أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: " ذاكــرة الأرصفــة " قصة قصيرة

  1. #1
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    الدولة : حيث يتكرر الأمس
    المشاركات : 3
    المواضيع : 1
    الردود : 3
    المعدل اليومي : 0.00

    Exclamation " ذاكــرة الأرصفــة " قصة قصيرة

    إهداء :

    إلى طاولات مطار " هيثرو " التي ما تزال تحلم باللقاء بينما أدمنت مقاعدها أبجدية الرحيل .



    "ذاكـــــرة الأرصفة " قصة قصيرة


    كانت تشكيلات الحرج قد وسَّعتْ من انتشار خطوطها الأمامية في قسمات وجهه ، بينما راحت أنوار بسمته الفطرية تخفت رويداً رويداً من طول الانتظار .... عصور الأرض الجيولوجية المختلفة تشق لنفسها أخاديداً في ملامح وجهه المتغضن .. ثمة نباتات شوكية بيضاء دقيقة متناثرة شقت لنفسها طريقاً لتبرز من مسام جلدة وجهه .. خطا التصحر خطوات متعددة في مقدمة رأسه إلى أن قطعت أقدامه بقايا شعر صامدة من آخر أيام عصر مطير راح يوزع أمطاره بلا انتظام فترك آثار كرمه في غابات الحاجبين الكثيفة فوق عينين سوداوين براقتين مشعتين كالنجوم ، منحسرتين فوق عظام وجنتيه البارزتين من تحت لحم وجه خفيف هو ما تبقى من آخر عهد من عهود قحط قديم .


    مساحاتٌ من زمن ، وطاولة ، وفنجان شاي منعنع ، ونظارة طبية ترتكز فوق أرنبة أنفي ، وبسمته التي ازداد خفوتها من قلق الانتظار هي كل ما كان يمنعني من أن أُثبته مباشرة على عدسات عيوني .. ملابسه توحي بأنه من معتادي السفر ، ثمة ( بول أوفر ) بنفجسي فوقه جاكت أسود مفتوح الأزرار على الرغم من برودة الطقس ، وبنطال (جنيز ) أزرق سميك ، وحذاء رياضي بسيط ، وحقيبة أنيقة في يمينه ، بينما تحمل يساره دفتر رسم ما ... بعثرتْ شرودي موجات صوته الحائرة وهو يكرر طلبه بالجلوس في المقعد الوحيد الخالي على طاولتي في كافتيريا المطار بينما لايزال شبح ابتسامة يتراقص على حواف شفتيه ، فكان استمرار صمتى بالنسبة له تأشيرة القبول .


    شعورٌ ما بالتوتر راح يرسل طلائع جيوشه لتنتشر رويداً في مساحات روحي ، ولم أدر لذلك تفسيراً .. لم تكن هي المرة الأولى التي يجلس فيها " أحد ما " في مواجهتي على طاولة واحدة ،ولكن التوتر استطاع بعد قليل أن يستولى على كل جوانب روحي الحائرة .. عاودتني عادتي الأزلية كلما توترت ، وودتُ لو ضربت الطاولة بقبضة يدي حتى أحطم أصابعي التي نجح العرق البارد في اجتياز مساماتها إلى الخارج مندفعاً بقوة نهر حبيس ، وراح جفناي يرمشان بسرعة قصوى ، فبديا كجناحي عصفور طنان لا يهدأن ولا يفتران .. أحسستْ أنني على وشك الجنون ، فخلعتْ نظارتي الصغيرة ، وأغمضتْ عيوني بقوة كاسحة لأوقف اهتزازات أهدابي السريعة .. راعني أن صافحت عيوني ابتسامة عيونه ، وهو يواجهني بنظره مباشرة ، قائلاً بإنجليزية سليمة :
    - ترفقي ، ثمة سهام طائشة
    والعجيب أنه على الرغم من كونها كانت جملته الأولى إلا أنه لم يبد لي وقتها مجاملاً !! .


