كنت قد وعدت الأستاذة الشاعرة ريمة الخاني بدراسة نقدية تطبيقية أوضح فيها أثر الانطباع النفسي في نقد الشعر .
وكان قد وقع اختياري على قصيدة الأستاذ الشاعر الدكتور محمد محمد أبو كشك ( أيام الأندلس) ،كنموذج يمثل النص الشعري الذي يثير انطباعا نفسياً إيجابياً قوياً عند القارئ والناقد معاً .
هذه هي القصيدة مع هوامشها على لسان الشاعر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إلى الأندلس ..إلى زمان المجد والعزة ..إلي أنسامها العذبة
أهدي هذه القصيدة...
أيَّامُ الأندلس
1. زمانَ الوصلِ يا عهدَ الأَمانِى *** سَقَاكَ الغَيْثُ أَلْحَانَ الزَّمَانِ
2. وَقَدْ أَضْحَى التَّنَائِى عَنْكَ دَوْمًا *** بَدِيلاً مِنْ بَهَائِكَ وَالتَّدَانِى
3. كَأَنَّكَ يَا زَمَانَ المْـَجْدِ حُلمًا *** بِأنْدَلُسٍ مِنَ الماضِى أَتَانِى
4. طَوَارِقُ فتْحِها عَبَرُوا مَضِيقًا *** فهلَّلَ بحرُهُ والشَّاطِئانِ
5. مضَى مُوسَى وطارقُ فاتِحَاهَا *** أَيُنْسَى فى الفتوحِ القائِدَانِ؟!
6. إِذَا مَا قُلْتُ ذاكَ مَضِيقُ موسَى ***فَمَا أَخْطَـأْتُ فِى وَصْفِ الْمَكَـانِ
7. وَلو خَيَّرْتـُهُ لأَجَابَ دَعْنِى *** أُجَاهِدُ مُطْلِقًا دَومًا عَنَانِى
8. وَيا صَقْرَ الخلافةِ لَسْتُ أَدرِى*** أَهادِمُ دَولةٍ أَمْ أَنتَ بانِى؟؟!!
9. بَنَيْتَ المجدَ فِى غربٍ وشادَتْ *** أيادِيكُمْ أعَاجيبَ الزَّمانِ
10. وَيَا قِندِيلَ قُرطُبَةٍ وصَرحًا *** أَتاهُ القَومُ مِنْ قَاصِى وَدَانِى
11. هُنَا الزَّهْرَاءُ تَحْكِى كيفَ كانَتْ*** مُلوكُ الغَربِ تسعى لِلْأَمَانِ
12. سَعوا لِرِضاءِ ناصِرِهَا بعينٍ *** يُشيرُ لها بَطَرْفِ الصَّوْلجَانِ
13. أَيَا أيَّامَ قرطبةٍ رَوَتْكِ ***عيونٌ للفَصَاحَةِ والبَيَانِ
14. كأنَّ أَبَا الوليدِ سجينُ حبٍّ ***فَشَيَّبَ رَأْسَهُ قبلَ الأَوانِ
15. أَفِى وَلَّادَةٍ أَمْ فِيكِ أَنْتِ *** بَكَتْ أَشْعَارُهُ فى كلِّ آنِ؟
16. أَضَاعَ الحُبُّ أَمْ قَدْ طَارَعَنْهَا ***حَمَامُ الطَّوْقِ فى سُحبِ الدُّخَانِ؟؟!
