قصيدة جميلة يا فتون وفيها الكثير من الألق الشعري والأداء الجميل الذي يعد بشاعرية كبيرة متى صقلت الموهبة وتمكنت من الأدوات وتجنبت المتشابهات.
أما من حيث القصيدة فقد جاءت بجرس جميل وحس رقيق منفعل وقافية لافتة وتراكيب مميزة عموما ، ولكن استوقفني فيها أيضا بعض ما وجدته لم يرق للمستوى ومن أهم هذا:
لهفي على ابن السماءِ أضمُّهُ
مرحى بذنبٍ طاهرٍ بإيابِ
هنا يثقل قطع همز ابن وكان يمكنك أن تجدي لها مخارج أفضل من شاكلة لهفي عليك ابن السماء.
يا أنتَ من أيِّ العوالمِ تأتني ؟
يا أنت أسئلتي بغير جوابي !
هنا خطأ لغوي فأنت جزمت الفعل تأتني بدون مسوغ والصواب لغة "تأتيني".
ثم في العجز نسبة الجواب إليك مربك للمعنى وأفضل منه ترك جواب نكرة تعميم.
ويمينكَ امتسحت يتيمَ جدائلي
فتقاطرت بالسعدِ ملء إهابي
البيت جميل ولكن امتسح ليست اشتقاقا صحيحا.
ما تصنعُ البنتُ الكفورُ بسجدةٍ
للماءِ مؤمنةٌ بلمعِ سرابِ
الكفر ليس مختصا بالمرأة ولذا الأصوب هو أن تقولي البنت الكفورة والولد الكفور.
ثم أخيرا هناك ما لا يحبذ من تكرار ألفاظ في القافية في نص قصير كهذا مثل تراب.
أما بخصوص ما دار حول النص من جدل حاد فإنني وجدت فيه ما لا يناسب سواء من حيث الأسلوب أو من حيث المضمون ، فمن باب لا يصح لامرئ أن يتأله على الناس ويكشف عن قلوبهم ونواياهم أو أن يجعل نفسه قيوما على الناس ومحاسبا فيقرعهم ويكفرهم بزعم النصح وبفهمه يزكي التزامه على عيره وتقواه على الناس وما علم أن النار إنما تسعر بأمثال هؤلاء ممن قرأ ليقال قارئ وجاد ليقال جواد ونصح ليقال تقي ناصح ولو صدق أمثال هؤلاء لأسروا النصح ولانوا بالقول.
أما ما أشار إليه الكرام من بعض ألفاظ في العنوان وفي القصيدة فلهم بعض الحق في فهم ظاهر في النص أو قاصر عنه ، والأصل أن نحسن الظن وأن نتحرى المعنى المقصود في النوايا دون افتراضها أو الكشف عنها فما يعلم الغيب إلا الله. وفي نفس الوقت أرى أن مثل ما أشار إليه الأحبة الكرام هو مما يندرج في مواضع الشبهات التي يجدر بالمرء تحري تحاشي الوقوع فيها وإن كان لا محالة فالأفضل بعض توضيح يكشف ولو بالتلميح عن المعنى. وأنا بالقطع ضد توجه بعض الأدباء الشعري بتناول الثوابت والقيم ومناهج الدين بما لا يسمح به الشرع والمنطق ويجب محاربة أمثالهم ، ولكني أيضا ضد كل متنطع يحرم كل ما يعن له ويخطئ بل وقد يكفر كل من لا يروق له.
أما طهر الإثم وإثم التوب فهو من المتشابهات ظاهرا كما أسلفت ولكن ربما غاب عن الأحبة قول السلف " قد يعمل العبد ذنبًا فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال يذكر ذنبه، فيُحدث له انكسارًا وذلًّا وندمًا، ويكون ذلك سبب نجاته, ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه، كلما ذكَرها أورثتْه عجبًا وكِبرًا ومنّة, فتكون سبب هلاكه" فهذا معنى محتمل للمقصود ، وهناك أيضا معنى اللغة الذي يحتمل الكثير من المعاني ، وهناك أيضا أمثلة عديدة تضع احتمال منطقي كأن يكون امرؤ قد تاب عن فعل خير كأن يقول أحدهم في ساعة غضب "تبت عن الثقة بالناس" فهذا توب من وجهة نظره فيه إثم من جهة الشرع والخلق ، وأما مقابله ففي قوله تعالى "أخرجو آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" فهم رأوا في إثمهم طهرا.
أما في البيت:
ما تصنعُ البنتُ الكفورُ بسجدةٍ
للماءِ مؤمنةٌ بلمعِ سرابِ
فالكفر أولا له معان لغوية وسياقات في المعاني والكنايات لا تحصر ، وفي القرآن العديد من الآيات التي تتحدث عن الكفر والكفر المقابل لا يتسع المجال لذكرها الآن. ولكن أنا مثلا قلت من قبل في قصيدة لي "وها كفرت بهذا العشق فانصرفي" فهل بت كافرا بالله أستتاب بها؟؟
ثم لو تأمل الأحبة في المعنى المحتمل هنا وهو أن البنت كفورة بسحدة للماء ومؤمنة بلمع السراب وتتساءل ماذا تصنع لوجدوا أنها قالت عكس ما فهموا. طبعا لا أنفي احتمال وجود المعنى المعكوس أيضا وأتفهم أنه قد يكون كناية وإسقاط ولكني شخصيا لا أتقبله ولا أراه مناسبا إن كان في هذا السياق.
فالروحُ قرباني إليكَ حبيبُ من
بك مهجةٌ ضاعت عن الأحبابِ
هذه من شاكلة ما يقال "تفديك روحي" أو "روحي فداك" فإن كانت تعبيرا معنويا عن التقدير والمحبة حسنت وإن كانت بقصد التطبيق أو تم تطبيقها فهذا يتوقف على الموقف فإن افتدى الرجل أهل بيته مات شهيدا وإن شنق رجل نفسه حسرة على موت حبيب أو حبيبة مات جيفة قاتلا إلى النار.
باختصار ... كفانا تنطعا في الدين وعلينا أن نحسن الظن وإن كان ثمة نصح في موضعه وفي سياقه في السر وباللين والموعظة الحسنة ، وأوجه الخطاب أيضا لصاحبة النص أن تجنبي موضع الشبهات واجعلي من شعرك بيانا وقولا يحسب لك لا عليك.
تقديري