أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: توالج التوالج

  1. #1
    الصورة الرمزية مامون احمد مصطفى أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2016
    المشاركات : 60
    المواضيع : 35
    الردود : 60
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي توالج التوالج

    توالج التوالج
    مأمون أحمد مصطفى

    نهايةُ الشيءِ بدايةٌ لشيءٍ آخر، ودليلٌ على انتهاءِ مرحلةٍ؛ من أجل استعداد مرحلةٍ جديدة للتشكُّل والتكوُّن والامتداد، والأهمُّ الحضورُ الدائم في ثنايا الزمن وتفصيلات المكان.

    ولأن البدايات لها شكلٌ يَختَلِف عن النهايات؛ فإن لحظةَ انتهاءِ شيءٍ، تكون هي ذاتُها لحظةَ بدايةِ شيءٍ آخر، وبين البدايات والنهايات، والبدايات المتَّصِلة بنهايات بدايات ضامرة، تكون ملايين الملايين من الأَجِنَّة الفكرية، الشعورية، النابعة من ثقافات متصادمة، متضادة - هي محور ما يمكن اللجوء إليه من أجل استنطاقِ تلك الأَجِنَّة، وجعلها شاهدًا بريئًا، نقيًّا، لا يعرف التدليس أو الكذب أو الدجل والتحوير، لتقول لنا ما نَوَدُّ أن نعرف عن تلك البدايات والنهايات، قولاً لا يمكن الشكُّ فيه، أو حتى محاولة البعدِ عن الالتصاق به؛ من أجل تزويد التاريخ الحاضر، بمعطيات الماضي، من أجل شهادة صادقة عن المستقبل.

    حين ساقتني دعوةُ الوَكَالة الجزائرية للإشعاع الثقافي إلى أرض الجزائر، كنتُ قبل الوصول أحمل بأعماقي بعدًا سادسًا أو سابعًا، من التوقع، والتحسُّب، والانفلات من عقال التركيز حول الأماكن التي يمكن زيارتها، من خلال ما قدَّمَت الوكالة لي من كرمٍ في انتقاء ما أتمنَّى رؤيتَه هناك، تركتُ ذلك لذوقِهم، لكن في المقابلِ أشرت إلى أمنيةٍ تُرَاوِدُني كعَرَبِيٍّ، وهي الوصول إلى أماكن الثورة التي قَدِمت من الجبال ليتمَّ احتضانُها في حي القصبة، والحق أني لم أَعرَف حي القصبة إلا من خلال بَرْنَامج وَثَائِقي بثَّته "قناة الجزيرة" قبل أعوام، لكنه ظلَّ رغم تلاشي الصور التي رأيتُها، حاضرًا كوجودٍ قائم بأعماقي، وحين وصلتُ تحرَّكت بذات اليوم إلى الحي؛ لألمس المكان الذي تسكنه الأجنَّة التي أَوَدُّ الإصغاءَ بانتباهٍ شديدٍ ومركَّز إلى شهقاتها وأنَّاتِها، إلى زَغَارِيدها وأهازيج الاحتضان، الذي التحم مع شرارة الجبال وأنفاس المليون ونصف المليون شهيد، الموزَّعة أرواحُهم كسياجٍ من نور فوق الوطن الجزائري العميقِ النخوةِ والكرامة والتضحية والفداء.

    الصدمة، الارتجاج، الخضّة، امتَزَجَت كلُّها بأعماقي، التفاصيلُ الموطدة في الأرض كشواهدَ هَمَست من بعيدٍ، ورويدًا رويدًا بَدَأت الأصواتُ تَعْلُو، أُذُنَايَ مشنَّفتان، بصورةٍ أدقَّ من قدرة حواسِّ الأفاعي لاستقبال موجات الفريسة، تَمَحْوَرت ذاتي وانكمشت، تكوَّرت حتى تستطيع استجماعَ كلِّ الترددات والذبذبات، التَقَت النداءاتُ بالحواسِّ، فانفَلَتت الذاتُ لتتوزَّع فوق الذرَّات وحركاتها.

    شارع أول نوفمبر، حيث الشاطئ الشاهد الأول، وحيث البنايات الفرنسية التي نُصِبت وزُرِعت؛ لتكون أسَّ الوجود وديمومتَه، دون تأمُّل يتوقع النهاية التي كان الموج والرمل على الشاطئ يُخفِي قَضْقَضَتها، وهي تتحرك من الأعماق نحو التحوُّل القادم؛ لتُصبِح رؤى الديمومةِ حلمًا شاهدًا على ما لم يكن ضمن حالات التأمل والانتباه.