    بريق عينيه المشعتين يكافح الرتوش اللونية التي راحت تشكل ملامح الكهولة في لوحة الوجه المتغضن الرقيق ، بينما راحت أنامل الطبيعة تسوق ألوان الشباب لتوزعها بانسجام متناسق في صفحة وجهي المستدق الصغير .. الطاولة التي كنا نجلس عليها شاردين ، والهواء الكهل الذي تنفسه قبلي بنحو عشرين سنة ، وشريان العروبة الذي سار فيه قارب تعارفنا كانت جميعاً تفضي بنا – لو تعارفنا – لأن يكون بديلاً لأبي المفقـود ، ولكن دفتر رسمه السميك ، وكماني الغافي تحت الطاولة كطفل صغير ، والزهور الحية رسماً على مفرش الطاولة متحدية بألوانها جبروت الصقيع أرستْ كلهـا قـاربه - بعد أن اختزلت عيوننا آلاف السنوات الضوئية من اختبارات الثقة - على مينـاء صداقتي !!.


    حرارة لغتي العربية الفصيحة أذابتْ كل الثلوج التي أثقلتْ صوته المتحدث بلغة أهل المنافي الباردة حين سألته عم يـود أن يشربه ليذيب ذلك الصقيع الذي راح يبعث برودته وهو يتحدث بلغة بـلاد الظـلال والثلج والضباب ، كنتُ اسأله بلغة عربية وبملامح إنجليزية نـوردية بـاردة .. تـجاوز حدود الدهشة في مرونة ، ولم يسألني عن شيء ، فقط لمحتُ في عيـونه البراقة انعكاساً لصـورة غصن زيتـون ، وخرير مياه نهـر ، ولملمتْ أذني مـوجات صوت شاردة بينما هاتفه المحمول يـواصل رفع نغمته العربية الرقيقة إلى أبعاد الخيال مستمراً بقـوة خرافية وكأنه لم يمـل من الرنين الذي حـرَّكَ الجـو قبـل بضع دقائق مُطرباً سمع الهواء الراكد العجـوز .


    الصقيع يقضم معطفه ، والشارع البارد يمشي تحت أقدامنا ، وهو يحدثني مصراً على أن يكون أبي ، وأنـا لا أبـالي إلا بكـونه صديقي !! .. ابتلعنا الصمت ، وأشاح بوجهه وسعل في قوة ، وقبل أن ينتهي سعاله من تحريك كل الكرات المعدنية الصغيرة لترتطم بجنبات صندوق صدره العجوز كان قد دس في فمه سيجارته !! .. هالات الدخان البيضاء يخرجها بلا وعي منه دائرية تشبه الدوائر التي يرسمونها لتحمل كلام الأبطال في القصص المصورة ، ولكن دوائر دخان سيجارته كانت كلماتها بأبجدية لم يكن لها بين لغات العالم أي تفسير .


    حوائط المحلات في ذلك الشارع البارد الطويل حملت على جدرانها خربشات انتظاري له ، حيث كنتُ أقطع الوقت بخمش وجه الساعات .. وعدني أنه سيمر بي كلما دعته أسفاره للمرور ، أقبل تسبقه طلائع جيش نظراته البراقة ، وصدى سعلة ، ودوائر دخان متقطعة .. كانت المرة الــ ..... لا أذكر عدد المرات التي انتظرته فيها هنا ، قد تكون المرة المائة أو المليون ، سألتُ رصيف الشارع ، فلم يجبني سوى الخواء ، لقد نسيتُ أن ذاكرة الأرصفة كذاكرة البغايا والبحار ..


    زخات المطر الهادئة تتبدل أسهماً من مطر لتنطلق من قوس خفي في السماء تطادر هدفاً مجهولاً لتغوص في صدره عند ارتطامها بكل قوة بأسفلت الطريق ، بينما يفرد السكون أجنحته على رواد المطعم الهادئ الذي نجلس فيه .. كنـا أربعة نجلس وقتها في المطعم ، عجوزان يحاول أحدهما اللحاق بذكرياته قبل أن تخرج إلى ساحة المطر ، وآخر راح يبحث عن حل لمشكلة ما في فنجان الشاي الذي كان يحدق فيه بكل تركيز ، وأنـا أهبط من تلة من تلال روحي لأرتقي أخرى أوعر وأصعب أحاول أن أصل إلى صديقي الكهل الذي راح يرتشف فنجان قهوته الخامس باستمتاع من يرتشف فنجـانه الأول ... كنتُ أجدل التوتر حبـالاً خوفاً من أن يتركني ، فما قدمتُ له سوى الصمت ، وسياحة في المدينة التي يعرفها جيداً ، وتلك الجلسات الباردة إلا من دفء قهوته التي بدا أنها تستمد حرارتها من أتون روحه ، ولكنني تشبثتُ بكونه من هؤلاء الذين لا يتركـون أرواح الآخرين المطعونة تنزف على جانب الطريق .


