أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 18

الموضوع: عازفة الكمان

  1. #1
    الصورة الرمزية زبيدة خضير الزبيدي أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : كنت أسكن بغداد
    العمر : 47
    المشاركات : 195
    المواضيع : 25
    الردود : 195
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي عازفة الكمان



    عازفة الكمان ____

    كانت كزنبقة بيضاء سحرية تغفو في إنائها الشفاف ، تنثر عطرا خياليا من كمانها الأحمر الحزين ،الذي أنسل من عمق زجاجة ممزوجة بعدة ألوان، تكسو المساحات الرمادية القاتمة من خلال أنامل يديها الطويلة المستدقة ،كألوان حالمة تحمل في طيات عزفها ربيعا مزهرا أختزلته بنظرتها الكستنائية الرائعة ،وتمايل جسدها مع النوتات الموسيقية ،كانت لا تملك إلا ظلها الطويل تسكبه على أعتاب تلك المعابد الليلية في القاعة الرحيبة التي تعج بالرائحين والغادين والجالسين أيضا، كخلية من نوع آخر ، تُمضغ فيها السكائر بنهم يوجع أوردة قلب ضعيف ،لم يحن توقف نبضاته بعد ، تنفث بدخانها أفاعي مسمومه برائحة شبق يتلوى ..ورغبات تستفيق لمرتاديها وزوارها ، تتعالى فيها مجامر الهمسات ويورق فيها ندى الحلم ،تلتحف النزوات فيها أوراق الورد الملون وقصاصات الحب السافر ، لم يكن المكان يلائم وجهها الملائكي البريء.. ولم يكن وترها يعزف لأذواقهم غير إن جمالها المرهف كان قد أنسجم مع أصوات قلوبهم وأخذ بلبهم ..
    ظل مكانها يأرج في الأثير كأنفاس نسيم عليل يبعث في النفوس ما شاء ..
    ويموسق الضوء مع الظلمة ،بينما صوت كمانها يتثاءب برعشة من الطرب تتماوج في الروح، فتتخللها رويدا.. رويدا .
    ( ضدان أستجمعا حسناً.. والضد يظهر حسنه الضدُ )
    قالها الشاب الذي ظل يترقب وقت دخولها للقاعة ويبحث في وجوه الحسان عنها ..
    لم يحاول الاقتراب منها أو حدثته نفسه عن المساومة معها ،بل اكتفى بالنظر والترقب والانتظار ،وبحدسه الذي قلما يخيب تيقن إنها الياقوته التي ترمى في النار ولا تحترق ..
    غير إن جمالها كان قد سمى داخل عقله قبل قلبه ورسم بفرشاة أنيقة حضورها المخملي ..
    وكان لا ينفك يلقي على نفسه الأسئلة وعينيه لا تفارق الباب شوقا لرؤيتها وهي تحتضن تلك الآلة السحرية .
    لم يكن الوحيد ، فقد سأل الكثير عن سر وجودها هنا وعـــــن عزفها المنفرد الحزين ..
    عُرف عنها إنها جاءت قبل أيام لتلتقي بمدير النادي الليلي ولتعرض عليه أن تعزف بكمانها هذا مقابل ثمن يكفيها لدفن جثة جدها العجوز الذي نقل إلى ثلاجة الموتى التابعة للمستشفى المترف الذي كان يرقد فيه منذ أيام عدة لنفاذ المال منها ولعدم دفعها تكاليف المستشفى المتبقية..
    ولأنها كانت قد أصرت على دخوله ذلك المشفى للعلاج من مرض الرئة الذي لازمه طوال سنوات معرفتها به ، في الماضي البعيد لم تهتم بأمره عندما أخبرها انه الوحيد الذي بقي لها في هذه الحياة بعد موت والديها بتلك الحادثة المشئومة ،يومها كانت تقترب من السابعة طفلة صغيرة غضة النفس لا تعرف غير دموعها وحنينها الغير مألوف لحضن ورائحة أمها ..ولكمان والدها الأحمر الذي كانت تغفو على عزف أوتاره ليلا كلما غازل الليل قمره العاشق .
    وعند بلوغها العاشرة أقترح صديق جدها ذلك الرجل الذي يتسول بعزفه ليأكل أن يعلمها أبجدية العزف على آلة والدها ، وظلت آهات الأوتار تطرز بمهارة فائقة ذلك الحزن المتراكم بقلبها الضعيف كثوبها الأسود المرصع بالأحجار المتلألئة الذي أشتراه يوما جدها بمدخراته ليسعدها في أول حفل تعزف فيه وتسحر الأنظار ولتزيد من وهج النفوس ,وتحيل مجلسها إلى أراجيح من النشوة والغبطة .
