/// حنين ///
~~~~~~
أقفل جهاز الحاسوب ، تناول سترته الأنيقة عن المشجب ، موليا وجهه شطر باب المكتب ، كعادته في هذا الوقت من كل يوم عمل ، وكل أيام الأسبوع بالنسبة له عمل ..
شاردا ، يصفر لحنا موسيقيا حمله في ذاكرته وقلبه من وطنه ، لطالما أحب أن يطلق نغماته من خلال شفتيه المضمومتين ، قاطعا الطريق بهدوء وبطء، متجها إلى المجمع التجاري الكبير ، الذي تعود أن يتناول طعامه فيه ، حيث تجمع المطاعم العالمية الفخمة ...
ولج إلى داخل المبنى ، استقل السلالم الكهربائية ، مارا بطوابق المبنى ، يجول بناظريه بين الواجهات الزجاجية ، يشغل تفكيره العمل ، وما يترتب عليه فعله بعد وجبة سيتناولها ، واجهة رصت خلفها ساعات يد أنيقة شدت انتباهه ، دخل إلى المحل، ابتاع واحدة لنفسه وأخرى نسائية ، وخرج يترنم على النغمات نفسها بصفير خافت ...
مضى يتابع حركته التي تشبه تلك السلالم التي تقله عبر أدوار المبنى صعودا ، وتقلصات الجوع تصدر صوت أنين من معدته الخاوية ، تستحثه الخطى إلى حيث توجد المطاعم ، بنظرة سريعة على يافطاتها بألوانها وأسمائها ، وإعلاناتها المختلفه ، مأكولات شعبية لشعوب شتى ؛ وجبات سريعة .. لم يطل التفكير دخل المطعم التركي الذي هو أقرب للمأكولات الشرقية ، أخذ صينية الطعام وبدأ يسحبها على المنضدة الطويلة ، مختارا ما اشتهت نفسه من أطباق ، وهو يمازح العاملين ...
وسط الصالة والضجيج ، بحث عن مكان يجلس فيه ، ولم يجد إلا مكانا قصيا لا يكاد يتسع لأكثر من شخص واحد في الزاوية قرب النافذة ، اتجه إليه بسرعة ، قبل أن يصل إليه أحد ...
نظر عبر النافذة من العلو الشاهق حيث جلس ، يرقب صخب الشارع ، والأحجام الصغيرة للمارين فيه من بشر وعربات ، انتقل بنظره إلى صالة المطعم حيث الزحام الذي يضج به المكان ، تعلقت عيناه بها ..
تأملها و الطفلين يداعبان خصلات شعرها الذهبيّ ، يتلمسان صفحة الوجه الهادئ ، وهي تستسلم لهما بفيض حنان ، ويدها تعانق ذراع زوجها ...
ـ يا لهذه الطيبة والوداعة ، وتلك الرقة التي لا حدود لها ! كادت يدها تلامس وجنته ، وتلك الأيدي الصغيرة ، كانت تداعبه برقة ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة لملمت كل الشوق والحزن ، ...
استفاق من شروده ، نظر إلى طعامه الذي فقد حرارته ، حاول أن يبتلع لقمة استعصت في حلقه ، فلم يستطع ، أمسك هاتفه النقال ، ضغط بلهفة على أرقامه ،
تحدث إليها بصوت مرتج ...
ـ اشتقت لكم جدا ، كيف هم الأولاد ؟ .
ـ لا ، أنا بخير ، ولكني أفتقدكم جدا ، هل كل شيء عندكم بخير ؟؟
ـ كوني بخير أنت والطفلين .
ـ ... ... ... ...
أرسل قبلة ، ثم ترك المكان مهرولا ..
في المطار كانت تنتظره ، ألقى متاعه أرضا ، ضمها والطفلين ، ودمعتان تلألأتا بكبرياء تأبيان الانحدار ، من خلف ظهرها .. كانت كل العيون تعانقه بشوق أكبر من شوقه .