تكلمنا في الموضوع السابق عن احد اسباب الجرس الشعري وارجعاه الى ذلك الاهتزاز الذي يحدث نتيجة الانتقال بين السبب المدي -مثل ما- والسبب الساكن -مثل من- والحركة المنفردة -مثل م. وبينا أن تناسق حركات هذا الاهتزاز تؤدي الى حسن الايقاع وأن تطابق الايقاع -بناء على هاته القاعدة- بين الشطرين من شأنه توقية الجرس في البيت. ووجدنا أن لتعاكس في الاهتزازات بين الشطرين من شأنه ان يقوي الجرس.
لكن قد يمكننا الاطلاع على أبيات باهتزازت متوازنة وقوية لكن نجد الجرس فيها تنقصه القوة والجمال والاستحسان فيه لا يرقى إلى مستوى أبيات مشهورة. لهذا قمنا بالبحث عن سر آخر من أسرار الجرس في في الشعر العربي العمودي
بعد ملاحظة عميقة واسقراء أولي وجدنا اختلافا قد يكون احيانا واسعا بين الابيات والقصائد من حيث استعمال الحروف. أبيات تكثر فيها النون والميم وأخرى تكثر فيها الجيم والقاف والضاد وأخرى السين والصاد... وان أكثر ما شد انتباهنا هوجمال هاته الأبيات رغم وجود هذا الاختلاف. فماكان منا إلا أن نستنتج مبدئيا تأثير الحروف على الأشعار.
ولدراسة مدى تأثير الحروف العربية على الشعر العربي العمودي وقوة الجرس فية, وجدنا أنسب طريقة استعمال تقسيم الحروف المعروف لدى علماء التجويد معتمدين في ذلك على المخارج والصفات وهو تقسيم دقيق جدا. لعدم الإطالة, فإننا نبد دراستنا هذه ببيان هذا التقسيم ولمن أراد الإستفادة أكثر يمكنه الرجوع إلى كتب التجويد.
لقد أحصى علماء التجويد سبعة عشرة صفة تقسم إلى قسمين:
- صفات لها أضداد وعددها خمسة هي:
الجهر وضدّه الهمس. الشدّة والتوسط وضدّهما الرخاوة. الإستعلاء وضدّه الإستفال.
الإطباق وضدّه الإنفتاح. الإذلاق وضدّه الإصمات.
ب- صفات ليس لها أضداد وعددها سبع هي:
1- الصفير. القلقلة. اللين. الإنحراف. التكرير. التفشّي. الإستطالة.
اعتمدنا في دراستنا على خاص على الحروف التي لها أضداد, على حروف الصفير التكرير
والتفشّي.
1- الهمس:
اصطلاحا ًهو جريان النّفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج. جمعت حروفه في قول " فحثّه شخص سكت ". وا تبقى يمثل حرف الجهر. هذا يعني أن
2-الشدّة:
اصطلاحا هي انحباس جري الصّوت عند النّطق بالحرف لكمال الاعتماد على المخرج، وحروفها ثمانية مجموعة في قول: (أجد قط بكت) وعكسها الرخاوة وتتوسطها حروف اللين وهي ما تبقى.
3- الإستعلاء أو التفخيم:
اصطلاحا ًهو ارتفاع اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، وحروفه سبعة يجمعها قول " خص ضغط قظ ". الترقيق أوالإستفال هو باقي الحروف.
4-الإطباق (أو الانطباق):
اصطلاحاً هو تلاقي اللسان والحنك الأعلى عند النطق بالحرف ، أو هو تلاصق ما يحاذي اللسان من الحنك الأعلى على اللسان عند النطق بالحرف، وحروفه أربعة هي: الصاد، الضاد، الطاء، والظاء. وهي ط ظ ص ض وأقوى حروف الإطباق الطاء وأضعفها الظاء المعجمة بينما الصاد والضاد متوسطتان في الإطباق، وحروف الإطباق لا تخرج من الفم إلا حين التصاق اللسان بسقف الحلق. وعكسها الانفتاح وهو باقي الحروف.
5-الاذلاق:
اصطلاحا هو خفّة وسرعة النطق بالحروف لخروجه من ذلق اللّسان والشّفة (أي طرفيهما)، وحروفه ستة يجمعها قول: " فرَّ مِن لُبْ "، ثلاثة تخرج من ذلق اللسان هي الراء واللام والنون (لِنَرَ) وثلاثة تخرج من ذلقِ الشّفة وهي الباء والفاء والميم (بفم). الإصمات يمثل باقي الحروف. لا يوجد كلمة رباعية أو خماسية إلا أن يكون فيها مع الحروف المصمتة حرف أو أكثر من حروف الذلاقة، فإن لم يوجد فهي كلمة غير عربية ثل عسجد.
