جارنا أبو صابر
24 / 4 / 2018 م
لي جار سكن بجوارنا منذ سنة تقريبًا .. ما إن شاهدته أول مرة حتى أحببته ، وصرنا في مدةٍ وجيزة أصدقاء كما لو كنا نعرف بعضنا من عشرات السنين .. هو رجل نحيف البنية قليلاً ، تجاوز الستين من عمره ، هادئًا وقورًا ، وقد كان على درجة علمية جيدة .. نلتقي أنا وهو كل يوم تقريبًا ، نتسامر ، ونتجاذب أطراف الحديث ، إلى أن وصل الحال أن يبثني همومه وآلامه ، ويستشيرني في أدق تفاصيل حياته ، وأنا كنت كذلك بالنسبة له .. إن أهم ما كان يميز صداقتنا التقارب والتناغم الفكري بيننا ، لدرجة أن أحدنا إذا تكلم بالكلمة أدرك الآخر ما يرمي إليه ، وإذا نظر أحدنا في وجه الآخر عرف ما يفكر فيه .. إن هذا هو سر الصداقة الناجحة ، والذي إذا غاب سرعان ما تنهار الصداقة .
جاءني ذات يوم بوجهٍ غير الوجه الذي ألِفْتُه .. ينفخ زفرات من فمه .. وجهه ممتقع كما لو قابله أسد مفترس .. يتمتم بكلمات غير مفهومة . بصراحة ، لقد خفتُ أن يكون قد أصابه مسٌّ من الجنون .. هدأتُ من روعه، أجلسته عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالات ، ولم أسأله عما به ، وتركته يفرغ كل الشحنة التي يحملها من الغضب . بدأ يهدأ قليلاً ، فانتهزتها فرصةً لأسأله عما حدث حتى يصل به الأمر إلى ما وصل إليه . قال بلهجة يملؤها الأسى والغضب معُا : زوجتي .
- زوجتك ؟!! مستحيل ، فأنا خلال هذه السنة التي عايشتُها معك لم أرَ منها إلا كل خير ، وأرى أنكما سمنٌ على عسل – كما يقولون - ، بل إن أهل الحارة يحسدونكما على العلاقات الطيبة بينكما في مثل هذه السن التي يكثر فيها الخلافات بين الأزواج كبار السن .
- إنك لا تدري ما حقيقة الأمر ، وليس كل هدوء يعني الوفاق والاتفاق ، وليس كل توافق ظاهر يعني التوافق الباطن والحقيقي .
- اتق الله يا صاحِ .. ألم نرَكما تجلسان كل عصريةٍ في جو رومنسي يعجز عنه كبار المحبين ؟ ألم نسمعكما في آخر كل ليلة تقرآن القرآن ، وتقيمان الليل ؟ ألم نشاهدكما تتمشيان معًا في جو رومانسيٍّ جميل ؟ فما المشكلة إذن ؟؟!!
- المشكلة أن السنوات الأربعين التي عشناها معًا لم تكن كفيلة بأن تجعلنا يفهم كل منا الآخر .. أقول الكلمة فتقول لي : أنت تقصد كذا – بالمعنى السيء طبعًا - .. نتحدث في موضعٍ ما أو حادثٍ معين حدث في المجتمع فتسارع بتطبيق الوضع علينا .. أتكلم بالكلمة وأنا أقصد أقصى الشرق فتأخذها بمعنى في أقصى الغرب . انظر يا صديقي كيف أنا وأنت في سنةٍ واحدة أصبح كل منا يفهم الآخر ، فما بالها لا تفهمني .. لقد صرت أحسب حساب كل كلمة قبل أن أنطقها خوفًا من أن تفسرها بمعنىً غير ما قصدت .
- ولكننا في الحارة لا نحس بذلك أبدًا ، بل نضرب بكما المثل في التوافق والانسجام ، لعلك تقول ما تقول في ساعة غضب ؟ اهدأ يرحمك الله .
