ..مفتاحَ مكتبه في العمل ..محفظتَه المنتفخة بالفواتير والبطاقات الائتمانية ..تتلقفُ علاقة ملابسهِ سروالَه وقميصَه ..ثمَّ يلقي بنفسه على السرير..
يوماً طويلاً من العَناء يستعرضُه شريطاً يمرّ أمامَ ناظِريه ..ربما لا يختلفُ كثيراً عن غيره من الأيام، إلا انه متميزٌ بصَخَبه..ثلاثَ معارك شهدَها ولم يكن له ناقةٌ فيها ولا جمل..فهدوؤُه المعهود وطيبتُه الزائدة محطّ انتقاد زملائه..لكنّه راضٍ قرير العينِ إذْ ينأى بنفسه عن نزَقهم حيناً ومُلاحاتهم حينا آخر..
ما زالَ صفعُ الابواب وقرعُ الشتائم ما بين زملائِه في العمل يتردّدُ في أُذنيْه ......ثم صفعاتٌ أخرى في الحافلة العجوز أثناءعودته إلى بيته -على وجهِ شاب عاكسَ فتاةً.. انتهت بقذفه خارج الحافلة.. أما المشهد الأخير فعند بوابة العمارة ..دعواتِ الغضب و خراب البيت على ساكن الدور الثاني تطلقها مالكةُ العقار..فقد تأخر المستأجرُ عن السّداد أسبوعاً آخر على التوالي..
.. تمتمَ محدثاً نفسه ..هل يكون اليوم التالي كهذا اليوم ..ثم غطّ في سباتٍ عميق...
سريعا يأتي الصباحُ متربصاً بالباب..اخترقت أشعة الشمس زجاجَ نافذةِ غُرفته المتشقق..نهض بتثاقل..استطلع وجهَه في المرآة..تمتم: بالطبع أنتَ ولن يكون أحدٌ سواك.. ذهب لمصافحة صُنبور الماء..سرّح شعره بأطرافِ أصابعه..التقطَ ملابس أمسهِ من علاّقة الملابس..المفاتيح ..الهاتف المحمول..
سبقتهُ خطواتُه على الأدراج مسرعاً إلى عمله ،وصل لبابِ العمارة ،وقبل أن يخطو الى الشارع توقف متفاجئاً بحفرةٍ كبيرة في عُرْض الشارع..تراجعَ خشية أن ينزلقَ حتى اصطدمَ ظهره بالبوابة..ياللهول ..إنها تهوي لعدة امتار في العمق..تقدم بحذرٍ على شفا الحفرة..ما هذا ..إنها مالكةُ العمارة هنا في الحفرة..لا تزال تطلق صيحاتها ودعواتها... وها هو فتى الحافلة يتحسّسُ وجهَه بعدما تلقاه من صفعات..زملاؤه في العمل ها هم في الحفرة يتصايحون.....رفع رأسه محدقاً في الجانب الاخر..تفاجأ بجمهرةٍ من الناس يتجمعون ويشيرون له ..
- اقفز..صرخَ أحدُهم!
- لا ..لا ..إياكَ أن تفعل..إنها سحيقة..ناشده آخر..
- مثلُ هذا لا يقْدر ..هههه.. جبان..قهقه رجل متكرش..
صبيةٌ يتنادونَ للتجمّع أمامَ المشهد.. ثم ما لبثت أنْ تكاثرت الجموعُ.. رجلٌ متأنّق يمشي الهوينا و يتحدث في هاتفه المحمول كأنه يصف الحدث لآخرين..
رجلٌ عجوز يمرّ على الرصيف هناك..إنه "أبو نبيل" بائعُ الحمّص المسلوق يجرُّ عربته..يهزُّ رأسَه ويرسمُ نصفَ ابتسامة..ويشير له أن اعبُرْ برفق ..
-لا..لا .. ليس من مفرّ إلا القفز..حدثَ نفسَه..
فكّرَ أن يرجعَ للخلف حتى يتسع أمامهُ مدى الوثبة ، اصطدمَ بالسورمرةً أخرى....
ألقى بنظرةٍ على المشهد و قد تجمهرَ القوم ..هناك في الجانبِ الآخريتضاحكون ..يستهزؤون..ومَن أمامه في الحفرة يتصايحون..
هتفَ بمن في القاع :اِسمعوا .. انا لن اتردّى إليكم.. سأقفز ..نعم سأقفز..وليكنْ ما يكن!
... حلقَ بيديه..أغمض عينيه..ثم قفز!
...أفاق على قوائم سريره تهتزّ..انتبه من نومِه مذعوراً..تكوّم جالسا ً على سريره ..سكنهُ الأرقُ إلى حين ..ثم عاد إلى النوم بعد أن غلبَ تعبُ جسده هواجسَه.. لكن أشعة الصباح ما لبثت تتسللُّ وتلسعُ جفنيه.. إنه يومٌ آخر نصبَ أشرعته ولا بدّ من الالتحاق بالركب..
..نهضَ بتثاقل..استطلعَ وجهَه في المرآة..تمتمَ في وجهه المصفرّ: بالطبعِ انت ولن يكونَ أحدٌ سواك.. ذهبَ لمصافحة صنبور الماء..سرحَ شعرَه بأطرافِ أصابعه..التقط ملابسَ أمسِه من علاقة الملابس.. يحشو جسده فيها ..يلتقط المفاتيح ..الهاتفَ المحمول..محفظته..
...يتهادى بخطىً وئيدة على الأدراج..يخرج الى الشارع.. يتحسس بأقدامه الإسفلت واثقاً ..كان أبو نبيل بائع الحمص المسلوق يجرُّ عربته ..يهزّ رأسَه..ويرسم نصفَ ابتسامة..