    إن انفصال والدي لا يعني أبداً أنهما لم يكونا متحابين ، كما أن طلاقهما لا يعني أن أبي كان سيئاً ، ولا أن أمي لم تكن تتفهمه ، ولكن كان من الضروري أن ينفصلا ، لا شك أننا نفهم أن هناك أموراً قدرية لا حيلة لنا في حدوثها ، وكان انفصال والدي أمراً قدرياً لا بد وأن يحدث !! .. كان اليقين يشع من صوتي وعيوني وجوارحي وأنا أخبره بأمر انفصال أبواي، وكيف لا أصدق أنهما كانا ذات يوم متحابين ، بينما صور هذا الكلام تطاردني فأراها على شفتي أمي وهي تنظف الأطباق ، وهي تكوي الملابس ، وهي تقبلني قبل أن أنام ، وفي نظرة عيونها وهي تغلق باب غرفتي بينما يخيم على سريري الظلام ؟؟ وكيف لا أؤمن بها وهي تتمثل في كلمات أبي الحانية لأمي يسأل عن أحوالها كلما جاء لزيارتنا ، وأتلمسها في قبضة يده الدافئة وهو يأخذني من مطلع النهار ليجوب بي المدينة وأذهب معه للسينما وارتاد المطاعم التي أحب ، ثم يوصلني في النهاية لمنزل أمي ويقف على الباب مودعاً ، لأجدني في الختام أنام لا تلفني سوى أحضان الفراغ !! .. لم يكن انفصال والدي يعني أنهما لم يكونا متحابين!! هكذا تقول صورهما التي لا تزال تحتل ذات المكان على الحائط ، وقطع الأثاث التي اشترياها معاً ، وزهـور الحديقة التي طالما اعتنيا بها سويـاً ، لكنك تعلم أن انفصالهما كان قدرياً كـوحدتي وانعـزالي وصمتي وجنـوني .


    أسدلتُ ستار قناع ملامحي على وجهي فعادتْ قسماته ترسم بروداً جديراً بفتاة إنجليزية عريقة عندما كان النادل يضع أمام صديقي الكهـل فنجان قوته السابع .. امتطت نظراتي جواد الشرود المجنح لكن نظرات عينيه المشعتين أمسكت بلجام الجواد فسكن إليه وتوقفت أجنحته عن الخفقان .. سألته عن دفتر رسمه ، فافتر ثغره عن ابتسامة ملونة بقدم الذكريات ، أحب طوال عمره أن يكون رساماً ، لكن لوحته المدهشة التي استطاع أن يرسمها طوال حياته كانت دائرة صغيرة على شكل رأس ، يخرج منها خط طويل ، ومنه تتفرع خطوط أربعة على الجانبين يزعم أنها أطراف جسد بشري ، وعلى الرغم من فشله الذريع في أن يكون رساماً ، إلا أنه ما يزال يحلم أن يرسم شيئاً حقيقياً ذات يـوم !! ... كانت ابتسامتي باهتة ، وعندما حاولت أن أحلق بجواد الشرود المجنح من جديد كان الجواد لا يزال يسكن إليه وقد داعب صدره بمنخره السحري في حنـان .


    زميـلاتي الفتيات يتهامسن عني بشيء ما !! أصعب شيء في عالم الفتيات أن يتهامسن بشيء عنك ، وكان الهمس الذي وصلني عن عمد يقـول أنني عربية .. حروف اسمي تسير بي حثيثاً نحـو بلاد العرب ، وأبي كيـان رهيب غائب يزرعني نبتاً شيطانياً في رمـال الصحراء ، وروحي حلة بدوية تشدني ألوانها المزركشة نحو تراث مزعوم لا أتلمس له في ذاتي أثر .. فقط لغة زرع أبجدياتها أبي في أرض صغري الخصبة .. كانت زميـلاتي يصمنني بالعروبة !! .. تعرف أن العروبة تعتبر وصمة إذا كــانت كل تركتك منهـا جسد عفن غادرته الروح منذ زمن سحيق ، وتركته لك تلفه القذارة وتمرح في جنباته الديدان .