- أبدًا ، إن هذا ديدننا في كل وقت ، ولكني – كما تعلم – لا أحب الفضائح ، وماذا أستفيد إن عرف الناس بمشكلتي ؟
- وماذا كان دورك في تغيير قناعاتها وطريقة تفكيرها ؟ أنا أعرف أنك مربٍّ فاضل ، والكل يثني عليك وعلى أسلوبك في التربية ، وأسمع أنك أحدثتَ تغييرات جذرية في قناعات كثير من طلابك ، فكيف تعجز عن ذلك في بيتك وهو أولى الناس بالإصلاح ؟
- كأنك تقول لي : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟ واللهِ لقد عملتُ ما يخطر وما لا يخطر لك على بال ، ونجحتُ في تغيير الكثير من جوانب حياتها .. ولكن في طريقة تفكيرها لم يكن التغيير كبيرًا .. وهي وإن كانت تبدو هادئةً رزينة ، فإنها لأتفه الأسباب تعود إلى سيرتها الأولى ، ألم تعلم أن تغيير العقول من أصعب المهمات ؟
- إني ألومك يا صديقي أنك لم تتزوج من فتاة تعرفها وتعرف أطباعها وأسلوب حياة أهلها ، قبل أن تقدم على الزواج ؟
- للأسف الشديد أني كنت أعرفها معرفة جيدة ، فقد كنا جيران منذ الصغر ، ولم يخطر لي على بال يومًا من الأيام أنها ستكون زوجتي مستقبلاً . كان المعروف عنها أنها قوية وعنيدة ، وقد عُرِضت علي َّ الكثير من الفتيات ، ولم أقبل بأيٍّ منهن ، ولا أدري كيف وافقتُ على هذه ، إنه فقط القسمة والنصيب ورغبة أمي التي كانت صديقة أمها .
- ألم تكن تفكر في بداية حياتك بالزواج من أخرى تختارها أنت وفق المواصفات التي تريدها ؟
- اسمع يا صديقي .. أنا أعلم جيدًا أن الله قد أباح لنا الزواج من أربعة ، ولكني لم أفكر – مجرد تفكير – في الزواج من أخرى ، لعدة أسباب : أولاً لأني ضقتُ ذرعًا بمشاكل واحدة ، فكيف سأتحمل مشاكل اثنتين . وثانيًا – وهو الأهم – أن زوجتي في بداية حياتها قد أصابها مرض شديد لا زالت آثاره باقيةً حتى الآن ، ويومها كانت الحالة النفسية لها في الحضيض ، وفوجئتُ بأنها تقول لي : اسمع ، ابحث لك عن زوجة أخرى فأنا لا أنفعك الآن . نظرتُ إليها فلم تهن عليَّ العِشرة ، وأعلم أنها في ذلك الوقت كانت تحتاج لمن يقف بجانبها لا أن يتخلى عنها . قلتُ لها : امددي يدك ، قال : لماذا ؟ قلت : فقط امددي يدك . مدت يدها ، فوضعتُ يدي في يدها وقلت لها : أعاهدكِ أمام الله ألا أتزوج عليكِ ما دمتِ على قيد الحياة ، حتى لو كنتِ لحمًا في قفة – كما يقولون _ وأنا لستُ ممن ينقضون العهود والمواثيق .
- إذن فلماذا تعاملك هذه المعاملة ؟
- الصراحة أنها لا تعاملني هذه المعاملة عن سوء نية ، وأنا أعلم أن قلبها من أطيب ما يمكن ، وأنها كالطفل الصغير ، بكلمة طيبة تسلب منها ما تريد ، كما أنها تحبني غاية الحب ، وأعلم أني لو عملتُها وتزوجت لماتت كمدًا . ولكن طبيعة تفكيرها تتناقض تمامًا وطبيعة تفكيري .
- إذن استحِ من نفسك وتحملها ، وما عملته لأجلها احتسبه عند الله .
- وهذا ما جعل الجيران لا يحسون بما أعانيه ، فعندما يحصل سوء تفاهم بيننا ، لا ألبث أن أصالحها بغض النظر أكان الحق معي أو معها ، فتعود المياه إلى مجاريها .
- إذن استعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأسرع لمصالحة زوجتك ، فما دام قلبها طيبًا فكل أمر يهون .