17. وَإِشْبِيلِيَّةُ الشُّعَرَاءِ كانتْ *** بَلاطًا يَعْتَلِيهِ الشَّاعِرَانِ
18. كَأَنِّى بِابْنِ عبَّادٍ بَشَطْر ٍ *** سَجِينًا لا تُوَاتِيهِ المَعَانِى
19. فَتُعْطِيهِ اعْتِمَادٌ دِرْعَ مَاءٍ *** تَجَمَّدَ لا يُبَالِى بِالطِّعَانِ
20. بِشَطْر ٍقَدْ يَنَالُ المرْءُ عِزًّا *** وَكَمْ فَاقَ القَنَا قَولُ الِّلسَانِ
21. وَقَدْ تُلْقِى فتًى أَبياتُ شِعرٍٍ ***صريعًا تحت حدِّ الطَّبْرَزَانِ
22. وَفِى الزَّلَّاقَةِ الأَذْفُونْشُ وَلَّتْ *** جَحَافِلُه ُ بِأَذْيَالِ الهَوَانِ
23. أَميرَ المسلمينَ أَغَثْتَ فِيهَا *** دِيَارًا تَشْتَكِى حُكمَ التَّوانِى
24. بَنَينَا صَرْحَ أَمْجَادٍ وَكُنَّا *** كَصَرْحٍ شَادَهُ لِلْعِزِّ بَانِي
25. وَأُورُوبَّا ظَلَام ٌ يَومَ كُنَّا *** نُضِيءُ كَمَا يُضِيءُ الفَرْقَدَانِ
26. أَفَقْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ سِوَى طُلُولٍ*** وَرَسْمٍ ظَلَّ فِى نَقْشِ الْمَبَانِي
27. وَيَا غَرْنَاطَةَ الأَمجادِ تَجْرِى *** دُمُوعُ الأُسدِ سَيْلاً فِى الجِفَانِ
28. أَيَا نَقْشًا عَلَى الحمراءِ قُلْ لِى *** أَتَفْقَهُ دَوْلَةُ الغَرْبِ المَعَانِي
29. وَداعًا يا ثغورَ المجدِ فيها *** وداعًا يا ديارَ أَبِى الغِسَانِ
30. أَضاعَ ربوعَها منَّا خِلافٌ *** وسَعْىٌ للمناصبِ زائِلانِ
31. أَيَا فِردَوسَنا المفقودَ إنَّا *** نُعانى في ضَياعك ما نُعانى
32. وَتبكى العينُ من لهفٍ عَليك *** وَكُلُّ النَّاسِ محزونُ الجَنَانِ
-----------------------------
هامش يوضح بعض الاسماء والاماكن والمواقف ..والرقم هو رقم البيت الذي ذكر فيه الموقف وهنا أقدمت علي فكرة الهامش لمن أراد التوضيح فقط ..وإلا فمعظمكم يلم بقصة الأندلس جيدا ونحن نتعلم منكم والهامش فقط لتوضيح فكرة بعض الأبيات وخصوصا الأبيات المتعلقة بمواقف معينة في التاريخ..
5- موسي هو موسي بن نصير الفاتح الشهير وفاتح الشمال الافريقي والأندلس –وطارق هو طارق بن زياد الفاتح الشهير وفاتح الأندلس أيضا تحت إمرة أميره موسي بن نصير وقد إشترك كلاهما في فتح الاندلس وتقابلا هناك بعد معارك كثيرة تم النصر فيها والفتح المبين
8-صقر الخلافة هو صقر قريش عبد الرحمن الداخل الأموي والذي فر من العباسيين وانشأ دولة الخلافة بالأندلس وكان في العشرين من عمره حينها..وأشير في البيت الي بناء دولة في نفس الوقت الذي فيه تنفصل هذه الدولة عن حظيرة الخلافة في بغداد وهذا في رأيي من أهم أسباب سقوط الأندلس ألا وهو فصلها عن أمها وتركها جزيرة نائية بعيدة عن قلب الوحدة..لهذا أري أن عبد الرحمن الداخل نفسه هو من أسباب سقوط الأندلس رغم أنه من بناتها.
11- الزهراء قصر بناه عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي بالأندلس بجوار قرطبة.
12-ناصرها هو عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي الاندلسي الشهير وهو الخليفة الثامن في البيت الأموي في حكم الاندلس وفي عهده وعهد ابنه الحكم بلغت الاندلس قمة المجد والرخاء.
14-أبو الوليد هو أبو الوليد بن زيدون الشاعر والوزير الأندلسي الشهير صاحب الوزارتين في قرطبة عند بني جهور وفي إشبيلية عند بني عباد بعد ذلك.