    زهـرات روحي الطفلة كانت تتفتح لأول مرة أمام شمس مفردات أبجديته .. حروفي التي تعلمتها لا تخلق مفردات تستطيع أن تنمو وتتشكل لتصبح ذات خرافة صوتاً مسموعاً .. بتلات زهرة ذاتي لا تعرف سوى طريق الانغلاق على الداخل ليكون الظلام سرمدياً فما عرفتْ يوماً ذلك النور المشع في الخارج ، فتقوقعتْ على ظلام الذات فلا هي أشعلتْ شمعة ، ولا عرفتْ مفرداتها كيف يمكنها أن تلعن الظـلام .. كـان صديقي الكهـل يجذب سفينة روحي الفضائية نحو ذلك البريق الذي ينبعث من مجرات عينيه المشعتين ، لـــذا لم اسأل نفسي كيف ومتى ولمـاذا تحدثت إليه ؟؟ ..يكفيني أنه علمني قراءة أبجدية كلماته التي كنت أراهـا مرسومة في دخان سيجارته الدائري التشكيل .


    يضجرني دائماً ذلك السخف الذي نراه في الأفـلام ، تلك الأذرع الطفلة الصغيرة المنشبة مخالبها في ثوب الأب تود أن توقف الساعات حتى لا يتركهم مسافراً لأجل توفير العيش الكريم .. اتثاءب ويهاجمني النعاس كلما خانتهم دموعهم التي تنافس سيل دموعه المنهمرة ، سيلتحفون الفقر ، ويرفعون الخرق البالية التي يلبسونها على أعمدة الحب والإيثار ، وسيأكلون من خبز حنان عيون أبيهم ، ويشربون من دموعه المتدفقة كالأمطار !!.. بالكـاد استطيع أن أفتح جفـوني وأنا أطالع المشهد الأخير .. الكل عيونهم معلقة بشفتي الأب المرتجفة توشك على إخراج الكلام و ...... أنام ضجـراً قبل النهاية دائماً .. أنـا لا أؤمن بالسخافات يا صديقي .. أبي رجل كثيـر الأسفار ، ولكنه لم يكن يبحث لي عن العيش الكريم ... الأختام والتأشيرات التي لا حصر لها بجواز سفره ، وسواد الإرهاق الذي ألمحه في كـل مرة تحت عيـونه ، وشعره الذي تزداد شعراته شيباً كـل مرة سفر ، كلها تخبرني أنه يسافر لأجلي أنـا .. احتمل أن يكون ممشاة يمسح فيها الزمن قذارات أحذيته لكي يكون أبي ممول ينبوع كرامتي الوحيد ، بـدلاً من أن يأتي اليوم الذي يعايرني جدي لأمي فيه بأن أغرقني بكرمه بينما أبي يقف مكتـوف اليدين عاجزاً على شواطئ كرم جدي وعطـاياه .. كان أبي يدفع للزمن من دمه وأعصابه ما يفتح به بوابة ضوئية نـحو زمن أهم ما يحمله لي أن به مستقبل كرامتي .


    كـانا والدي متحابين على الرغم من طلاقهما ، فـلا داعي لأن اشرح لك أن انفصالهما لم يستطع أن يمحي من قلبيهما كل هذا الحب ، أنت بالطبع تفهم مثل هذه الأمور ، ولذا فتستفهم أن شجارهما في ذلك الوقت ، وغضب أبي الهـادر ، وامتقاع وجه أمي الشديد مجرد طريقة من طرق إعلان الحب على بعضهما البعض !!.. اشتغلتُ بجمع ذرات الغضب المتطايرة من عيون والدي ، كنتُ أراه غاضباً لأول مرة في حياتي ، تدفقتْ عيوني براءة ، وأنا أتابع شجارهما بقامتى القصيرة وقتها، وأتحسس شعري الذي أعملت أمي المقص فيه فصيرته قصيراً لا يكاد يتجاوز مؤخرة عنقي ، بينما حافظت على كثافته من الأمام .. كان أبي على قيد خطوة واحـدة من الجنون ، وأخبر أمي أن هذه آخر مرة تقص فيها شعري !! .. كـان أبي يحب شعري أسوداً طـويلا ، يقول لي أن شعري يذكـره بليل بـلاده الأسود الطويـل .


    أشجار الطريق إلى مدرستي المصطفة على جوانب الذاكرة لا تعترف برمل الصحراء الأصفر السخين ، والأزرق البارد في عيونهم الساكن على شواطيء المخيلة لا يعي تلك الإحاسيس الدافئة التي تملأ ليل بلاد أبي الأسود الطويل ، وسبائك الذهب المتألقة في شعورهم تصلب روحي على شعاع ضوئي بارد يمتد من الأرض إلى عنـان السماء .. صغري قارب تمده ملامح أمي الممتدة في قسماتي بالأمان ، ووحـده وجـود أبي كان الموج الذي يصر على ضرب جوانب قاربي إنذاراً بعاصفة هـوجاء هـو مثيرها الوحيد !!.


