قضى شطراً من ليالي عمرهِ مُرسلاً بصرَه إلى الأفقِ المُظلم مُتكئاً على مقْعده الحجريّ وإلى جوارهِ سِقاءٌ من فَخّارٍ يروي به جفافَ شرايينهِ و يبلّ به آمالا تيبّستْ لعلّه يبعثُ فيها الحياة..أصبحَ وجهُ القمرِ في ليالي انتظاره باهتاً بعدما طافتْ على صفحتهِ سحائبُ أرقٍ سوداء..بينما تبتعدُ النجومُ خجولةً في أفقٍ لا نهايةَ له..
كانَ يرسلُ بارقاتٍ منْ أمل فترتدّ إليهِ وخْزاً من خيبة .. يغمضُ عليها جَفنهُ الثّقيل ليَحبسَها ..ثمّ ليعود في يومه التّالي ليعيدَ التحديق في الأفق ثمّ يطلقُ آمالَهُ مرّةً أُخرى قبلَ أنْ يغفو على الهمّ..
قرّر أخيراً أن يرحلَ هو لأحلامه بعدما سئمَ الانتظار..
ترك مقعده الحجريّ و السّقاء...ودّعهما بنظراتٍ منْ حَنينٍ ممزوجةٍ بأسى.. ثم انطلق..كان مندفعاً في مسيرته الطويلة كأنهُ موثقٌ بخيطٍ يشدّهُ للأمام..مرّ في رحلته بمحطاتٍ من عنَتٍ و اجتاز دروباً من شقاء..وجوهاً كثيرةً صادفها في رحلتهِ يعرف أصحابَها ويتذكر قسماتهم ..ولعلهم يعرفونه ..لكنّهم كانوا يكتفون بالنّظر إليه و هو يتنكّب عناء الطريق ، ولا يبوحون الا بصمت ٍارتسم على الوجوه ..لم يسأله أيٌّ منهم عن بُغيته فهو مثلهم ليس أكثر من أحد العابرين بين هذه المحطّات ..
أخيراً عَرَضتْ له محطّةٌ تنبعث منها جذوةٌ من نور، أحسّ عندها بأن عليه أن يتوقّف بعدما تثاقلت خطواته..لعلها تكون مقصده ..دنا منها .. جمْعٌ من الناس هناك ..سكونٌ يسود المكان إلا من وقع الأقدام..إقترب أكثر فأكثر ...صُدم عندما رأى ثانيةًً مقعده الحجريّ و السِّقاء....تقدم ليأخذ مقعده.. إتّكأ مرةً أخرى ثمّ أغمض جفنيه..!