كان يرقب الفجر كحبيب عزيز ، و ينام في حضنه حالما كشاب غرير ..و أنفاس الدنيا معطرة بالأمل البهيج ، كل كائن ينمو و كل نبت نضير ..لم تغب عنه لمحة من أطياف مواكب المباهج و المآسي ..و ذات يوم تلقى صفعة قوية عقب استيقاظه على صوت صراخ أليم .. هَرَجٌ وَمَرَجٌ..ثم صيحة مدْوِيَةٌ..يا لكم من وحوش ..اتأكلون من لحم البشر بهذه اللذة و الشراهة؟؟.!.
و أنا؟؟..كيف أشارككم في هذا ؟؟
فأصبحت السعادة و التعاسة في قلبه سواء بسواء ، لا ينفك من أحدهما فمن خيط ينظمها كانت الحياة ..وطَأَ بأقدامه الأرض التي وطئها ذات يوم و هو طفل ، و هو صبي ، و هو شاب ، فلا يجد لوقع أقدامه ما كان لها من طعم و العمر غض ، و الطريق مملوء بالضباب ..لماذا؟
الأرض ذاتها ،و السماء هي السماء و الأزاهير نفسها و إن تجددت ، و الحصى شبيه الذي كان على الطريق،لماذا إذن فقدت أقدامه هذا الدبيب الخفي الذي نسميه الأيام ، و لهذه الحكمة التي نسميها الماضي ، و لهذا الثقل من الذكريات الذي تجمع فوق الحصى و الرمال ..
و هرع إلى الفيلسوف ..يسأله ماذا أصاب عقول البشر ..دماؤهم لا تجف ..تسيل هنا و هناك ..
وكاد يقع على الأرض خائرا من فرط الذهول ..حينما استطرد قائلا أيها الفيلسوف ..قد رأيتهم يقطعون لي نصيبي من اللحم من جثة إنسان مجفف ..قد نظرت عيناه لي في تحد و كراهية ..رأيت اثنين يمسك كل منهما بطرف حبل يشده في الاتجاه المضاد لزميله..بينما كانت الضحية تعاني من الاختناق و قد جحظت عيناها و أخذت تتخبط كلما ضاقت على رقبتها عقدة المشنقة..
الفيلسوف:هلم بنا إلى المقابر..نزور من سبقونا ..لعلنا نجد إِجابة سؤالك.. طَفِقَا يتنقلان بين القبور و اِفتَرشَا الأرض ..
الفيلسوف:حينما يُقبر الإنسان تسيل دماؤه لفترة ثم تتحلل الأعضاء انظر إلى هذه الدودة التي تغذت على جزء من بقايا إنسان..راقبها تتحرك ..و أثناء ذلك لمحا عصفورا بهيج الألوان يقتنص الدودة مبتلعا اياها و محلقا .. فكانت بداية من غير نهاية لتلك الروح ..تحلق في السماء بجناحين كزهرة لا يدركها الجفاف ،و ماء يتدفق من نبع لا نضوب فيه ..
و سأله الشاب لماذا العناء؟ما مر من الطريق لن يعود..يطلب من قلبه أن ينسى ما الْتَمَّ فيه من هم و تجربة و حكمة و علم و يرجع كما كان ، جاهلا فيه قفزة الطير، فلا يلقى إلا صدى خافتا فيضيع في سراديب الحياة..