    صوت زخات المطر ينقر زجاج النافذة بشكل رتيب ، فيثير في النفس النعاس ، والمطعم ساكن يمله السكون ، والأضواء الخافتة تخلق في النفس خفوتاً ينداح كشعور يتربص بك بلا غاية .. لماذا يصر صديقي الكهل دائماً أن ننزرع نغمتين من صمت في فضاء المكان؟!! .. شدتني أناقته في هذه الليلة ، بذلته الأنيقة تمنحني جناحين ألحق بهما نحو أفق من شجن ، وتشكيلات ربطة عنقه تحولني موجة من حنين تندفع بكل قوة وسط بحر بلا شطآن .. اشتاقت أوتار كماني لمناغة أناملي ، فوضعته ليغفو على كتفي ، ورحتُ أعزف على أرض سحرية بين الرمل الأصفر وأشجار مدرستي المخروطية الخضراء .. أتمدد نغماً سحرياً على طول الأوتار .. ارتفع صعوداً على سلم موسيقى الروح ، وانخفض نزولاً على سيمفونية الشعور .. عندما أفقت كان صديقي الكهل يتنظرني على ناصية شارع موسيقي ، سألني بخفوت عمن يغفو في حضن الآخر أنــا أم كماني الأثيـر ؟ .. تحولت وقتها لسحابة من نغم .


    ركـاب الطائرة يحملون ذكرياتهم الكثيرة معهم ، وأبي لا يحمل شيئاً سواي .. زمنٌ أنا يندفع فيه بذكراته ، يطل على ظلال الماضي من ربوة الحاضر الصعب فيجدها تتراءي كأشباح تتجه إلى بيت مهجور ، ويستشرف المستقبل فلا يكشف له عن شيء سوى دوائر من ضوء باهر تلهب العين وتدفع إلى مقلتيها الدموع .. كان والدي متحابين على الرغم من انفصالهما ، قالت له أمي ذات حب أنها لن تعتني بأمر لغتي وديني طالما هو على قيد الحياة ؛ لأنه واجب الأب ، وأنها تعده أنه كان في إمكانها أن تهتم بتلك الأمور لو أنه لم يكن على قيد الحيـاة !! كـان عاجزاً بسبب أسفاره التي كانت لأجلي أن يهتم بلغتي وديني .. كان أبي يحبني يا صديق لدرجة أنه – لولا إيمانه – لفـضل – لأجل تعلمي ديني – الموت على الحياة .


    كان أبي يحب أمي ولكنه قلبه كان يمتلأ بحب " ميسون " !! .. تعرف أنها ليست بـ " ميسون " ، وإنما أبي كان يدعوها بذلك كلما شفه الحنين لأن يعرضها على شاشة الذاكرة .. بالطبع تفهم كيف كان في إمكان أبي أن يحب أمي ، ويذوب في هوى " ميسون " ، هكذا الرجال تحركهم أقدارهم ، وكان حب أبي لأمي وعشقه لـ " ميسون " أمراً قدرياً لا يمكنه مقاومته أو الفكاك منه .. عندما سألته - ذات جنون- كيف يجمع حبيهما في قلبه ، أخبرني أنه يحب أمي ، لكنه لا يزال يحمل "ذكرى " حب " ( ميسون ) !!


    أنبش بأظافري تراب ذاكرة أبي ، فتطالعني " ميسون " متعرقة الجبهة ، تسقي بعرقها المنهمر أرض الحقول ، وتقابلني على ناصية الطريق فتاة جميلة ترد المتسكعين إلى جانب الطريق ، وأتلصص على نافذة بيتها وآراها ترفض أن تتزوج ابن مأمور الضيعة البعيدة ، وأراقبها وهي تخطو في الجامعة بخمارها الأسود كمنسك طاهر لا تطوله أدران النظرات .