-حروف الصفير هي "س ص ز".
-حرف التكرير هو "ر".
-حرف التفشي هو "ش".
نلاحظ مما سبق أن صفات الحروف الي لها أضداد تحدد مقدار القوة والضعف عند الحرف العربي. فصفات الجهر, الشدّة, الإستعلاء أو التفخيم و الإطباق تمثل القوة والثقل في الحرف وصفاتها العكسية الهمس, لرخاوة واللين, الترقيق أوالإستفال والاذلاق تمثل الضعف والخفة.
وانطلاقا من هذا يمكننا ان نوافق مبدئيا على وجود تأثير لصفة الحرف العربي على البيت الشعري من حيث الايقاع.
لبيان هذا التأثير قمنا بحساب نسبة -او كمية- كل قسم من هاته الحروف في البيت الشعري. انطلاقا من الدراسة قمنا في البداية بدراسة بيت المتنبي المشهور كالآتي:
البيت: الخيل والليل والبيداء تعرفني....والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لكتابة العروضية: ألخيل ولليل ولبيداء تعرفني..........وسسيف وررمح ولقرطاس ولقلمو
فوجدنا كمية كل حرف كالآتي:
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 08%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 12%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 10%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 19%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 36%
حروف التكرير..."ر"..........................: 10%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 07%
حروف التفشي..."ش"..........................: 0 %
نجد أن البيت يحتوي على نسب ضعيفة نسبيا من حروف القوة عموما -بين 08 و 12 % ونسبة كبيرة من حروف الجهر القوية المقابلة للمهموسة بنسبة 81%. يمكننا ان نستنتج ان شدة الايقاع في البيت تعود خاصة الى حروف الجهر وهذا ما جعله يختلف عن ابيات اخرى. نجده بالمقابل يحتوي على نسبة معتبرة من حروف الإذلاق والتي تتميز -كما قررناه سابقا- بخفة وسرعة النطق وهذا ما جعل البيت يبدو اكثر خفة وسرعة اضافة الى وجود حرف الصفير السين الذي ضفى عليه حدة واضحة -الشطر 2- وحرف التكرير الراء.
فهناك مزيج بين حروف الاذلاق ووالجهر خصوصا وهذا ا يميز البيت ويعطيه ميزتة.
نقوم بدراسة البيت الثاني -لامرئ القيس كالتالي:
فقلت له لما تمطى بصلبه....................وأردف أعجازا وناء بكلكل
فقلت لهولمما تمططى بصلبهي.............وأردف أعجازن وناء بكلكلي
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 08%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 34%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 11%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 06%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 36%
حروف التكرير..."ر"..........................: 03%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 06%
حروف التفشي..."ش"..........................: 0 %
نلاحظ أن البيت يحتوي على نسبة معتبرة من حروف حروف الجهرو حروف الإذلاق اضافة الى و حروف الشدّة وهذا ما يجله يبدو اكثر قوة.
في مايلي دراسة مقارنة للبيتين:
صفة الحروف...................................... .المتنبي.........امرؤ القيس.....الفرق
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 08%.........08%...........+00%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 12%.........34%............-22%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 10%.........11%............-01%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 19%.........06%.............13%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 36%..........36%.............00%
حروف التكرير..."ر"..........................: 10%..........03%.............07%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 07% .........06%.............01%
حروف التفشي..."ش"..........................: 00%..........00%.............00%
نجد ان بيت امرؤ القيس تميز بحروف الشدة بفارق 22% والجهر بفارق 13%و بيت المتنبي بحرف التكرير الراء, والحروف المهموسة بمقدار 13% والنسب الاخرى تبقى متقاربة جدا. فيمككنا ان نقول أن بيت امرؤ القيس يميز بقوة اكبر وجرس اقوى -ليس من باب الافضلية- لاحتوائه نسبة اكبر من حروف اللشدة وحروف الجهر.
نجد أن الشطرالثاني "وأردف أعجازا وناء بكلكل" لا يحتوي علي أي من حروف الهمس -كل حروفه مجهورة- وهو ما يمكن أن يفسر القوة الظاهرة عليه.
نلاحظ كذك ان حروف الإطباق والتفخيم او الإستعلاء تتواجد بنسب ضعيفة في كلا البيتن كذلك الحروف المذلقة تتواجد بنسبة معتبرة -36%- وهو ما يحدد نوعا ما استعمال هاته الحروف في البيت الشعري.
نقوم الآن بتوسيع التجربة لتشمل ابياتا اخرى حتى يتضح الامر اكثر.
