الفكرة واحدة العقل . كانت وما تزال الهدف الجوهري للصياغة اللغوية، أياً كان المجال الذي تتم فيه تلك الصياغة ، وسواء أكان التركيب اللغوي شعرياً أو نثرياً أدبياً أو علمياً أو فكرياً، ومهما كان حجم الخيال في كيان الفكرة، فإن الفكرة تبقى فكرة، وتبقى صياغتها اللغوية السبيل الوحيد أمام العقل كي يقوم بإدراكها ووعيها. ولأن الفكرة التي هي واحدة العقل، تتكون من المعاني الجزئية المتكاملة لمفردات لغوية محددة ،فإننا نحكم بأن المعنى الجزئي الذي تتحمله المفردة اللغوية الواحدة، لم يوجد إلا ليساهم في بلورة الفكرة وإجلاء معناها.حتى ولو كان المراد من معناها أن يمثل مفهوما متأرجحاً غير محدد. فالصياغة اللغوية التي تربط بين المفردات هي المسؤولة عن تكوين ذلك المفهوم المتأرجح .
وعندما تتكوّن الفكرة فقط تكون المادة الأولية قد أصبحت جاهزة للعمل عليها، وحينذاك سيبدأ النشاط العقلي المميز القابل للملاحظة والقياس، والذي قد يتمثل بإنماء الفكرة الصغيرة، لتحويلها إلى تشكيل فكري معنوي، ينمو ويتشعب مع استمرار ارتباط أجزائه وأطرافه الحرة بما قد يتصل بها من المعاني الجزئية ذات الصلة، وفق قانون التناسب في جذب الخصائص.
وإنّ هذه القابلية للربط المعنوي شرط أساسي يحدده العقل، كي يسمح بانضمام الفكرة إلى ذلك التشكيل المعنوي الراسخ المستقر في العقل، بكونه خاضع لمنطق السبب والنتيجة ، والذي قد يمثل نوعاً من المفاهيم الاستنباطية أو الاستنتاجية أو الاستقرائية، التي يعمل العقل على تشكيلها وإنمائها وبلورتها .
والآن، نحن نرصد عمل العقل في إشرافه على تشكيل اللغة الفنية الشعرية، والتي يمثل اختيارها أثناء الكتابة جوهر العملية الإبداعية.ضمن ما يعرف بالمجاز اللغوي .وهو أحد الأقسام الثلاثة التي يقوم عليها علم البيان، مع التشبيه والكناية .
فاللغة الشعرية تختلف بمضمونها المعنوي عن اللغة الفكرية أو اللغة العلمية بسبب الانزياح عن الدلالة الحرفية الدقيقة، إلى الدلالة المجازية التي يضيفها الخيال الشعري، دون أن تضيفها المعاجم .
وإن الشاعر يقدم اقتراحات جديدة للدلالة ، عندما يقدم مفرداته وهي متلبسة بصبغتها الانزياحية، لذا فإنه يقف على حافة منزلق خطير، قد يودي به نحو الهاوية، عندما تفشل اقتراحاته أومفرداته الجديدة في إقناعنا بحقها في التجسد على الصورة التي يقدمها بها الشاعر. الشاعر يقترح ونحن نوافق أو لا نوافق .ومسألة الموافقة ليست مزاجية، بل هي مسألة تعتمد على قوة الإقناع التي تقدمها المفردة في موقعها من العبارة التي تجسد الفكرة . ويبقى قانون التناسب في جذب الخصائص مهيمنا، لرسم ملامح السبب الذي يقود إلى نتيجة ذات ملامح تكافئه. إنه العقل والمنطق وليس شيئاً آخر ذاك الذي يربط بين معنيين جزئيين لمفردتين مرتبطتين بعلاقة نحوية ما. ومن ثم فإن التكامل المعنوي مهما بدا منفتحاً ومتسعاً في مدى المجاز، واحتماليات العلاقة المعنوية، يجب أن يثبت إحدى المفردتين بمعناها المعجمي كي يتيح ارتباطها بعلاقة مفهومة مع المعنى المجازي لمفردة أخرى .ومن هنا يأتي شرط انزياح مفردة واحدة فقط من المفردتين المرتبطتين نحوياً في التركيب المجازي . وهذا يعني تثبيت إحدى المفردتين بمعناها المعجمي عند انزياح الأخرى عن دلالتها المعجمية ، وذلك كي يجد العقل ما يحاكمه بمنطق التلاؤم وقانون السبب والنتيجة ، ولولا هذه المحاكمة لما أمكن تذوق أي صورة فنية جمالية لا لغوية ولا بصرية . ذلك لأن العقل يتذوق الجمال عبر القياس إلى التجربة الحسية المعنوية المختزنة في الذاكرة ، وعندما تتغير الصفات يُقبِل العقل على التذوق منطلقاً من المفارقة بين الخبرة القديمة والخبرة الماثلة أمامه لحظة التذوق الآنية ، وكلما كانت المفارقة بين الخبرتين أوضح وأميز أمكن الوصول إلى حالة الدهشة والمفاجأة بشكل أنقى وأصفى ، وتلك هي رغبة العقل وحاجته عند معاينة الجمال الفني أو الطبيعي . ولولا هذه اللذة العقلية والنفسية المتأتية عن الانغمار بانفعال الدهشة لما وجد العقل حافزاً لاستطلاع مواضع الجمال واستنطاقها .
والعقل يتقبل انزياح إحدى المفردتين عن دلالتها عندما ينطلق من ثبات المفردة الثانية ورسوخ دلالتها، فهكذا يمكنه القياس والمقارنة والحكم والاندهاش . وإلا فإنه من غير الممكن للوعي العقلي أن يفهم علاقة بين مفردتين كلاهما منزاحتا الدلالة في الوقت نفسه . فهذا يبدو ضرباً من التخبط المعنوي الذي يشبه العبث أو الهذيان أو الهلوسة . لأن العقل لن يتمكن من قياس الخصائص الانزياحية الجديدة إلى الخصائص الأصلية ، وإذا كان العقل غير قادر على القياس فكيف يكون قادراً على استيعاب المستحدث في المعاني الجزئية ؟ وكيف يستوعب منطقة الطرافة والجدة في الفكرة التي تقدمها الصياغة اللغوية ؟
وبعبارات دقيقة : ينبغي تثبيت المعنى المعجمي للموصوف عند انزياح الدلالة المعنوية لمفردة الصفة ،وينبغي تثبيت المعنى المعجمي للمضاف إليه عند انزياح دلالة مفردة المضاف ، وإذا انزاحت مفردة الخبر عن دلالتها فينبغي تثبيت الدلالة المعجمية للمبتدأ . وفي كل تلك الانزياحات ينبغي أن تراعى مسألة التناسب في جذب الخصائص ، إذ ليس من المنطق أن أقول مثلاً : " قمح القلوب " فإنني ألاحظ أن الرابط المعنوي بين المفردتين غير متوفر ، وعدم توفر الرابط المعنوي ناجم عن عدم التناسب في جذب الخصائص ، إذ تبدو مفردة " القمح " متشبثة بمعناها المعجمي الثابت، و هو أصلب من أن يتكيف مع مفردة قوية أخرى في معناها المعجمي أيضا " القلوب " ، فهما مفردتان متساويتان تقريبا ًمن حيث القوة ، ولن تنزاح إحداهما بعلاقة الإضافة بينهما لعدم وجود خاصية التناسب أو التلاؤم المعنوي ...إذ لا يلوح في الخاطر عامل معنوي مشترك قد يربطهما معا....يتبع