    إصراره يكاد يصبغ صوته بدرجة من درجات الحدة ، فأمعنُ في السكون والرضوخ .. حاولتُ أن أثنيه عن عزمه بأن يوصلني لداري ، أخبرته ألا يخاف عليّ ، لا شيء يخفيني ولا من أحد ينتظرني ، اللهم إلا إذا عدّ هرة صغيرة تداعب أصابعي عندما أنام أحد ما ، لكن عناد الكهل في صديقي لا يقبل المساومة .. ركبتُ سيارته معه وأنا ابتسم ، يقيني أن سيارته تلك ترافقه منذ يوم مولده ، حاول إدارة المحرك مرات ، ووحشه المعدني البارد يبدو أنه راح في سبات عميق ، أدرتُ وجهي للناحية الأخرى أُخفي ابتسامة ، فأخبرني أن لا أقلق فلم تحرجه ( عزيزة ) في يوم من الأيام ، وكأنما كانت قطعة الخردة تلك في حاجة لأن يناديها باسمها ، فهدرتْ فجأة بصوت يشبه الشخير الطويل .. بعد عدد من الساعات لا أذكره وصلنا لمنزلي ، نصحته أن يُحيل ( عزيزة ) للتعاقد ، فضغط آلة التنبيه بقوة وكأنما يعلن عن اعتراضها على ما أقول .. نزل مودعاً إيـاي ، كان عليه أن يستقل القطار لمدينة أخرى لمسافة طويلة .. خطوتُ خطوات للداخل ، ثم بغتة توقفتْ ، وعدتُ إليه ووقفتُ متأملة ، ثم اقتربتُ منه فجأة ، وممدتُ يدي إلى عنقه ، أجفل متراجعاً ، لكنه سكن عندما أمسكت بربطة عنقه الأنيقة ، ورحت أوسع عقدتها حتى تهدلت على صدره ، وصار أشبه بمن خاض معركة حربية منذ قليل ، سألني عن سبب فعلي الجنوني ، فأجبته بأنني أضمن له في رحلته رفقة نسائية !!

    نظر إليّ في عدم تصديق ، فأخبرته بلهجة العالم بالأمور أنه ما من شيء يلفت انتباه امرأة قدر رجل أنيق لا يلقى بالاً لربطة عنقه ، لا ريب أنها ستعتقد أنه يعاني من مشكلة مع امرأة !! .. نصحته بلهجة آمرة ألا يعدل من وضع الربطة حتى يصل لمدينته البعيدة تلك وصعدتُ في بساطة !!.. في الطريق حاول أكثر من مرة أن يعيد الربطة لوضعها الأول ، لكنه كان يرد مبتسماً يده إلى جانبه من جديد .. في القطار ركب والتعب يكاد يهده ، لاحظ وجود امرأة جميلة في الثلاثينيات من عمرها في المقعد المقابل له ، كان النعاس يداعب أطرافه عندما لاحظ أنها تلاحظ مظهره باهتمام ، سألته فجأة عن سبب تهدل ربطة عنقه بهذا الشكل ، وأكملتْ بلا انتظار لإجابته لا شك أنها امرأة يحبها وقد هجرته .. كتم ابتسامته في صعوبة ، بينما أتألقُ في حنايا ذاكرته .. عدّل من وضع ربطة عنقه ، واعتذر للسيدة في تهذيب ، وأغمض عينيه بينما شبح ابتسامة يغزو ملامحه في سعادة .

  2. #2
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    الدولة : حيث يتكرر الأمس
    المشاركات : 3
    المواضيع : 1
    الردود : 3
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي ذاكرة الأرصفة " قصة قصيرة "

    "ميسون " تنحفر نقشاً في حنايا الذاكرة ، وتتألق ضوءاً في دواخل الوجدان .. لا زلتُ أذكر كيف أن أحد أصدقاء زمنه القـديم أخبره أنه من الشرف له أن " تتفل " عليه " ميسون " !! أصدقـاء الزمن الجميل بركة تبخرت تحت وطأة شمس " ميسون " .. وجدتُ لهم بقايا في صوره الخاصة التي استبدلت عبق الماضي برائحة التبغ المقيت .. خسر أبي كـل أصدقاء العمر بسبب " ميسون " فلقد أحبها الجميع بلا استثناء .. عندما سألها أبي ذات خرافة ما الذي تحبه فيه ؟؟ أجابته بكـل تواضع : حُبّكَ لي !!.


