قراءة في رواية الخيميائي .. الموهبة والاجتهاد توأمان للوصول إلى المقاصد
أردتُ الوقوف على بعض ما جاء في رواية الخيميائي للكاتب كويلّو باولو .
رواية الخيميائي - كما قال بعض الأساتذة الأفاضل - مليئة بموضوع الإشارات والعلامات والطريق لقاصد هدف وغاية . وتتناوله بعمق وقوّة . ولا شكّ أنّها واحدة من أروع وأجمل وأقوى الروايات المعاصرة ، والأرقام تشهدُ لها بعدد الترجمات الكبير جدا ، وعدد المبيعات المهول ودخولها الأرقام القياسية .
ما أردتُ طرقه هنا بعيدا عن نقد أدبيّ وروائي ..
هو تطرّقه للفتى الرحّال الغريب الإسباني الذي اختاره الخيميائي العربي تلميذا له وحاملا لسرّ الخيمياء، على حساب الكثيرين من محيطه وبيئته، والكثيرين ممّن سمع عنهم في عالم الخيمياء الخاص التي رسمها الكاتب بين الخيمياء والروحانيات.
المهمّ أنّ الخيميائي اكتشف تلميذه مباشرة بعلامات معيّنة ... رغم أنّ الفتى كان راعيَ أغنام ثمّ تاجر زجاج وليس له علم بالخيمياء ولا خبرة في الحياة، وكان غريبا ...
في المقابل كان يرافق الفتى انجليزي خيميائي قرأ علم الخيمياء سنوات كثيرة وباحث، كانت وجهته أن يلتقي الخيميائي ليأخذ عنه سرّ الخيمياء وسرّ تحويل المعادن إلى ذهب. ولمّا التقاه بعد بحث طويل جلس الخيميائي معه ساعة أو أقلّ من ساعة وأوصاه ببعض الوصايا وفارقه.
الرواية تشيرُ إلى نقطة مهمّة وهي الاستعداد الفطري، والقابلية لأخذ علم ما، والنّفوذ إلى جوهر هذا العلم وروحه .. ببساطة وعفوية وصدق.
لا المحاولة للدخول عليه -أي إلى هذا العلم - من أجل الأغراض الشخصيّة، أو من باب التعقيد.
ويبيّنُ هذه النقطة شرح الخيميائي للفتى أنّ الكثيرين ضيّعوا الوصول للهدف لأنّهم اشتغلوا بكماليات هدفهم عن روح الهدف.
كمَثَلِ من يريدُ أنْ يُحوّل المعادن إلى ذهب ويجد إكسير البقاء وهو يطلبُ أن يكون خيميائيا. فهذا الباحث سوف لن يصل أبدا أن يكون خيميائيا.
لأن الخيميائي الحقيقيّ هو شخص تحقّقت فيه روح وأحوال، ثمّ تلك الرّوح مكّنته أن يوّفق لتحويل المعادن ذهبا مثلا، أو يجد إكسير الحياة، أو يقرأ علامات المستقبل .. أو ما إلى ذلك فيما ورد في الرواية.
كما أنّ الفتى لمّا سأل الخيميائي عن الباحث الانجليزي الذي قضى زمنا يبحث عنه ليتعلّم، لماذا لا يعلّمه هو ويختاره مع ما له من استعداد علميّ وأقدميّة ؟
قال الخيميائي : هو ليس جاهزا الآن، ولكنّّه في الطريق الصحيح.
وما نقولُه هنا بالغ الأهميّة. ولنسقط ما قلناه عن الرواية على المطلوب من عبد الله. عبد مسلم يريدُ أن يعبد الله ويعرفه.
فالذي يطلب عبادة الله، يطلبُ رُوحَ العبادة وبساطتَها، ولا يطلبُ أن يكون له ما لبعض المشايخ والعلماء من جاهٍ وصيتٍ وقبول في الناس، أو معارف كتبوها في مؤلفاتهم وملؤوا بها طباق الأرض، أو يطلبُ أن يكونَ ذا جاهٍ وصيتٍ يُشارُ إليه بالبَنَان.
