وميات تعودت في كل صبيحة بعد الفطور على مغادرة البيت محملا بعدد من التوصيات..هذه الصبيحة كانت البطاطا اهم توصية.
في جو قاسي البرودة و تحت سماء كثيفة الغيوم’ تتسابق خطواتي من شارع الى شارع ملتفا بمعطفي الشتوي متأبطا قفتي , سمعت صوتا التفت نحوه فإذا برجل أمام محل تجاري عصري مختص في بيع آخر الموضات لأزياء نسوية ..يعلن عن وفاة امرأة هذا الصباح و أن الجنازة ستقام ظهر اليوم.ثم واصل سيره لينشر النبأ في أغلب أرجاء المدينة.
لم أتوقف كثيرا عند هذا النداء لأنه من جهة أصبح مألوفا و من جهة أخرى الأمر يتعلق بامرأة.
لما وصلت إلى قلب المدينة لفتت انتباهي امرأة بدينة متجلببة ترغم بنتا على السير معها و هي تشدها من شعرها ..و البنت مانفكت تصرخ:"أطليقيني ...أتركيني...."لكن المرأة تواصل بكل شراسة جرجرة الطفلة من شعرها الأشعث , توقفت أتابع المنظر كما توقف آخرون مذهولين فزعين , استفزني المشهد واضطربت إلى أن قال أحد الحاضرين و قد انتفخت أوداجه من شدة الغضب:"هذه ليست ابنتها لو كانت بنتها ما عاملتها بهذا الشكل.." تدخل أخر حانقا :" إنهم يجلبون الأطفال من حيث لا ندري ليتسولو بهم.." وأردف ثالث صارخا:" الدولة غائبة ..أين هي لتتدخل في مثل هذه المواقف؟.."تساءلت بيني بين نفسي "من هي الدولة هل هي ذاك الشرطي ؟..الدركي؟..أنا.. هو..؟"
الذي تكلم عن غياب الدولة توقعت منه تدخلا حازما يطفئ غضبي..هو في آخر الكهولة تقاعد بعد أن قضى العمر مجندا في صفوف رجال الحماية المدنية ..أخيرا بادر كهل و تحرك نحو البنت ليخلصها من مخالب تلك الشريرة ’أبقاها جنب طاولته على الرصيف التي يسترزق منها ببيع أنواعا من السجائر إلى جانب الولاعات و الفول السوداني.
المرأة لم تحتج ’سرعان ما تخلت عنها واختفت..هنا تأكدت انها ليست بنتها.
توجه الذي آلمه غياب الدولة نحو الطاولة ليبتاع من صاحبها علبة سجائر ثم انصرف وانصرف الثاني نحو بائع الحليب ..و كل ذهب الى سبيله.
واصلت طريقي و منظر تلك البنت المغلوبة على أمرها و هي تُشد من شعرها بلا شفقة لا يكاد يبرح مخيلتي...و افكر ما الذي كان علي فعله أمام هذا العنف ..عنف المرأة ضد المرأة ..موقف محرج و مخزي.
في منعطف الشارع الطويل عاد نفس الصوت :" الجنازة يرحمكم الله.............."
في الوقت ذاته ’رن هاتفي فتحته لأسمع توصية أخرى:"لا تنسى إحضار الخبز و انت عائد...."