    قيَّد جدي لأمي اسمي في كورال الكنيسة المجاروة !! ... قبضته الباردة حينما تلف قبضتي الصغيرة تعني لي أيـام الآحـاد ، وزجـاج الكنيسة الملون ، وإشعال شموع الصلاة .. كنتُ أحبُّ أيام الآحـاد ؛ لأن رجل الدين كان يسمح لي بحمل الماء المقدس ورشه على العابـرين!! يقـولون لي أن دماء أبي كانت تسري في وجهي بكثافة عندما ولدت ، ولكن كـل يوم يمر عليَّّ يغرس ملامح وجه أمي نبتاً من عظام في وجهي ، فأتحـول لأكون صورة منها ومن أهلها .. تراثها وتراث أهلها ينشر عباءته على مساحات الروح ... أشجار الطريق المخروطية الخضراء تسد الأفق أمام الرمل الأصفر السخين ، وسحابات الضباب تمتد سداً من عوائق أمام نور وحرارة الشمس الملتهبة ، واللغة الباردة المتكلفة تصلبني ممدودة على أوتـار مفرداتها الصـوتية .. كـان أبي رجل كثير الأسفار ، يسافر لأجلي ، لكني كنتُ في الشرق ، وكان هو يسافر إلى الغرب مطمئناً إلى أن الأرض كـروية ، ولكنه نسى - يا صديق -أن يحسب حساب المسافة .


    كان أبي يحب أمي ولكنه كان يذوب هوى في عشق "ميسون" .. يقول لي أبي أنه لم يهب في الدنيـا سواي وسوى" ميسون " !! .. الألسنة في البلـدة لا ترحم ، و " ميسون " تحبـه!! " ميسون " سنديانة عمـلاقة تقف صامدة أمام رياح الكـلام .. الحروف خناجر حـادة تنغرس بكـل قوتهـا في لحم " ميسون " ، ولكن الموت أهـون عليها من أن يرى أحد على شفتيها غير الابتسام .. لم يكن أبي قادراً على أن يتزوج " ميسون " ، و لم تكن " ميسون " قادرة على أن تتزوجه ؛ لأنهما قبل أن يتحابا كانت " ميسون " قد سمحت للأيـام أن تغزل ثوب عرسها على أحـد رجالات الضيعة البعيدة ، وكان الغـزل قـد شارف على الانتهـاء !! .


    قطتي الصغيرة تلعق أطراف أنامل قدمي فأشعر بدغدغة تهز الروح ، فتحتُ عيـوني في كسل ، وأنبأتني ساعة الحائط المواجهة أن موعدي اقترب مع صديقي الكهل .. منزلي فوضى كونية ليس لما مثيل ، أحب كون حياتي فـوضوية ؛ لأنها تشبه حياة صديقي .. تجاهلتُ مرآتي وأدواتُ زينتي امتثالا لأمره .. وافق على أن يكون صديقي رغماً عنه ؛ لأنه يعلم أن سمائي أمطرتْ لي أبـاً ، ولكنها لم تمطر أبداً أبـاً صديقـاً !! .


    صورة من صور أصدقاء أبي تدب فيها الحيـاة بعد طول موات .. أسلاك الهاتف تحمل لأبي صوتاً من أعماق الذاكرة .. مشاعر بلا شطآن تنداح في النفوس فتخلق كـوناً من فـراغ تسبح فيه صداقة عمر بلا اتـزان .. ذات الارتعاشة في صوت الصديق ، ذاك الذي ود لو " تتفل " عليه ذات مرة " ميسون " .. السنوات الطـوال لا يعترف بها القلب ، وعيونه لا ترى الرأس الذي اشتعل شيباً ، والصوت المرتعش يحمل النبأ عن " ميسون " التي فتحت لها بـلاد المنافي ذراعيهـا ، وغطتها بليلها فأسفر صبحها عن أربعة أولاد ، وزوج غادر الحيـاة ذات ضباب ، ومرض خبيث راح يفتتت جسد السنديانة العملاقة بـلا كلل !! .. كان أبي يحب أمي ، ولكنه يذوب في هوى " ميسون " ، وأيقنت أنه لا بد له أن يرى " ميسون " ، وكـذا أقدار الرجـال - يـا صديق - تعبثُ بهم وتلقيهم في هـاوية النسيان .