15- ولاّدة هي ولاَّدة بنت الخليفة المستكفي الأندلسية وكان يتبارى الشعراء في مدحها ومنهم ابن زيدون وله فيها قصيدة من درر الشعر العربي بدايتها (أضحي التنائي بديلا من تدانينا **وطاب عن طيب لقيانا تجافينا ) وتلاحظون استخدامي لكلمة( أضحي التنائي) في بيتي الثاني وذلك إعجابا وتأثرا منّي به.
16- حمام الطوق يقصد به الاشارة الي( كتاب طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي وهو كتاب شهير يتحدث عن أنواع الحب .
18-إبن عباد هو المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية في عصر ملوك الطوائف وهو من قادة معركة الزلاقة الشهيرة حيث استعان بالمرابطين في قتاله ضد الفونسو النصراني وانتصر المسلمون انتصارا ساحقا وكانت بداية لدخول المرابطين إلي الأندلس ونفي ابن عباد الي أغمات في بلاد المغرب حيث مات هناك ودفن بجوار زوجته الملكة اعتماد الرميكية ولا يزال قبرهما مزارا ..ومكتوب عليه هذا البيت للمعتمد :,,قبر الغريب سقاك الرائح الغادي **حقا ظفرت بأشلاء بن عباد,,
19-البيت 19 يحكي عن قصة زواج المعتمد بن عباد باعتماد الرميكية حيث كان يسير علي شاطيء النهر هو ووزيره ابن عمار قبل توليه الحكم أيام أبيه المعتضد ولما رأى حسن المنظر قال :صنع الريح من الماء زرد ...ثم قال لابن عمار: أكمل الشطر الثاني فلم يستطع الوزير الشاعر إبن عمار إكمال البيت وإذا بفتاة تغسل الثياب علي شاطيء النهر تكمل البيت فقالت ,,أيُّ درعٍ لقتالٍ لو جمد ,,فصار البيت كالاتي (صنع الريح من الماء زرد **اي درع لقتال لو جمد )...فأعجب المعتمد ذلك واشتراها من مالكها الرميكي وتزوجها ولقب نفسه بالمعتمد مشتقا لقبه من حروف اسمها فأصبح (المعتمد محمد بن عباد).
21-الطبرزان هي آلة حادة تشبه الفأس الصغيرةقتل بها المعتمد وزيره ابن عمار في سجنه وكان المعتمد قد أمسك به بعد انقلابه عليه وكاد أن يسامحه لولا أن ابن عمار أفشى السر الذي وعد المعتمد بكتمانه ولما سأله عن الأوراق التي كانت معه أجابه بأنه كتب فيها شعرا فساله عنها فلم يجدها فعرف انه هو من أخبر بالسر فغضب المعتمد وكان يمسك بطبرزان يشبه البلطة فضرب ابن عمار بها فقتله وحزن عليه كثيرا فقد كانا صديقين مقربين جدا وكان ابن عمار رجل الدولة الذي يعتمد عليه المعتمد حتي أن الفونسو نفسه وهو عدو المسلمين كان يسمي ابن عمار برجل الجزيرة..وللمعتمد وابن عمار قصص كثيرة تملا كتب التاريخ والادب والشعر.
22-الزلاقة هي معركة الزلاقة الشهيرة وقد نوهت عنها من قبل.
--الاذفونش هو ملك قشتالة الفونسو السادس اثناء المعركة.
23-أمير المسلمين هو لقب ليوسف بن تشفين زعيم المرابطين وقد نوهت عنه من قبل حين ساعد المعتمد ثم نفاه وأسس دولة المرابطين بالأندلس وهو مؤسس مدينة مرّاكش المغربية الشهيرة وله في كتب التاريخ موسوعات ومآثر ..ومن يجهل أمير المسلمين الزاهد الورع يوسف بن تشفين!!؟ .
27 البيت كله يرمز الي نافورة بهو الأسد الشهيرة بقصر الحمراء.في غرناطة
28 الحمراء هو قصر بناه بنو الأحمر في الأندلس في مدينة غرناطة وهو من أعاجيب الهندسة والعمارة والفن ولا تزال آثاره قائمة إلي يومنا هذا .