    اقتربتُ بقوَّة الإدراكِ والعزيمة، تأمَّلت الفخامة والضخامة، والقوة والمَنَعة، التي تتحكَّم في كل جزء من أجزاء البِنَايَات التي كان الفرنسيون يشيدوها، وانتَبَهت للزخرفات الموزَّعة على الجدران والأعمدة والأقواس؛ زخرفاتٌ رائعةٌ، بها ذوقٌ رفيع، يَنُمُّ عن قدرة فيَّاضة في رسم التفاصيل الدقيقة بين قطعِ الإسمنت والصخور المركبة بعد صقلها ونَمْنَمَتها فوق الأبواب والنوافذ، تماثيلُ كثيرةٌ تطلُّ من بوابات وجُدُرٍ موزَّعة هنا وهناك، وكأنها كائناتٌ صمِّمت لتكون أيضًا شواهدَ على التاريخ، وعلى فترات خصِّصت من أجل توطيدِ البناء بقوَّته ومَنَعته وصلابته، مع جماله ورقَّته وتشكُّله كفَنٍّ معماري صامتٍ إلا من الشواهد التي يُخَبِّئها للزمن القادم.

    تتداخل البِنَايات الفَرَنسية مع البِنَايات الإسلامية، التي سبقت ووطَّدت الحضارة الإسلامية هناك، ولا يخلو مَعْلَم من المعالِم من الفنِّ الإسلامي - وخاصة العثماني - من وجودِ حاضرٍ وشاهدٍ قويٍّ على تنازعِ الوجوه والجماليات والأهداف بين البناء الإسلامي والبناء الفَرَنسي.

    بين هذه الشواهد التاريخية يتبدَّى البناء المعاصر بأشكاله المختلفة: فمن بناء تقليدي كعُلَب متراصَّة لا حياة فيها ولا جمال، إلى بناءٍ عَصْرِي، وإن بدا حديثًا ولامعًا، إلا أنه يَفتَقِد الحياة والشعور، فهو ليس سوى بناء مزجَّج الواجهات لاستقبال الشمس التي تتخلَّله من كل الجهات، دون أن تَمنَحه نفحةَ حياةٍ أو حرارةَ شعورٍ، بناياتٌ يُمكِن تسميتُها - دون أدنى تردُّد - بأنها بناياتٌ صامتةٌ، لا تتحدَّث ولا تُحَدَّث، وكأنها ألواح من زجاج يَحتَفِظ بذاته دون أن يَملِك المقدرة على امتلاك صفة الشاهد، أو حتى شاهد الزور.

    البنايات التي تبدو كعُلَب متراصَّة، يسكنها الحزن العميق المؤثِّر المكدَّس، فهنا جدران مَطْلِيَّة باللون الأصفر الراعب المُثِير للغَثَيان، وهناك جدران بدا التآكلُ واضحًا عليها، وبيوتٌ لا يمكن أن تُخطِئ العينُ فقرَ إمكاناتها وفقر أهلها، كلُّ هذا يتشكَّل في محيطات من بؤرٍ غارقة بالتناقض والاختلاف والنأي عن التجانس.

    وما يهمُّنِي هنا، هو الشاهدُ أو الشواهد؛ لأن البنايات الحديثة - كما قلتُ - صامتةٌ صمتَ المقابرِ، لا تستطيعُ الوصولَ إلى مرحلة الاستنطاقِ من أجل التاريخ المعاصر أو القادم، ربما ما زالت مرهونةً بالحيرة والتساؤل، كما الحاضر ذاته في الجزائر والوطن العربي.

    أمام البنايات الفَرَنسية وقفتُ وقفاتٍ طويلةً، نظرتُ إليها من جميع الاتجاهات، من كل الزوايا، مدفوعًا إلى كل ذلك برواسبِ التاريخ وفترة "الاحتلال"، وكذلك بالفنِّ الذي يظلِّلها، ويَلتَصِق بكل جدرانها، والأهم القوَّة والصلابة والمَنَعة، التي تتمتَّع بها، إضافةً إلى عامل لافِت للنظر، وهو توزيع الشوارع والطرقات بينها، كل هذا كان يأخذني إلى البنَّائين والمهندسين ومَن خلفهما؛ ليخرج البناءُ بهذه العظمة والقوة.