    كان الشاب يتململ في مكانه بعد شعوره بالعجز تماما تجاه ما يشعر به نحوها،فقد كانت لها هيبة عقدت لسانه ..
    لكن أخيرا .. وجدت نظراته طريقا إلى قلبها وبدأت لغة العيون بينهما تقول وتقول ..
    نظرت إلى المرآة وأبتسمت بحزن فاليوم هو الأخير من الصفقة التي أجرتها لتقبض مبلغ المال الذي يلزمها لدفن رجل حياتها .. ذلك الصرح العظيم الذي هوى بعد صراع مع الزمن ،كم أنست به بعد سنوات من اللامبالاة كم !
    أعتقدت حينها إنه المسؤول المباشر عن موت والديها لعدم رضاه عن الزواج الذي أنتج عنها، لكنه رق لمأساتها وغمرها بالحنان والحب ،كانت تراه أحيانا يبكي بصمت أبنته التي تشبهها كثيرا ،وقد رسخت صورته تلك في ذهنها لصلة روحية عتيقة ، تحضر كلما أيقظ طيفه ذاكرتها المترعة به..
    وكان قد تكفل بها وعلمها وساند قراراتها كلها ،بمحبة كبيرة قلما وهبها لأحد .
    وبدأت بالعزف على الكمان في مناسبات عدة كهاوية عشقت أوتار كمانها لا لكسب الأموال والشهرة..
    - كيف مات بهذه السهولة ؟
    - كيف استطاع ذلك ؟
    كلمات رددتها بحزن موحش كصحراء محرقة ورمالها المتحركة تتقاذف جسمها بينها ..
    -أستمضي حياتي هكذا ؟ سألت بحيرة مرآتها الفضية القديمة
    سمعت طرقات خفيفة على باب غرفتها الصغيرة
    - أدخل !
    أجابت بهدوء لا يتلاءم مع العواصف التي تتشكل بداخلها
    دخل الشاب الذي طالما حاورته عيناها بصمت وكان شبح الابتسامات رسول أعجابهما المتبادل
    كانت تشعر كأنها تعرفه منذ طفولتها الأولى ..
    جلسا يتحدثان ساعة أخبرته بكامل قصتها وحزنها الكبير ، تأمل وجهها الشاحب وكانت خيوط من التعب تبدو على وجهها ..
    أخبرته أن في الغد سيوارى جدها الثرى بعد عشرة أيام من دخوله ثلاجة الموتى المحتجز فيها تحدثت إليه كمن أزاح عن صدره صخرة كبيرة جاثمـــــة ..لم تبكي رغم مرارة ما كانت تشعر به من قبل ، فجأة دخل شخص ما وأخبرها بضرورة الاستعداد للأمسية نهضت بانفعال عجيب معلنة عن استعدادها الكامل سارت إلى جانبه بصمت مرهف ..لمس وجهها فابتسمت له ..
    توقف عن السير وهمس لها بصوت يرجوها ..
    - سنخرج معا .. أتمنى أن نتحدث أكثر
    - أنتِ كنزي الجديد
    غمرت روحها نشوة ..لم تجب بل أكملت سيرهـــــــــا وغابت .
    بدأت عزفها بأنغام والهة تحلم مثل غيمة بيضاء بالمطر ..وراحت تعزف صعودا .. نزولا ،هدوءا .. وصخبا ،كانت كمن تحدثه بكل دواخلها ومكنونات روحها بفرحها وحزنها معا ..
    بكل الألم الذي يعتصر قلبها الصغير ..
    وكان يفهم لغتها وحده .. يتراكم في روحه حب لا يسبر غوره إلا هي
    فجـــــــــأة .....
    توقفت عن العزف تماوجت في الهواء كعصفورة فقدت إتزانها وغابت عن وعيها تمايلت وأفلتت كمانها في الهواء،ولتسقط أرضا وسط ذهول الحاضرين ..
    غطى شعرها نصف وجهها المتعب ،حملها بخوف لم يشعر به من قبل .
    قالوا له بعد طول إنتظار ..أنها فارقت الحياة بأزمة قلبية حادة ، فقلبها الضعيف لم يحتمل حزن الفقدان وحبها الجديد معا .
    جثى أرضا يندب حب أجهض لتوه ..يبكي شبابها وجمالها الملائكي وقسوة الاختيار ..
    كانت السماء تمطر بشدة ،وقف ينظر إلى خيوط كفنها البيضاء ولرمل القبر الداكن الذي ستدفن فيه عما قريب ،أعتصر بيده زنبقة بيضاء لطالما حلم إن يهديها لها ،لم يصدق ما عاشه من أحداث متسارعة ..
    كأنه حلم جثم على صدره يحاول افتراس ذاكرته المشوشة بظلالها.
    كانت دموعه تعلن له عن فراق عازفة الكمان الأبدي وإن ألما أخر زاد في هذا الكون ،بينما جدها كان يرقد في ثلاجة الموتى بانتظار عودتها منذ أحد عشر يوما.