29 أبو الغسان هو موسي بن أبي الغسان القائد العربي الشهير..والذي يجهله الكثيرون مع كل أسف - والذي قاوم الأسبان اثناء سقوط غرناطة واحتار المؤرخون في مصيره وعلي الأرجح انه استشهد وهو يقاتل خمسة عشر رجلا وحده بعد أن جندل أغلبهم
هذه بعض أيام الاندلس ...سردت بعضها لنتذكر ماضينا وكيف كنا ... وكيف أصبحنا... أعادها الله لديار الإسلام
وأعاد لنا أيامها العظيمة وكتب لنا عبور المضيق فاتحين كما عبره الأبطال موسي بن نصير وطارق بن زياد ويوسف بن تشفين وغيرهم من الأبطال الذين فتحوا الأندلس وجاهدوا من أجلها ...والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دكتور محمد ابو كشك
******
وسأعرض في هذا الموضوع دراسة نقدية تطبيقية لهذه القصيدة.
وبالطبع، فلا بد لي أولاً من تأطير ما اتسمت به القصيدة من خصائص أهلتها لإثارة الانطباع الإيجابي القوي في نفس المتلقي كما أرى .
وهي ست خصائص إيجابية استخدمها الشاعر في فعل الإثارة وهي في الوقت نفسه يمكن أن تعد سمات عامة لأسلوب الشاعر في نصه :
المعالجة الذاتية لموضوع عام
العمل وبقوة على إثارة عاطفة محددة واضحة عند القارئ هي عاطفة الحسرة.
استخدام ألفاظ محددة تنتمي للمخزون العاطفي الجماعي الذي يثق به الشاعر.
التصوير الشعري البديع.
سلاسة الإيقاع و القافية .
أسلوب الاستعراض المشهدي في البناء الفني .
أولا: المعالجة الذاتية للموضوع العام :
في الشعر، المعالجة الذاتية مطلوبة. وأقصد بالمعالجة الذاتية أن تشكل شخصية الشاعر أحد العناصر الداخلية الأساسية في النص الشعري .فالشاعر في المعالجة الذاتية ليس راوياً ينقل الأحداث ويصفها دون تدخل منه، وليس مصوراً فوتوغرافيا يلتقط صوراً بعدسته الحيادية، بل هو صاحب المعاناة النفسية الذي ينتج الأحداث بتفاعله مع موضوعها، وهكذا نقرأ المحتوى الفكري لنصه وما تضمنه من عاطفة باعتبارهما رؤية ذاتية له . بقدر أعلى من المصداقية نمنحها للشاعر في نصه .
وتتمثل أهمية المعالجة الذاتية للموضوع العام في أنها تنقل مسرح الحدث من العالم الموضوعي الخارجي المحيط بالشاعر إلى عالمه النفسي الداخلي، وهو ما يضطر القارئ لقراءة الحدث على هذا الأساس مصوباً نظره باتجاه نفس الشاعر الذي وضعها في نصه في موضع البوح، وهو ما جُبِـل القارئ بوصفه إنساناً من طبيعة اجتماعية فضولية على الشغف به .إذ من المحبب لنا أن نطلّع على ما يدور في نفوس بعضنا كبشر. وبهذا يكون الشاعر قد جذب القارئ ووجّهه للاقتراب منه، وسيدرك القارئ وهو يقرأ بأنه إنما ينظر في نفس الشاعر ويقرأ رؤيته الشخصية ،وبهذا تكون الفرصة متاحة أمام الشاعر لتنفيذ فعل الإثارة بقوة بعد أن امتلك انتباه القارئ .
فلتتبع الأدوات التي استخدمها الشاعر في أسلوب المعالجة الذاتية ، وهي الألفاظ التي تضمنت ضمائر المتكلم (أتاني ،قلتُ ، أخطأتُ، خيرتُه،دعني، لستُ، كأني، أفقتُ،أجدك) في الأبيات التالية :
3 .كَأَنَّكَ يَا زَمَانَ المْـَجْدِ حُلمًا *** بِأنْدَلُسٍ مِنَ الماضِى أَتَانِى
6. إِذَا مَا قُلْتُ ذاكَ مَضِيقُ موسَى ***فَمَا أَخْطَـأْتُ فِى وَصْفِ الْمَكَـانِ
7. وَلو خَيَّرْتـُهُ لأَجَابَ دَعْني *** أُجَاهِدُ مُطْلِقًا دَومًا عَنَانِى
8. وَيا صَقْرَ الخلافةِ لَسْتُ أَدرِى*** أَهادِمُ دَولةٍ أَمْ أَنتَ بانِى؟؟!!
