قطار الزمن العاري
-" هل المكان شاغر؟ "
-" نعم."
هكذا كانت الصدفة تعلن عن ميلاد جديد، لم تكن نظراته التي أنهكها عبء الزمن و قامته التي تشبه شيخا جاوز عقده الستين توحيان بأنه على مشارف الأربعين ربيعا.
-أ..أ..امسافرةأنت إلى الدار البيضاء.؟ "
سألها بعد تردد دون أن ينظر إليها … كان صوته يحمل أنين سنوات اجتزئت منه غدرا، مختزلا صوت جلاديه الذين سلبوه عشق المكان و جعلوا سياطهم تقتات من آلامه عقدين كاملين…
أجابته و هي تحاول أن تتجاهل الرجل الغريب بجانبها :
-"لا . انا مسافرة إلى مراكش."
كان يكفيه أن يسمع اسم المدينة ليسافر في شريط ذكريات الطفولة و الشباب .
كم يود لو يخبرها كم كان يلذ له أن يذوب في حواري "مراكش" متحرشا أو متغزلا أو مصاحبا !وكم كان يطيب له أن يستمتع بأغاني و أهازيج حلقاتها وهو يستنشق روائح الشواء في ليالي ساحة " جامع لفنا ".
-"آه كم أعشقك أيتها المدينة العاريةإلا من نخيلها…. !"
ثم أضاف موسوسا لنفسه :
-" إنها اليوم لحلم بعيد.."
و في غفلة منها - و هي تحاول استخدام حاسوبها المحمول لتختزل المسافات و لتبدد بعضا من خوفها من الرجل الغريب- نظر إليها بطرف عينه اليمنى مستكشفا.
كانت المرأة في الخامسة و الثلاثين أو أقل ،عينان ضيقتان حذرتان ،– أو هكذا بدتا له – تحاول بيدها اليمنى أن تغطي ما انكشف من ساقيها و هي تنحني لتخرج حاسوبها المحمول من محفظته.
أدرك -لا شك-أنها امرأة موظفة، فلباسها و مساحيقها الموضوعة بعناية يكشفان مهنتها.
بهذا كلمته نفسه……
أحست به فازدادت قلقا .
و في لحظة من لحظات الخوف الذي جثم على صدرها، فكرت أن تعد سلاحا لمواجهة الرجل الغريب قبل أن يتعشى بها.
-" و لكني لا أحمل سلاحا.. !" همست لنفسها.
كان القطار يلتهم المسافات تلو المسافات ، كانت صافرته المدوية كأنها تؤذن لبداية المعركة…
اشتد خفقان قلبها، و تجمعت لديها ذكريات الطفولة يوم كانت تعارك قريناتها في فناء المدرسة كلما تغامزن على شعرها الذي يشبه شجر الزقوم .. و اختلطت بذكريات الجامعة، يوم كانت تناضل إلى جنب رفاقها و حبيبها ضد التبعية و الامبريالية و الرجعية …..
ها قد عن لها بصيص أمل من الزمن البعيد أمدها بدفقة من الشجاعة استعدادا لمواجهة قريبة، فقد راكمت خلال حياتها الماضية تجارب هامة ، وأتقنت استعمال الأسلحة الثقيلة، كان أهمها سلاح الإغراء…..إنه السلاح الذي ستعلق به اليوم ليبقيها في مأمن من الخوف الى حين الوصول إلى "مراكش" فالرجل مهما بلغ كبرياؤه، و جبروته، و حتى إجرامه، ينساق معصب العينين أمام غواية المرأة.
لقد تأكد لها هذا السلاح و سحره بما تراكم في ذاكرتها من مكائد النساء، و تذكرت كيف كانت قبل ست سنوات مضت يوم تركت منزل أسرتها شرق المغرب خوفا من الفضيحة في اتجاه"مراكش" فقد تحولت في أقل من شهرين من مجرد عاملة بسيطة في معمل للنسيج إلى رئيسة" قسم العاملات " بفعل سحر الإغراء الذي مارسته على مديرها….فقررت أن تبادر بالهجوم لاكتشاف نوايا الرجل الغريب :
-"أمسافر إلى مراكش أنت أيضا؟."
أجابها شاردا فجأة:
-" نـــ…نـــ.. نعم . لا..لا.. فأنا في سفر منذ عشرين عاما، أجوب كل يوم بلدان العالم بدون جواز سفر..واليوم..اليوم فقط ، كانت نهاية رحلتي ، و لست متأكدا من محطتي الأخيرة.."
شعرت المرأة بارتياب شديد، فكلام الرجل لا يستجيب لمنطق العقل ، مما زادها اصرارا على معرفة سره.
الساعة تقترب من الثانية ظهرا ،.كانت شمس صيف 1996 سخية في بعث حرارتها التي ضاعفها عطل مكيف هواء المقطورة…فك أزرار قميصه ذي المربعات الصغيرة الملونة ليوهم جسمه المتقطرعرقا ببعض الهواء الذي قد يتسرب من نافذة الإغاثة ..
و بينما المرأة تستعد لمبادرته بسؤال آخر، راعت نظرها صورة فتاة موشومة تتوسط اسمين على صدره .. أحست بخفقان شديد ، وبرعشة باردة تسري في عروقها..
-" أيمكن أن يكون هو..؟"لا.. مستحيل..إنه هو.."
تجاذبتها الأوهام و كثرت الاحتمالات ، و لكن...
نظرت إلى وجهه تتحقق من ملامحه التي قهرها الزمن،تجاعيده العطشى و أسنانه التي سقطت بتساقط أنجم لياليه الطويلة في الجناح (د) من المعتقل في ليالي الشتاء الباردة،و لون عينيه العسليتين اللتين اكتحلتا بظلام زنزانته و..و..
وفي غفلة من شرودها و هي تستحضر صورة "قاسم" بين عينيها المغمضتين من ثقل المفاجأة ،و ابنها "علي" ثمرة حب لم يكتمل أيام شبابها ، فتحت عينيها على صوت صافرة القطار و صوت رخيم يقول:
-"المسافرون المتوجهون إلى ...............مراكش....اصعدوا القطار من فضلكم.انتبهوا للسير."
و نظرت حولها، فإذا به قد ذاب- كما الثلج- بين المسافرين الذين حطوا رحالهم في البيضاء بحثا عن محطته الأخيرة في الزمن العاري..
القطار:الناظور/ فاس18/04/2011