الوصية الأخيرة لمحمود درويش
- أو ربابُ الحب السري -
1
و أنا أطالع صفحةً بيضاء
متكئا على وجع العروبة
في بلاد كالزبد
ما كان لي فيها حبيب أو صديق أو أحدْ
مرَّت بيَ امرأة و قالتْ :
" سيدي ،
إن شئتَ أقرأُ طالعكْ...
أشفق عليَّ
و مُدَّ كفكَ بالبياضِ
فقد وعدتُ بَنِيَّ
أَرجعُ آخر اليومِ الطويلِ
بما تيسر من رغيف الخبز
أو تمر و لتر من لبنْ ...
بعض الدراهم سوف تكفي
كي تَرُدَّ الجوع عنا…للأبدْ "
أفرغْتُ جيبي يومها
حتى تعودَ بما تمنتْ للصغارِ
و بالكرامة دون إتمام النهارِ
فلم تعد تدري أتبكي
أم تكابرُ دمعَها
و رَمَتْ على طبق قديم من جريد النخل
أحجاراً
و ظلت ملءَ كُل الوقتِ
تنظر للجريد و للحجارة ثم تنظر لي
و تنظر للجريد و للحجارة مرة أخرى
تحاول أن ترى ما لا أراهُ
و لا ترى
لكأنها عَمِيتْ
ففي طبق النبوءة
لم تَلُحْ رؤيا غدي
بل لم تكن تبدو خلالَه أيَّ بارقة لغدْ
2
في أول اللقيا سألتِ :
" أ أنتَ من يحكون عنه ؟ "
و لم أجب...
أدركتُ أنكِ لم تحبيني لأني شاعرٌ
لكن لأني آخرُ الفرسان في زمن السقوطِ
و كنتُ أدرك جيدا
ما الفرق بينهما
و كان الفرق : رائحة الشجنْ .
في البدء قسَّمنا مساحات القصيدة لاثنتينْ :
أُولى تليق بنا
و أخرى ليس تكفي للوطنْ
كنا معا
ندري و ننكر أن هذا الحب متهَم بنا
و بأننا في آخر اللقيا
سنجمع كل أمنية لنا
بحقائب الذكرى
و أشياءَ الطفولة في كفنْ
3
ما زلتُ أذكر حين قلتِ بأننا
يوما سنرجع للبلادِ
و سوف نعتزل السفرْ
...
ها قد مضى يوم
و عام تلو عام
لم نعد للأرض
ما زلنا نواصل تيهنا
في التيه
ما زلنا نواصل ما بدأنا
منذ كم ؟؟
ما عدت أذكر
ربما منذ التقينا
عند قبر من رخام
حيث نتلوا بعض آيات من الذكر الحكيمِ
و بعض أبيات من الشعر القديمِ
و كل من كانوا هناك
و من سيأتي بعدهمْ...
هذا و ذاك و هؤلاء...
الواقفون جميعهم...
زيف و مين و ادعاءْ...
الكل يشبه بعضه
الكل باسم الكل جاءْ...
الكل باسم الحزن ، باسم الجرح ، باسم الموت جاءْ...
كي يُسقِط الورد الأنيق
و يَلبس الحزنَ المزيفَ
و الأيادي نفسُها
نفس الأيادي كم تحنتْ
بالجريمة و الدماءْ
و هي الأيادي ذاتها
ذات الأيادي أعدمت خنقا شهيدا
هاهو اليوم الموارى في الثرى
تحت الثرى
و هي الأيادي عينها
عين الأيادي ليس يخجل رافعوها بالدعاء :
" يا ربنا
يا رب ما في البحر و الأرض السليبة و السماءْ... "
و هي العيون الكاذباتُ
تريق شِبْه الدمع ماءْ
4
ها قد مضى عمرٌ
و لا عنوان يجمعنا سوى هذا الشتاتِ
سوى محاولة التوحد في الضياعِ
و نحن نحترف المرور على العواصم
دون أوراق ثبوتية
نمر على المدائن و القرى
من دون أي هوية
يتكشف العريُ المواربُ بين مكر الأسئلهْ
" من أنتما ؟
أي انتماء فيكما ؟ "
من نحن ؟ نحن الضائعانِ
أنا الغريبُ عن المرافئِ
و المشردُ عند قارعة البلادِ
و أنت بعد صبيةٌ
ترتاب من حب أخبئه لغير عيونها
لحبيبة أخرى تقيمُ
على حواف البحر في مدن الرمادِ
و فيك تكمن ثورتي
شكي…جنوني…حكمتي
صوتي و صمتي و انتصاراتي
و فيك فواجعي...