18. كَأَنِّى بِابْنِ عبَّادٍ بَشَطْر ٍ *** سَجِينًا لا تُوَاتِيهِ المَعَانِى
26. أَفَقْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ سِوَى طُلُولٍ*** وَرَسْمٍ ظَلَّ فِى نَقْشِ الْمَبَانِي
َ 28أيأَ نَقْشًا عَلَى الحمراءِ قُلْ لِي *** أَتَفْقَهُ دَوْلَةُ الغَرْبِ المَعَانِي
فبدءاً من البيت الثالث ، يدرك القارئ أنه يوشك الآن على الاستماع إلى الشاعر وهو يصف حلماً بالأندلس أتاه من الزمن الماضي البعيد ، زمن المجد .فكل ما سيدور من أحداث الحلم سيحتل موقعه في العالم الذاتي الداخلي للشاعر.ولفظة (أتاني ) اختزلت الدلالة على رؤية الشاعر، لأنها فتحت نافذة يطل منها المتلقي على حلمه هو ليشاركه مشاهدة الأحداث .
ثم بملاحظة وظيفة الألفاظ ( قلت وأخطأت وخيرته ودعني ) تتضح تماما العلاقة التفاعلية بين شخصية الشاعر كعنصر داخلي في حلمه وبقية العناصر الأخرى التي اتخذت ملامحها كشخصيات فاعلة أيضاً تحاور الشاعر وتجيبه .
إِذَا مَا قُلْتُ ذاكَ مَضِيقُ موسَى ***فَمَا أَخْطَـأْتُ فِى وَصْفِ الْمَكَـانِ
في هذا البيت يشير الشاعر إلى مضيق موسى الذي يظهر له في حلمه باستخدام اسم الإشارة (ذاك ) فكأنه ينظر إلى شيء بعيد ، لما يتوثق بعد من حقيقته ، فإذا ما قلت ذاك مضيق موسى ، فأنا أنظر إلى مكانه وأراه فعلاً .. والشاعر يؤكد ذلك( فَمَا أَخْطَـأْتُ فِى وَصْفِ الْمَكَـانِ) إذ قد يتبادر إلى ذهن القارئ بعض التشكيك ،لكن لا ، إنه مضيق موسى بعينه ، ويؤكد الشاعر بثقة من يعيش التجربة ويحكم من خلالها أنه هو مضيق موسى الذي سيختار الجهاد دوما مطلقاً عنانه وكأنه بهذا العنان الذي استعاره له الشاعر قد تحول إلى حصان من خيول المجاهدين الذين فتحوا الأندلس . إنه جواب المضيق للشاعر الذي خيّره ، لكن بين ماذا وماذا خيّره يا ترى ؟ جوابه يدل على أنه خيره بين الجهاد وبين القعود عنه ، فكان جوابه صارماً : دعني ! إذا دعني ولا تضيق عليّ بخيارك الآخر ،
وَلو خَيَّرْتـُهُ لأَجَابَ دَعْنِى *** أُجَاهِدُ مُطْلِقًا دَومًا عَنَانِى
فالمضيق يتكلم ويعلن عن موقفه بنزق (دعني ).ويبدو الشاعر قادراً على تفهم نزقه إذ يدعه فعلاً ليتوجه بعتابه واتهامه إلى صقر الخلافة الذي جاء دوره في الظهور في مشهد تالٍ.
. وَيا صَقْرَ الخلافةِ لَسْتُ أَدرِى*** أَهادِمُ دَولةٍ أَمْ أَنتَ بانِى؟؟!!