عنترة : هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم...... أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ
إبن زيدون: أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا.....وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
صفة الحروف...................................... .عنترة.........إبن زيدون.....الفرق...
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 00%.........07%...........-07%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 24%.........43%............-19%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 02%.........10%............-08%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 22%.........15%.............07%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 29%..........47%.............-18%
حروف التكرير..."ر"..........................: 12%..........00%.............12%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 00% .........00%.............00%
حروف التفشي..."ش"..........................: 00%..........00%.............00%
نلاحظ أن بيت ابن زيدون يحتوي على كمية اكبر من حروف الشدّة -زيادة 19%-و حروف الإستعلاء و حروف الإطباق. هذا ما يفترض ان يجعل جرسه أقوى الا ان وجود حروف الإذلاق بنسبة كبيرة نوعا ما -47%- جعله يبدو اكثر خفة. وجود الراء في بيت عنترة جعله يبدو اكثر قوة.
فيما يلي بيت آخر.
الحب داء عضال لا دواء له ... يحار فيه الأطباء النحارير
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 06%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 34%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 06%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 17%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 50%
حروف التكرير..."ر"..........................: 09%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 00%
حروف التفشي..."ش"..........................: 00 %
يحتوي البيت على كمية معتبرة من حروف الشدّة وهو ما يجعل فيه قوة ظاهرة, لكنه بالمقابل يحتوي على 50% من حروف الإذلاق التي تتميز بالخفة والسرعة وهذا ما جعل البيت يتميز بالخفة والسرعة وهي ظاهرة عليه.
نلاحظ أن الحروف نسبها غير متباعدة بصورة كبيرة خاصة حروف الإطباقو حروف الإستعلاء التي تتواجد بنسب لا تتعدى 10% على العموم. وإذا زادت نسبتها فيمكن ان تؤثر على السلامة الإيقاعية للبيت خاصة إذا كانت مجتمعة.
كحال البيت الآتي:
وقَبرُ حَربٍ بمكانٍ قَفرٍ----ولَيسَ قُربَ قَبرِ حَربٍ قَبرُ
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 00%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 34%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 16%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 09%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 52%
حروف التكرير..."ر"..........................: 21%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 00%
حروف التفشي..."ش"..........................: 00 %
نحظ أن البيت يحتوي على كمية أكبر نسبيا من حروف الإستعلاء -16%- إضافة إلى حروف الشدّة -34%- و حروف الجهر بنسبة 91%. ولولا كمية حروف الإذلاق الكبيرة نسبيا -52%- لأصبح البيت أكثر صعوبة.
بحساب النسبة المتوسطة للابيات السابقة نجد:
حروف الإطباق... "ط ظ ص ض"...........: 07%
حروف الشدّة... "أجد قط بكت"...............: 24%
حروف الإستعلاء... "خ ص ضغط قض"..: 08%
حروف الهمس"...فحثّه شخص سكت".......: 17%
حروف الإذلاق... "فرَّ مِن لُبْ"...............: 36%
حروف التكرير..."ر"..........................: 10%
حروف الصفير..."س ص ز"................: 00%
حروف التفشي..."ش"..........................: 00 %
هذا من شأنه أن يعطينا نظرة عن استعمال الحروف وكميتها حسب صفاتها.
و يمككنا من أن نستنتج تأثير الحروف -حسب صفاتها- على البيت الشعري ونستخلص بذلك كيفية استعمالها للتأثير على الجرس في البيت الشعري والرفع من قوته عند الحاجة.
في بيت المتنبي "الخيل والليل والبيداء تعرفني....والسيف والرمح والقرطاس والقلم" نلحظ ارتفاع قوة الإيقاع في آخر البيت يرجع إلى استعمال حروف تتميز بالإستعلاء والإطباق والشدّة فيه بصور متتالية وربما كان هدف الشاعر رفع النبرة في هذا المقطع -لقرطاس والقلم- والأعمال بخواتيمها.
فدراسة جرس بيت شعري, إنطلاقا ما سبق, يمكن ان تمر بـ:
- دراسة الاسباب المدية والساكنة والحركة وحساب قيمتها في كل شطر ثم مقارنة القيمة بين الشطرين لدراسة توافق جرسيهما.
- دراسة اهتزازات البيت ومدى انتقالها بين الاسباب المدية والساكنة والحركة المنفردة كما سبق.
- دراسة كمية الحروف عن طريق صفاتها واستخراج ابب قوة الجرس و ضعفه في البيت.
يمكن لنا عند كتابة بيت ان نرجع الى هاته النتائج ومقارنته بها واستعمالها لتغييرقوة الجرس فية.
ان اصبت فمن الله وحده وان اخطأت فمن نفسي.