نزيف القناديل (رواية)
يسرني أن أضع بين يدي أعضاء الواحة وزوارها الكرام أولى تمرات إبداعي الروائي (نزيف القناديل) المنشورة في كتاب ورقي عن إحدى دور النشر بالمملكة المغربية.. يتناول المتن الروائي مرحلة عصيبة من تاريخ المغرب على عهد الحماية الفرنسية، وسوف أحرص بإذن الله على نشرها متجزئة في شكل ردود، وأمل أن تروقكم وتنال رضاكم..
محمد غالمي
الرواية:
دب العياء في جسم الفتى وألح عليه النوم الذي ظل يداعب أجفانه منذ وطأت قدماه درج الحافلة. استوى على المقعد الخلفي جهة اليمين مما يلي النافذة، ودس رأسه بين ذراعيه المتشابكتين معتمدا على ظهر المقعد أمامه. بدا وكأنه في سبات عميق من دون أن يأبه لأزيز المحرك المتواصل ولا لهذه الحرارة المفرطة التي تكاد تخنق الأنفاس، أنفاس كتل من البشر أضناهم طول الرحلة فأخذ منهم التعب كل مأخذ، وغسل صبيب العرق وجوههم وأعناقهم. ساد المكان صمت رهيب كصمت المقابر كسره صوت محتد ندَ عن رضيع في حضن امرأة، ما فتئت رغم سطوة الحر تهدهده في رفق وتلقمه حلمة ثديها محاولة تهدئته وإجبار خاطره. لم يجد ذلك فتيلا، توالى صياح الرضيع دون انقطاع حتى ضج منه شيخ قابع في مقعد خلف المرأة يسار الحافلة. بدا الانزعاج مرسوما على جبهته المربدة، انتفض من مكانه مستشيطا غضبا معتمدا على كتف شاب يجاوره فسدد إلى ظهر المرأة لكزة مدوية ثم طفق يلوح بيمناه في عصبية لاغطا بلهجة مغربية ملتوية: "أطبقي بكفك على فمه أو القي به من النافذة فتريحينا من صخبه المزعج!" كذلك قصف المرأة بنيران لسانه البغيض واستوي على مقعده وفرائصه ترتجف من هرم لائكا بصوت مبحوح: "الويل لهذا المغرب السائب.. سبع وثلاثون سنة من عمر هذه الحضارة التي ما فتئت تطرق أبوابهم بلا جدوى.. وحوش قذرون.." طن هذا القذف في أذن الفتى طنينا كاد يمزق طبلتها ويخترق جدارها. كان في ذروة أحلامه محلقا في أجواء تلك الربوع التي ودعها بجسمه دون روحه، وكيف لا وقد نسج على بساطها أحلى لياليه، وفضاؤها الذي يعبق بأريج الذكريات لا يزال يداعب خواطره ويستفز جوارحه. فمن معين تلك الربوع نهل ومن زلال منابعها ابتلت عروقه، ولم تكن المتاعب التي تقاذفته رياحها الهوجاء لتثنيه عن عزمه أو تفل من شعاع ضميره، بل ظل صامدا قوي الشكيمة جلدا صلب العزيمة. ما يزال يجتر ذكرياته بتلذذ لولا زعيق هذا الخنزير الأجلف الذي آذى منه السمع على حين غرة لينكأ بتوجهه العنصري البغيض جراحا لم تندمل. لقد فطن لمصدر الصوت وصاحبه وأدرك بما جبل عليه من سرعة بديهة وسلامة حس ما يرمي إليه ذلك الشيخ الناقم الذي حقن المرأة بسم لسانه. رفع الفتى رأسه من بين ذراعيه وأداره يسرة صوب الرجل فرمقه بنظرات وشت بما يعتمل في صدره من حيرة وغضب. طرق خاطره فصل من حديث الذكريات مع ميسيو ريز أستاذ الرياضيات بثانوية المولى إدريس حيث درس الفتى . وعلى الرغم من سلاطة لسان المدرس لم يكن الفتى الوسيم يتوانى في استفزازه بشجاعة استفزازا جر عليه جملة من متاعب.. راح يجتر جانبا من هذه الخواطر بقلب حسير ونفس جريحة وعيناه الطافحتان بشرارة الغضب لم تبرحا الشيخ الغاضب ولا لسانه كف عن تأنيبه في صمت: "أنت وميسيو ريز من فصيلة واحدة.. كلاكما فرع من شجرة خبيثة، ولئن شق اجتثاثها من تحت الأرض فمناشيرنا جاهزة في درب صفيفح بفاس وحومة سيدي بوكيل بقصبة تادلة لفصلها من الساق" ثم التفت صوب أم الرضيع: لا عليك أيتها المسكينة، فلن تغفر وداعتك وضعفك لهذا الوحش جبروته وركوب رأسه" ثم ابتلع ريقه ومدد رأسه إلى خلف متنهدا في أسف عميق. كان الشاب الجالس يمين الشيخ يتابع حركات الفتى ويتفرس في عينيه الشاخصتين بكثير من الاهتمام وكأنه يستطلع ما تنطق به حالهما من انفعال يتأجج في النفس كاللظى. لقد ظل يساير أطوار الحادث الذي استهدف المرأة ولم يحرك ساكنا ولا أبدى امتعاضا حين رأى الحمامة تذل وتهان بغير جريرة. كان جل همه أن يجيل بصره بين المرأة المنكل بها وبين الفتى يتجرع زعاف ما عاين وسمع، وأكثر ما هاله من أمره ذلك التنهد الصاعد من الأعماق كحمم بركان، وسرعان ما افتر فوه عن ابتسامة تحمل أكثر من معنى حين رآه يستسلم لغفوة ألمت به. وبعد هنيهة انفرجت عينا الفتى على إيقاع يد تربت على كتفه فارتسم على وجهه بعض الانفعال وهو يحملق في الرجل المنتصب أمامه كالسارية، وكانت الحافلة قد توقفت عند مشارف مدينة خنيفرة لطارئ. قال الرجل وقد اعتمد بيمناه على ركيزة من حديد:
ـ معذرة سيدي إذا كنت قد عكرت عليك الصفو بالإجهاز على أحلامك وإيقاف لذيذ نومك..
يتبع..