لو حدث- يوماً- أن وجدت نفسك طرفاً في حوار ..
ولاحظت أن الطرف المقابل لك يمتلك الجـرأة على تسفيه المنطق والسخرية من الموضوعية ؛
ولمحته يتلذذ بالقفـز على الحقائق ؛ ووجـدت أنه لا يتورع عن المحاجّـة بأدلة تعوزها الحكمة ؛
ورَشَحَ لك من قناعاته أن العنف هو خياره الأول مُكـرّر- بعد الحُجّـة الضعيفة ؛
وأدركت أن من هواياته ومواهبه لي أعناق الألفاظ - لتتطور دلالاتها- فتـُحيل هزيمته إلى نصر ، ونصر أعدائه إلى هزيمة ؛
وإذا بدت لك منه ثقافة المكابرة والضبابية والتعميم .. كالاحتفاء المعلوم - بنجـاح مـزعـوم ،
أو تفاخره بأمجاد قديمة - انتهت صلاحية بعضها ويفتقر الآخـر للبراهين ؛ والاستبشار بمستقبل زاهر مُستشهـِدَاً على قدومه بعموميات القول ؛ وتجاهله لحاضره الأليم ؛
وإذا تراءت لكَ استهانته بالمواجهة- اعتماداً على ضعفه القوي- في مقابل- القوة الضعيفة لدى خصمه ...
فاعلم أنـّكَ تُحاور إنساناً وفيّاً وطـَمُوحٌاً ومتفائلاً ومؤمناً- من الدرجة الأولى- وفق تصنيف الثقافة العربية والفكر الإسلامي - السائدين اليوم .
ولكي تحظى بصحبة هذا الوفي المتفائل وتأنس بمجالسته الطـَمُـوحة وتنعم بجنة ذاك المؤمن .. فعليك أن تنأى بنفسك عن شبهة التشاؤم ..
الأمـر الذي سيُـحتم عليك إنكار مأساتك العملية في الحاضر ؛ والتظاهر بسعادة-جدلية- في مستقبل مجهول- رسمته أوهـام في عالم الأحلام في فضاءات خيال العاجـزين .
فالمتفائلون المفرطون في تفاؤلهم هم أناسٌ يعيشون بيننا أجساداً- بينما يعيشون فكراً- في عوالم أخرى من نسج الخيال السعيد ، أي أنهم ليسوا واقعيين ، ويصل بهم الأمر حـد التجاهل للحقيقة وتعطـيل وظيفة العقل .
وستلاحظ أن الحديث عن المنطق والموضوعية هو أكثر ما يغيظهم ؛ فهم يعتبرون الواقعية تشاؤماً غير مُبـرّر .
وإذا كنت توافقني - فأنا لا أعلم للتفاؤل خطاً وسطاً- يُقيم للمنطق وزناً- إلا ما ندر ؛ فالمعتاد هو ارتباط التفاؤل بالإفراط ، والميل إلى مجاراة الخيال في تجسيد وهم النجاح والسعادة- والتلذذ بذلك الوهم في واقع افتراضي ..
وأرى أيضاً أن المتفائلين هم أقـرب الناس وأقدرهم على تحريف مقاصد المفاهيم وتلويث الثقافات- بارتكابهم الأخطاء وتبريرها ..
لأنهم يرسمون لأنفسهم مستقبلاً افتراضياً جميلاً ، ويعيشونه حاضراً قبل أوانه . فتراهم سُـعداء في أوج مرارة واقعهم - وهذه قمة اللا منطق واللا عقل . وهذا ما يُربك عقول البُسطاء فيُحيلهم إلى غثاء .
فالمتفائلون يؤولون الأمور باتجاه إثبات أن رؤاهم وأحلامهم بدأت تتحقق ، فيتجاوزون حدود الواقعية والموضوعية والعقلانية-غالباً .
وأجِـدُ جُـلّـهم يحيون حياة غريبة- فلا يعبئون كثيراً بالمضاعفات السلبية لقناعاتهم وتصرفاتهم ، ولا يُعيرون اهتماماً للمفاهيم الأولية للكرامة . وتستند مشروعيتهم إلى سد الحاجة بالنتيجة أكثر منها إلى الطريقة ..
ففي حين أن الآخرين يُشفقون عليهم - تراهم يتلذذون بذلك ويحسبون الأمـر لصالحهم ، ويعدونه نتيجة إيجابية لتفاؤلهم وحبهم المشروع للحياة .
أما إذا سـرّك جـدال المتفائلين والمُشاحّـة في مصطلحاتهم – بصفة عامة ، وأردت أن تـُحـدث خرقاً مادياً يُبـدّد سكونهم الوهمي .. فلك أن تتساءل أمامهم عن مزايا الموت وعيوب الحياة ..!
كأن تتجرأ مثلاً وتقول .. أن أجمل ما في الحياة موتها .. ثم تستطرد شارحاً وجهة نظرك ..
تقول القاعدة العامة أنّ لكل قاعدة شواذ ، والموت هو أول الشواذ لقاعدة " كل ممنوع مرغوب" .!
ولكل مفهوم مُتعارفٍ عليه-استثناءات ، والموت استثناء من مفهوم" كل مجهول يُـثير الفضول" .!
وكراهية الشيء والخوف منه لا تحظى بالإجماع-عادةً- إلا بمعلومة مؤكدة أو تجربة عملية- تـُبرّر تلك الكراهية وذلك الخوف..