    هنا - وقبل أعوام طويلة - وقف البناء الفَرَنسي، أنا أراه كما كان لحظةَ التأسيس للبناية هذه والتي تليها، أراه وهو يتفصَّد عرقًا، ملفوحًا بالبرد حينًا آخر، لكنه يَقِف، وفي رأسه ألفُ ألف، طُوفَان من الأفكار الثابتة الراسخة؛ أفكار خاصة به، بوطنه، بتربيته، بطريقته في فهم الأمور، وطريقته في الاعتقاد المطلَق بامتلاكِ الحق الكامل في نشر أفكاره على أنها الأفكار التي يُمكِن للبناء الاستنادُ عليها، الوقوفُ في وجهِ الزمن بدفع باطني متجدِّد للبقاء، رغم الهزَّات والرجَّات، هو يؤمِن من خلال ما يَملِك، من قوة، من سلاح، من قتل وبطش، من سفك وذبح - بأن الأسس التي ترسى هنا، هي أسس على الوطن الجزائري أن يَقبَلَها على أنها مِنْحَة من مِنَح المتفوِّق ومَن اختصَّه الله بترويضِ الشعوب والأوطان؛ ليكونوا خدمًا لتفوُّقه، لا شكَّ أبدًا في أنني أستطيع الآن أن أقرأ على كل جدارٍ وواجهة، على كل قوس وزخرف، على كل تمثالٍ متمسِّك بجدر البنيات أحلامَ الفَرَنسيينَ، وهم يضعون الجزائر كمستقبلٍ لفرنسا، ويضعون الأسس لتحويل الشعب الجزائري إلى مجموعةٍ من العبيد الذين لا يُتقِنُون شيئًا بعيدًا عن توجيهات أسيادهم، المتفوِّقين خَلقًا وخُلقًا، أولئك البِيض الذين اجتباهم الله من أجل أن يَسُودوا بقيَّة الأمم الضامرةِ التكوينِ، والوجود، والذكاء، والخلق.

    أقرأه بيقينِ مَن يَعرِف كيف تتحدَّث البِنَايَات بأفواهِ مَن أوجدوها، تلك الأفواه التي أَنْجَبَت حضارتُهم مجموعةً من الأطباء المتخصِّصين في الأمراض العقلية، حين قرَّروا في أحد مؤتمراتهم ليُعْلِنُوا "عن حزنهم لشيوع الجريمة بين "السكان الأصليين"، وقالوا: "إن هؤلاء الناسَ يَقتُل بعضهم بعضًا، وهو شيء غير سوي، فلا بدَّأن القشرة الدماغية لدى الجزائريين متخلِّفة النمو".

    وقال آخرون -في إفريقيا الوسطى -: "إن الإفريقي لا يَستَعمِل الفصَّين الجبهيين من الدماغ إلا قليلاً".

    نعم، هي الحقيقة التي اعتمد الفَرَنسيون عليها من خلال عقولهم لاستباحةِ الجزائر، البلد التي أَطعَمَتهم، وسَقَتهم، ومَنَحتهم، يومَ كانت المجاعة تَكتَسِحُهم، كلُّ ما يمكنُ للإبقاءِ على كرامتهم وإنسانيهم ووجودهم المادي والمعنوي.

    قليلٌ من الفَرَنسيين مَن أدرك حجم الهول الناتج عن فكرة العنصرية، والتفوُّق، واستمراء عبودية الأمم والأقوام الأخرى.

    "سارتر" كان منهم، يوم قال: "كانت كلمة فرنسا في الماضي اسمًا لبلد، فحذارأن تُصبِح فرنسا عام ألف تسعمائة وواحد وستين اسمًا لمرضٍ من أمراض العصاب".