ويبدو مفيداً للغاية أن نفهم سر هذا العتاب على لسان الشاعر نفسه في هامش القصيدة إذ يوضح رأيه :
[COLOR="rgb(46, 139, 87)"]((-صقر الخلافة هو صقر قريش عبد الرحمن الداخل الأموي والذي فر من العباسيين وانشأ دولة الخلافة بالأندلس وكان في العشرين من عمره حينها..وأشير في البيت الي بناء دولة في نفس الوقت الذي فيه تنفصل هذه الدولة عن حظيرة الخلافة في بغداد وهذا في رأيي من أهم أسباب سقوط الأندلس ألا وهو فصلها عن أمها وتركها جزيرة نائية بعيدة عن قلب الوحدة..لهذا أري أن عبد الرحمن الداخل نفسه هو من أسباب سقوط الأندلس رغم أنه من بناتها)).
على أن ما يهمنا من البيت هو أسلوب المعالجة الذاتية الذي عبر فيه الشاعر عن موقفه الشخصي من صقر الخلافة بلفظ (لست ) وفيه تاء المتكلم تضعنا في حضور شخصين متحاورين، ولا نملك إلا أن نكون واقفين في جهة الشاعر، الذي رتب على نفسه مهمة أن ينقلنا معه في حلمه هو حيث يشاء .
وهكذا سننتقل معه إلى مشهد جديد يخاطب فيه ابن عباد إذ يلوح له فجأة من أعماق الحلم فيستخدم الشاعر لفظ ( كأني ) بما فيه من دلالة على الشك وخوف التوهم وهو يراه :
كَأَنِّى بِابْنِ عبَّادٍ بَشَطْر ٍ *** سَجِينًا لا تُوَاتِيهِ المَعَانِى
وهنا نحتاج لعرض قصته مع ذلك الشطر على لسان الشاعرفي هامشه :
))-إبن عباد هو المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية في عصر ملوك الطوائف وهو من قادة معركة الزلاقة الشهيرة حيث استعان بالمرابطين في قتاله ضد الفونسو النصراني وانتصر المسلمون انتصارا ساحقا وكانت بداية لدخول المرابطين إلي الأندلس ونفي ابن عباد الي أغمات في بلاد المغرب حيث مات هناك ودفن بجوار زوجته الملكة اعتماد الرميكية ولا يزال قبرهما مزارا ..ومكتوب عليه هذا البيت للمعتمد :,,قبر الغريب سقاك الرائح الغادي **حقا ظفرت بأشلاء بن عباد,,)).
وأخيراً، يفيق الشاعر من حلمه ومازال طيف ابن عباد ماثلاً أمامه ليخاطبه هذه المرة من أرض الواقع موجوعا بوجع الفقدان والحسرة:
.أَفَقْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ سِوَى طُلُولٍ*** وَرَسْمٍ ظَلَّ فِى نَقْشِ الْمَبَانِي
فأفقت ولم أجدك لفظان يستخدمهما الشاعر ليواكب تعبيره عن علاقته الشخصية بابن عباد الذي فتح الشاعر عينيه على الواقع ليكتشف فقدانه، وما كان من شيءٍ يدل على حقيقة ابن عباد سوى أطلالٍ ومباني، حملت الرسوم والنقوش من عهده .
ولا يكف الشاعر عند هذا الاكتشاف المروّع عن مخاطبة الآثار المتبقية من الحلم والواقع معاً:
أيأَ نَقْشًا عَلَى الحمراءِ قُلْ لِى *** أَتَفْقَهُ دَوْلَةُ الغَرْبِ المَعَانِي
إن هذه المعالجة الذاتية لموضوع الأندلس كانت كفيلة بإثارة انطباع إيجابي قوي عندي كمتلقية ، لأنني لن أستطيع أنا الأخرى أن أقف على الحياد بمشاعري وأنا أتابع مشاهد الحلم المتتابعة ومعاناة الشاعر فيها ، ثم كيف أفاق ليصحو على واقع مشاعرالحزن الحسرة التي تمكن من إثارتها في نفس قارئه ، وهو ما سنعود لمتابعة البحث في أدواته الأسلوبية الناجحة المستخدمة في النص ....
يتبع بإذن الله[/COLOR]