  2. #2
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    لا تحسبنّ رقصي بينكم طربا .. فالطير يرقص مذبوحا من شدة الألم
    رائع جدا كان السرد والحكي واستهلال موفق وتصاعد تسلل ليفاجئنا بخاتمة أشد إيلاما مما انتظرناه
    هكذا الدنيا تأخذ منا أكثر مما تعطينا
    لم تبكِ
    كنت هنا وتركت إعجابي بقلم رائع جدير بالقراءة
    تصفيقي الحار
    والتحايا
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية وليد عارف الرشيد شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2011
    الدولة : سورية
    العمر : 60
    المشاركات : 6,280
    المواضيع : 88
    الردود : 6280
    المعدل اليومي : 1.39

    افتراضي

    رائعة ... لله أنت ما أجمل الحكاية ولغتها الساحرة وسلطانها على المشاعر
    أشارك الأخت المبدعة آمال التصفيق لقصيدةٍ عذبةٍ برداء قصة
    مرحبًا بك مبدعةً راقية أختي الفاضلة في واحتك واحة العطاء والبهاء
    مودتي وتقديري كما يليق بهذا السمو

  4. #4
    الصورة الرمزية زبيدة خضير الزبيدي أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : كنت أسكن بغداد
    العمر : 47
    المشاركات : 195
    المواضيع : 25
    الردود : 195
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي


    سيدتي الرائعة ..
    آمال المصري
    أعجابك بالقصة شرف كبير لي ، يشعرني بالفخر ففي هذه الواحة قطوف دانية ..وظل ظليل
    ولا أراكِ إلا واحدة من هذه الأشجار المثمرة
    تقديري الكبير لمرورك العابق

  5. #5
    الصورة الرمزية زبيدة خضير الزبيدي أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : كنت أسكن بغداد
    العمر : 47
    المشاركات : 195
    المواضيع : 25
    الردود : 195
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي




    المبدع ..
    وليد عارف الرشيد ..
    مرورك على صفحاتي زادني فرحا وزهوا
    فلمثلك يا سيدي الكريم ..
    تفرح النفوس ووتعبق الأقلام ..
    ممتنة لك كثيرا هذا المرور الرائع
    تحيتي الكبيرة وتقديري الأكبر

  6. #6

  7. #7
    الصورة الرمزية زبيدة خضير الزبيدي أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2005
    الدولة : كنت أسكن بغداد
    العمر : 47
    المشاركات : 195
    المواضيع : 25
    الردود : 195
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي


    الأديب المبدع .. حميد العمراوي
    شاكرة كثيرا مرورك وتعليقك الرائع

  8. #8
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي


    نص قصي موفق السرد أجادت كاتبتنا فيه سبك الفكرة لتتصاعد وتيرة الحس رفقة الحدث متمكنة من القاريء تحمله نحو قفلة موجعة

    القاصة الرائعة زبيدة خضير الزبيدي
    سعدت بمروري في باحة نصك الجميل

    الهلا بك في واحتك

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  9. #9
    الصورة الرمزية عبد المجيد برزاني أديب
    تاريخ التسجيل : Dec 2010
    الدولة : فاس المغرب
    المشاركات : 607
    المواضيع : 63
    الردود : 607
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي

    قص لا يمكن أن يكون إلا لقلم يعشق الهزيع الأخير من السرد ويسهر له.
    الأديبة زبيدة : بورك قلم أنت حاملته.
    كل المودة.

  10. #10
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,124
    المواضيع : 317
    الردود : 21124
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    جميلة هذة القصة بكل معنى الكلمة .. بلغة راقية
    وعبارات رائعة جعلتنا نعيش مع تلك الزنبقة
    مأساتها ونسمع ألحانها الحزينة الساحرة
    ونتألم لنهايتها المفجعة ..
    تقبلى أعجابى وتقديرى .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. لون الكمان
    بواسطة نجلاء الرسول في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 17-12-2023, 04:44 PM
  2. ما لم يقله مَلِكُ الكمانْ !
    بواسطة خميس لطفي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 29-04-2007, 03:47 AM
  3. أملٌ على وتر (الكَمانِ) ...
    بواسطة سيد أحمد قرشاوي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 01-03-2007, 01:23 PM
  4. مَلِكُ الكمان ..!
    بواسطة خميس لطفي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 27
    آخر مشاركة: 26-11-2006, 11:35 PM