إلا في أمـر الموت ، فالجميع متفقون في كُـرههم له ورعبهم منه- انطلاقاً من حبهم لغيره ( الحياة ) ، وليس لسبب معلوم في ذات الموت .! ..
وقد يشي استثناء أمـر الموت من هذه القواعد والأعراف- بأن كراهية الموت ليست مُبـرّرة ، أو أنها ليست منصفة ، أو ليست مفهومة-على أقل تقدير- إلا وفق قاعدة " أن الإنسان عدو لما يجهله ".! ..
وهذه نتيجة تصب في صالح الموت- إذا استثنينا الفـزع الذي ينجم عن أسباب وكيفية الموت المفاجئ "اللا إرادي" ؛ وهو العذر المفقود في حال الموت الاختياري .
ومن المفارقات التي تعايش معها العقل البشري دونما قراءة منطقية تخترق رموزها .. هي أنه :
إذا كان الجميع يُحبّـون الحياة ويكرهون الموت ويخافونه ، فما بال "الانتحار" تـُحـرّمه الشرائع السماوية ، و تمنعه الدساتير الوضعية ، و تنبذه وترفضه الأعراف البشرية .!
ثم هل لنا أن نتساءل : لماذا لم يُـشـرَّع ويُباح الموت الاختياري (الانتحار) ، اعتماداً على- سُـنـّة- حب الإنسان للحياة .؟
أم أن الأمر قد يتجاوز هذه الصيغة من الطرح أو التساؤل، ليأخـذ الأمـر صيغة التفاؤل في علاقة الإنسان بالموت .. ويكون السؤال :
هل يمكن أن يتم التآلف أو التزاوج- يوماً- بين الإنسان والموت- على حساب علاقة الإنسان بالحياة وحبه التقليدي لها ؛ ذلك الحب غير المتبادل- والذي هو من طرف الإنسان لصالح الحياة ..!
ومن ثـَمّ يكون استثمار الموت الاختياري كأحد البدائل لحل الإشكاليات الناجمة عن تضارب مصالح وأفكار البشر ، أو تلك الناجمة عن عدم التكافؤ بين المطلوب والممكن- في مجتمع ما ، أو لدى فرد ما ..!
أم هل يحق لنا نحن معشر المتشائمين- أو غير المغرمين بالحياة- أن نطلق العنان لخيالنا فنتصور مستقبلاً مشرقاً ومكانة رفيعة للموت بين بني البشر؛ كأن تـُكتشف حقائق وأسرار في أمـر الموت- تؤدي إلى قلب الموازين السارية- حتى يصبح الأسف والبكاء على من تأخر موته من الأحباب ؛ وتكون المواساة في الحياة والتهنئة في الموت .
للموت إذن .. مع الإنسان - في مقابل الحياة - فلسفات وحِكـم ومفارقات- يكتنفها الغموض والطرافة أحياناً-إن صح التعبير .!
ومما يُـثير الاستغراب في شأن الموت .. هو رعب الإنسان الشديد منه ، وعدم استعداده له أو لما بعده- مع علمه أنه قادم لا محالة ، وأن كل لحظة قد تكون هي لحظة وصوله .
فعِـوض الاستعداد له- نجد الإنسان يبذل كل ما يملك من مال وجهد من أجل تأجيل وصول الموت- لساعات أو لأيام ، أو حتى لسنوات ...
وتأجيل الموت مدة زمنية محدودة وليست معدودة- قِصراً ؛ ودون هدف يُـذكـر- سوى متابعة دورة الحياة الآنية التي أكمل الإنسان محيط دائرتها دوراناً- مرات عديدة ، وأشبعها دراسة وخبرة- نظـرياً وعملياً ...
وهذا مُبـرّرٌ لا يقبله المنطق السليم .. إلا في ثلاث حالات- مجتمعة أو منفردة - فيما أرى .. وهي :
1- أن مصير الإنسان بعد الموت .. يـتأثر إيجاباً بزيادة عـدد أيامه في الحياة الدنيا ، وسلباً بنقصها .. وهذا المُـبرّرُ ليس متوفراً .
2- أن للموت محاولات معدودة للفتك بالإنسان .. إذا تجاوزها تمكّـن الإنسان من الخلود في الدنيا .. وهذه فرضية ليست مطروحة أو ليست قابلة للتحقق ،
أو أنها معلومة غير متوفرة . وحتى إن توفرت فهي ستكفل الحياة فقط ؛ ولن تكفل السعادة المستمرة- والتي هي هدف الإنسان من الحياة ... أو هكذا يجب أن يكون ..!
3- أن ما بعد الموت ظـُلْـمٌ وآلامٌ ومآسٍ - مؤكدة ، ولا شيء غيرها ، ولا سبيل للنجاة منها ، وهذه كذلك فرضية لا يُقـرّها العقل ، ولا يصح أن تكون سبباً كافياً في محاولاتنا لتأجيل ساعة الموت . .. انتهى ..
فيما عدا هذه الفرضيات اللا واقعية – فإنني لا أجد مُبرّراً يجعل الإنسان يتمسك بالحياة ، ويكره الموت ويخافه ؛ بل إنه لا يوجد ما يُفيد بأن حياتنا الآن هي أفضل من الموت .
يتبـع ....