    وهو مَن قال ووصف عقلية الاستعمار بشكلٍ عامٍّ، والاستعمار الفرنسي بشكل خاصٍّ:

    "إن المُستَعمِر لا يكتفي بالقول: إن القيم قد نزحت عن المجتمع المستعمَر، أو أنها لم توجد فيه يومًا"، وإنما هو يُعلِن أن السكان الأصليين لا سبيلَ لنفاذِ الأخلاق إلى أنفسهم، وأن القيم لا وجودَ لها عندهم، بل إنهم أَنْكارٌ للقيم، أو قل: إنهم أعداء للقيم؛ فالمستعمَر بهذا المعنى هو الشرُّ المطلَق، إنه عنصر مُتْلِف يُحَطِّم كل ما يُقَارِبه، عنصرٌ مُخَرِّب، يُشَوِّه كل ما له صلة بالجمال والأخلاق، إنه مستودَع قُوَى شيطانية، إنه أداةٌ لقوى عمياء، أداة لا وعي لها ولا سبيلَ إلى إصلاحها.

    وهذا "مسيو ماير"، يقول جادًّا في "الجمعية الوطنية الفرنسية":

    "إن علينا ألا نُلَوِّث الجمهورية بإدخالِ الشعب الجزائري إليها؛ ذلك أن القيم تَتَسمَّم وتفسد على نحوٍ لا يُمكِن إصلاحه متى جعلناها تحتكُّ بالشعب المستعمَر.

    إن عاداتِ المستعمَر وتقاليدَه وخرافاتِه - خاصة خرافاته - هي بعينها علامةُ هذا الانحطاطِ وهذا الفساد القائم في تكوينه وذاته؛ ولذلك يجب أن نضع على مستوى واحد مبيداتِ الحشراتِ التي تقتل الأمراض، والديانة المسيحية التي تُحَارب الهَرْطَقات والغرائز والشرَّ في مهدها.

    إن التقدُّم في القضاء على الحمَّى الصفراء، والتقدُّم في نشر دين الإنجيل - أمرانِ متشابهان، ولكن البلاغاتِ المظفرةَ التي تَنْثُرُها الإرساليات التبشيرية؛ تدلُّنا على أن خمائر الضياع المنبثقة في جسم المستعمَر هي على جانبٍ كبيرٍ من القوة.

    وحديثي هنا عن الديانة المسيحية، ولا حقَّ لأحد أن يَدْهَش من ذلك، إن الكنيسة في المستعمَرات هي كنيسة بِيض، كنيسة أجانب، إنها لا تدعو الإنسان المستعمَر إلى طريق الله، وإنما تَدْعُوه إلى طريق الإنسان الأبيض، إلى طريق السيِّد المتسلِّط، إلى طريق المُضْطَهِد الغاشِم، وأنتم تعلمون أن في تاريخ البعثات التبشيرية هذا كثيرًا من المكلَّفين، وقليلاً من المختارين".

    وتمضي هذه الثنائية أحيانًا إلى أقصى منطقها، فتجرِّد المستعمَر من إنسانيته، حتى لتعده حيوانًا؛ انظر إلى اللغة التي يتكلَّمها المستعمِر حين يتكلَّم عن المستعمَر، تجد أنها اللغة المستعملة في وصف الحيوانات، إنهم يَستَعمِلون هذه التعابير:

    "زحف العرق الأصفر"، "أرواث المدينة الأصلية"، "قطعان الأهالي"، "تفريخ السكان"، "تنمل الجماهير" .... "هؤلاء السكان الذين يدبُّون على الأرض"، "هذه الجماهير المستهترة"، "هذه الوجوه التي فرَّ منها كل معنى إنساني"، "هذه الأجسام المترهلة، التي لا تشبه شيئًا من الأشياء"، "هذا القطيع الذي لا رأس له ولا ذنب"، "هؤلاء الأطفال الذين لا يبدو لهم أهلٌ"، "هذا الكسل المُستَلقِي تحت الشمس"، "هذه الحياة التي تشبه حياة النباتات"... إلخ.



    ولقد تكلَّم "دو جول" عن "الجموع الصفراء"، وتكلَّم "مسيو مورياك" عن الكتل السوداء والسمراء والصفراء، التي تهم أن تندفع أمواجها".