فالغاية من العبادة والولاية هي العبودية والطاعة وصفاء القلب وتلقّي أوامر الله برُوح نقيّة صافية تتفاعلُ مع واجباتها الواقعية وحياتها الشخصيّة، وتتذوّقُ تلك الطاعة والعبادة والالتزام.
فهذا هو جوهرُ المطلوب من العبد.
وهذا هو الصدق.
____________
قد يعترضُ البعض ربّما ليقول أنّ الأمر ليس بالجدّ والاجتهاد والطاعة .. وهو مكتوب.
ولكنّ الجواب يكونُ أنّ الأمر بالجدّ والاجتهاد والصدق.
فكلُّ شيء مكتوب في الأوّل والأخير، ومَنْ أقامك في سبيل الاجتهاد والطلب فقد أقامَكَ في سبيل الوصول، وما عليك سوى أن تحقّق شروط الوصول الصحيحة.
تمَاماً مثل أستاذ عالم مُحنّك حكيم له تلاميذ كثيرون يدرسون عنده.
لاشكّ أنّ الفارق بينهم في التلقّي عنه هو الأخذ عنه والحضور لمحاضراته وحلقاته العلميّة. وعلامات النّجابة تظهرُ في هذه العوامل :
الاهتمام ، والحضور ، والتفاعل ، ومحاولة فهم ما يلقيه الأستاذ، والمشكل الغامض عند التلاميذ يتحوّلُ إلى أسئلة واستفهامات.
الأسئلة والاستفهامات تعطي الإشارة للأستاذ على مقدار التفاعل والفهم والنجابة لدى تلاميذه.
وكذا الأسئلة التي يُلقيها الأستاذ بين يدي تلاميذه والمسائل التي يطرحها لهم : الجوابُ عنها يُحدّد مؤشرات التلقّي ومستويات الفهم والأخذ.
ومفروغ منه أنّ الجدّ والاجتهاد والمواظبة هي باب الوصول للعلم والمقاصد والأهداف المرجوّة.
غير أنَّهُ قد يَصْدِفُ للأستاذ أنْ يلتقي في السوق مثلاً أو في مكان غير مكان تدريسه، قلتُ يلتقي فتى معيّنا، فيحدثُ بين الفتى والأستاذ حوار على سبيل الصدفة، فيجدُ الأستاذُ أمامَهُ فتى يفهمُ إشاراتِهِ بلا غموض، ويقرأ كلامه ببساطة وعفويّة فيها مساحة كبيرة من التفاعل والتفاهم الدّال على تلقائية وتآلف وتواؤم بين روحيهما.
فيعرفُ الأستاذ من هذا الحوار العابِر وفي غير تخصّص الأستاذ ـ يعرِفُ أنّ هذا الفتى لو واظبَ على دروسه فسيكون واحدا من أنجب تلاميذه.
بل سيكونُ حامل علمه بعده ووارثه وربّما يتفوَّقُ عليه ويكونُ مجدّداً.
فيرغبُ الأستاذ أن يضمّ الفتى إلى جملة تلاميذه.
وربّما استجاب الفتى والتحق به، ولكنّه مع ذلك يبقى للفتى مشاكل في واقعه، وعدم مواظبة، وسخريّة التلاميذ القدماء منه لعدم فهمه لمصطلحات هذا العلم الذي يدرسونه منذ سنوات ..
ومع ذلك تجدُ في الأستاذ صبراً وحِلْماً عجيبين على الفتى، لأنّه يعلمُ في قرارة نفسه بفراسة الحكماء والعظماء أنّ مصيرَ هذا الفتى أنْ يتفوّق ويصبحَ واحدا من أساتيذ زمانه في هذا العلم.
وليس بينه وبين النّجابة والاجتهاد والتفوّق سوى نقطة التقاء بين روحه وهذا العلم. فإذا وصل إلى نقطة الإلتقاء فإنّه ينفذ إلى روح هذا العلم فيعشقه ويتعلّق به ويسخّر له حينها جهده ووقته وفكره، ويصلُ بذلك إلى الاجتهاد والنّجابة والتفوّق، ويصبحُ أنجب التلاميذ.
ولا يمنعُ أن يصبح بقيّة التلاميذ المجتهدين أساتذة نجباء في هذا العلم .
إشارات وكلمات أردتُ إلقاءها في هذا المعنى.
10/2010