و بداخلي منك التوكل و التيمن
و الرضا و الحِلم و الصبر الجميلُ
أنا و أنت العاشقانِ
أنا و أنت التوءمانِ
و إننا رغم التشابهِ
لا نطابق بعضنا
أنتِ التي في كل يوم تكبرينهُ
تصغرينك ألف يوم مثل حبات الندى
و أنا الذي إن زدتِ يوما
زاد عمري ألف يوم آيلا نحو الردى
شاخت بي الدنيا ربابُ
و أنت بعد صبيةٌ
و أنا عجوز
في خريف العمر أبدو
رغم أني
لم أُجاوز بعد عشرين انكسارا
لم أُجاوز بعد عمر الزنبقهْ
تهمتي صوتي
و صمتي صار مشتبها به
و المخبرون أتوا ورائي
يبحثون و يسألون الكف عني
كيف أضحت مورقهْ
و أنا فراشة ليلهم
في غفلة منهم هربتُ و قد مللت الشرنقهْ
لا أين يقبلني فأنجو
خطوة للخلف ألقى محرقهْ
و أمام عيني ينصبون المشنقهْ
و بكل حرف
مُدَّتِ الكلماتُ جسرا من لساني
صرت أعبُره إلى وطني
بلا إذن من الحراس أو أسيادهم
و من الكلاب على حدود مغلقهْ
إني عجوز
في خريف العمر أبدو مثقلا
أملا جميلا كاذبا
و الحزن ذاكرةُ العيون المرهقهْ
5
أنا لم أقُدكِ إليَ
أنتِ أتيتِ وحدك يا ربابُ
بريئةَ العينينِ
تتبعين حدسك في اكتشاف الحالمينَ
و كنت حالمَك الأخيرَ
و ما عرفنا قبلَ لقيانا
نزوحَ الظل من جهة الحنينِ
و لا عرفنا كيف تنقلب الجهات
من اليسار الى اليمينِ
و لم نفكر قبلُ في غدنا
و لا في أمسنا
أو يومنا المسروقِ منا
- مثل وَعْدِ الشيخِ بالثأر المخبئ في عماهُ
لأن آلافا سواهُ
تعلموا أن يصمتوا
حتى و إن فقد الفتى منهم أباهُ –
و كم نسينا أننا
نصفين نُكْمِل بعضَنا
كتشابك الكفينِ
نشبه بعضنا
كنا غريبين التقينا
فوق خارطة لنا كانتْ
و صارت للسوى
و اسمين كنا للمنافي
قبل ميلاد الأزلْ
طفلين كنا
لا نفرق بين عطر الياسمينِ
و بين أغنية المقلْ
عند التباس الوقت بين اللحظتينِ
و في برود القلب بين الغربتينِ
متى أردنا أن نسافر من جنوحِ الخوف
نحو الطلقة الأولى
و ميلاد الأملْ
6
محمود هذا اسمي
فلا تخشي إذا سألوك عني...
لا تعيديني شريدا بعد موتي
إن هذا الإسم أبقى
فاحمليهِ وصيةً
لا تهمليه و لو قليلاً
و اذكريني يا ربابُ
كما ذكرتُكِ دائما
و لتجعلي قبري ضريحا
للقصيدة و الإباءِ
و لانتصار الميتينَ
فقد يزار تبركاً
يأتيه أيتامُ النضالِ
أراملُ الأبطالِ
معطوبون
منكسرون
من كل الجهات
كما يزار الأولياءْ
فهنا يُلامَسُ دمعُ أمي
صبرُ جدي
صَمْتُ قبر فيه يرقد والدي
و أنا ورثتُ الصبرَ عنهمْ
صمتَهمْ
لكنهم ما ورثونا دمعَهُمْ
حِرْصاً على أن لا نقاوم بالبكاءْ
قَدَرُ القبائل أن تكيد لبعضها
أن ترتوي من بعضها
حلمُ البلادِ كغيمة الدخان
حملٌ كاذبٌ
لا شيء منتظر هنالكَ ،
لا هناكَ و لا هنا
لا شيء يحدثُ
كلما طلع الصباحُ بفرحة
يأتي بمأتمه المساءْ
إن متُّ زوريني
ضعي لي عند قبري ياسمينْ
كي يعرفوا أن الهوى
وطن لكل النازحينْ
...