    حين وقفت أمام البنايات، قرأتُ كل سطر مما سبق، كان واضحًا وكأنه يُكتَب بيدِ المهندس والبنَّاء والعامل، وأنا أقفُ لأقرأ، كل حرف كتبه الأمل المحشو بقدرةٍ على إبقاء الجزائر تابعةً لفرنسا مدى الحياة، بل وأكثر من ذلك، إفراغها من محتواها: التاريخي، والحضاري، والإنساني، والقومي، والديني، وكانوا مؤمنين بأنهم قادرون على ذلك، إيمانًا أَنْسَاهم الإحسانَ والمروءةَ والحضارةَ، والدَّين الذي تَمتَّع الجزائريون به يوم وَقَفوا إلى جانب الشعب الفَرَنسي وحكومتِه ومفكِّريه وأطبائه؛ ليُنْقِذُوهم من الموت جوعًا، كانت الجزائر تقدِّم قبل احتلالها رسالةً عظيمة للتاريخ والحضارة والأديان، رسالةَ إيمانٍ ورحمة وشفقة، رسالةَ شعبٍ وأمةٍ لا يَستَطِيعَان تركَ الناس تَمُوت جوعًا، دون أن يَمنَحُوهم من رحيقِ أرواحهم وعصارة قلوبِهم، ما يُبْعِد غوائلَ الموت عنهم وعن أطفالهم ونسائهم.

    وحين التفتُّ للوراء عَرَفت بأن فَرَنسا كانت تَملِك اللحظةَ - اللحظةَ المقطوعةَ الرأس والقدمين - دون أن يَرَوا أو يُشَاهِدُوا البِنَايات الملاصقة، والتي لا يَبْعُد بعضُها سوى أمتار عما يؤسِّسوا، لم يشاهدوا الماضي ليَعْرِفوا المستقبل.

    البِنَايات الإسلامية منذ عصر الفتح، حقبات تاريخية متتالية، تقفُ شواهدَ أخرى على حضارةٍ جاءت إلى هنا، فاحتضنها الوطن الجزائري برغبةٍ عارمةٍ، منحوها: الأرض، والوطن، والماضي، والمستقبل، اندَغَمُوا فيها وانصَهَرُوا، حتى بات الإنسان لا يعلم فرقًا، أو يشاهد اختلافًا بين الوجوه البشرية والبنايات الإسلامية، هو: "التوحد، الاندماج الكلي، تبادُل الجِينَات والشيفرات الوراثية، مزجها معًا؛ لتكون الصورةُ كلُّها واحدةً، لا خدشَ فيها ولا فرق.

    بناياتٌ عظيمةٌ، ومساجدُ رائعةٌ كبيرةٌ ممتدَّة، تَعلُو مآذنها في الفضاء، وحمَّامات ومحلات نُحَاس، حي القصبة مثالٌ رائعٌ لتقارب الماضي الذي لم يره الفَرَنسيون، والواقع الذي أتخمتهم خرافتُهم بقوَّةِ قدرتِه على الاستمرار؛ كي لا يَعْرِفُوا المستقبلَ المخبَّأ بين أزقَّة الحي الرابض كأسدٍ يَنتَظِر لحظةَ الانقضاض.

    ولأن المستعمَر قرأ ما قرأتُ، وخَبَر ما خَبَرْتُ، وأدرك - قبل المستعمِر - كيف يُمكِن وصلُ الماضي بالحاضر، وكيف تكونُ اللحظات الحاضرة في ذهنِ السيِّد المتسلِّط، كانت الشرارةُ، من الجبال المنيعة؛ إيذانًا بانتهاء مرحلة وبَدْء مرحلة.

    حي القصبة، احتَضَن الشرارة، أسكنها بأعماقه، شحذ همتها، وصَعِد أُوَارها، وأَذْكَى لهيبها، انطلقت الثورة كاملة حُبْلَى بملايين الملايين من أجنَّة المستقبل، وحُبْلَى بملايين الشهداء والجرحى والثَّكَالى واليتامى والأسرى، كانت في كل مرحلة، وكل زُقَاق، تلدُ ولاداتٍ متواصلةً، بطلقاتٍ ولادةٍ مؤلِمة - لكنها لذيذةٌ سائغةٌ - تُرْجِل الراكب، وتركب المترجِّل، اندفاعاتٌ عظيمةٌ كأمواج المتوسط حين يَحنَق ويَغضَب، أمواجٌ خلف أمواج، وإعصارٌ خلف إعصار، زَوْبَعة تتلوها زوابعُ، وبُرْكَان يفجِّر بركانًا، وزلزال يوقظ زلزالاً، احتَفَت الشمس بضياءِ الدماء، وتألَّق القمر بندى حبَّات عَرَق نازفةٍ من طلقِ ولادةِ شهيدٍ، وغَمَامات من نورٍ تظلِّل الجرحى، تعانق الأَسْرَى، ارتفع الوطن من عمق الجرح القديم، تربَّع التراب فوق الجبال، وهبَّت نسائم المتوسِّط، تعانق "السرو مع الكينا"، والتحم الزيتون بالتين، دارت الأشياء والأمكنة والأزمنة في دائرة البعث المُضَمَّخ بروائح الشهداء، كانوا مليونًا ونصف المليون، هذا ما نَعرِف وما استطاعت الإحصاءات أن تقدِّمه، حركة الأشياء تمازجت بحركة الأرواح، فدبَّت الحياة، وبدأت الأرض تُزهِر حرية، وتُورِق انعتاقًا.

    كان التحرير.

    بقيت الجزائر عربية إسلامية.

    ورحلت فَرَنسا، ضَمَرت أحلامُها، ومُسِخَت تطلُّعاتُها.

    هو المستقبل؛ الذي دفعني من رحم الزمن المخبَّأ بغلالاتِ المجهول؛ لأكونَ هناك، أمام البِنَايَات، وعلى شاطئِ المتوسِّط؛ لأُشَاهِد مقامَ الشهيدِ، وهو يناطح السحاب، ولأرى الشوارع هناك كلَّها تَحمِل أسماءَ شهداء رَحَلُوا، حتى البِنَايات الفَرَنسية، حملت الحروف العربية صاغرة خاضعة، وحملت أسماء الشهداء رغم أنفها، الذي كان يومًا لا يعترف بحق الشعب بتنفس هواء وطنه.

    هو المستقبل، الذي أخذني من مدرسة اللاجئين في مُخَيَّم طول كرم، حيث قرأتُ عن حادثة المروحة، عن ثورة الجزائر، هناك أيضًا أَنشَدت نشيدَها، كان مقررًا مدرسيًّا في المحفوظات، وهناك قرأنا عن عبدالقادر الجزائري، ومن هناك أتيتُ أحمل طفولتي وتَبَرْعُم شبابي؛ لأَقِفَ أمام الطفولة ذاتها في حي القصبة، وعلى شاطئ المتوسط الذي وقفتُ على أعتابه هناك في وطني، من هناك أتيتُ، وفي فمي طعم التين والتمر، وهنا التصقت بطعم التين والتمر، من هناك أتيت أحمل أحلامًا عريضة، عرض السموات والأرض، وهنا أَودَعتُ أحلامي في ثنايا الشهداء؛ لتُزْهِرَ يومًا حرية هناك، في وطني، فلسطين.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    كانت الثورة الجزائرية .. ثورة الجماهير والحرب الشعبية التي خاضتها والكفاح المسلح الذي عمد بدماء الشهداء
    أساس طريق النصر وتحقيق البطولة قي هذا الزمن العربي الرديء فشكل انتصار الجزائر ثورة المليون والنصف
    شهيد حافزا أساسيا لبلورة مفهوم الانطلاقة للثورة الفلسطينية
    نحيي الشهداء الذين كتبوا التاريخ وأناروا شموع الحرية وقهروا الظلم والطغيان .

    استمتعت بتفكيرك الفلسفي وبقدرتك على الرؤية الواعية للأشياء
    بقلم فاق كل الممكن والمتعارف عليه ، ونفس طويل تنسج قطعة أدبية تتسامى روعة
    وتعبق شذى وتتوغل في عمق الأحاسيس.
    قلم نقي وتفكير سوي وسطور متخمة بالدهشة
    أشكر هذا القلم السامق. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  3. #3
    الصورة الرمزية مامون احمد مصطفى أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2016
    المشاركات : 60
    المواضيع : 35
    الردود : 60
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    الاستاذة نادية
    أثمن بكل ثقة وفخر مرورك الكريم على نصوصي، وأسجل لا من قبيل المجاملة، وانت الان تعرفين انني لست ممن يجامل او يحاول جمع التعليقات والردود، اسجل اعجابي بقدرتك على ولوج النص بما يحمل من زخم ومعنى، وأسلوبك في اختيار المفردات حين تسجلين تعليقا على النص.
    فخور بمرورك
    مع كل التحية والتقدير

المواضيع المتشابهه

  1. توالج 2
    بواسطة مامون احمد مصطفى في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 22-11-2016, 10:48 AM
  2. توالج 1
    بواسطة مامون احمد مصطفى في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 15-11-2016, 04:34 PM