    رصيد أبي من الابتسام آخذ في النقصـان ، والأيام تكثف شعرات شاربه حتى تجاوز حدود شفته العليا .. أبي لا يقتنع بالأطبـاء ، ولا يحب أن يذهب إليهم ، لكن ألم أسنانه كان خرافياً هذه المرة ، فأُجبر على أن يجلس ذات ألم إلى واحـد منهم .. الذهـول يتجسد في ملامح وجه الطبيب ، وهـو يرى أسنان أبي التي تحولت إلى مغارات مجوفة سوداء ، ولثته التي دمرتها الالتهـابات ، سأله في جـزع كيف يعيش إلى اليوم .. تجلت أروع ملامح السعادة علـى وجـه أبي ، وهو يسأله متلفهاً إن كان سيموت قريبـاً ، فهـز الطبيب رأسه نفيـاً ، وهو لا يصدق هذا الجنـون ، فرانت الكـآبة على نفس أبي من جـديد .. ألقى أبي بالدواء الذي أعطاه له الطبيب وهو خارج في سلة المهمـلات !! أبي كان يتمنى الموت ربما لتبر أمي بما وعدته إيـاه ذات حب !! ..


    أرقـام هاتف " ميسون " منقوش على جدران ذاكرة أبي ، ومدينتها أقرب إليه بالطائرة من بيت زوجها الذي كان يقع في نهاية الضيعة البعيدة ، ومطار مدينتها خلية النحل التي يحط بها كلما أراد أن يسافر من مدينة لأخرى ، ولكن أبي لا يرى " ميسون " ، ولا يجيب على رجـاء صوت صديقه المرتعش بأن يراهـا للمرة الأخيرة !! .. " ميسون " ترفض العـلاج الكيميائي ، وتعيش على المسكنات ، وضباب المنافي يتكاثف في ليالي السنديانة.. لم يعرف أحد لماذا رفضت " ميسون " العلاج الكيميائي ؟؟ .. أرادتْ " ميسون " – يا صديق – أن تموت " جميلـة " !! ..


    الدقائق تتجمع لتصير انتظاراً، وأنا انتظر أن يُقبل صديقي الكهـل تسبقه سعلته، وصدى الكرات المعدنية الصغيرة التي تتخبط في صدره الفسيح.. ذات الطـاولة ، وكماني الصغير ، وفنجان شاي منعنع ، وورود جورية حية رسماً على مفرش الطاولة ، وذات الرداء الذي رآني به أول مرة هي عُـدَّتي للقـاء ، لم يختلف شيء سوى أنه لم تعد هناك مساحات من زمن تمنعني أن أثبته على عدسات عيوني .. الهدوء يسحب ذراته ببطء من خلايا جسدي ، ويحل محلها قلق الانتظـار والترقب .. الصـور تختلط من كثرتها في ذاكرة عيوني، ولا يبدو شبحه أو طيفه في المكـان.. التقطتْ أذني موجات صوت شاردة تسألني أن تجلس في المقعد الوحيد الخـالي على طاولتي.. رفعتُ رأسي في لهفة شديدة ، و... لكنه لم يكن هـو !! .. تركتُ الطاولة له ، ولمملتُ ذرات روحي وخرجت دامعة من المكـان .. انتظرته لأقـول له أنني زرت " ميسون " في مشفى مدينتها ... كانت جميلة غزيرة الشعر !!.. أخبرتها أن أبي لطالما ذاب عشقاً في هوى " ميسون " .. انســـاب الحنان في العيـون المــريضة، فأخبرتها أنـه قد " رحـل "!!


    صـديـقتي تقول لي أنني صرتُ أشبه أمي تماماً ، فينداح الفخر داخلي إحساساً كله زهـو .. تخبـرني – ونحن نشاهد التلفاز - أن ذكائي المتوقد وخبرتي الكبيرة دفعتاها لأن تسألني عما تريد .. التلفاز يعرض صوراً وتقارير إخبارية حول سجن " أبو غريب "... الغابات المخروطية الخضراء ، والضباب الكثيف الذي يملأ الأفق ، وأبجدية لغتي وكلماتها اللامتناهية تغطي مساحات روحي وكيـاني .. نظرتُ للصور المعروضة في ضيق شديد ، وأغلقت التلفاز بمنتهى التأفف ، وعدتُ أكمل لصديقتي في حماسة كيف ترتب ليلة موعـدها " الغرامي " الأول ..


    ****

  3. #3
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.50

    افتراضي

    أختي المبدعة فاي :

    أولا أرحب بك في واحة المبدعين ،وأرجو أن يطيب بك المقام بيننا وأن تجدي كل ما يسعدك ...فأهلا بك مبدعة نعتز بها ..

    قرأت قصتك المذهلة بل الرائعة

    بحق إنها قصة في قمة الابداع وأعجبتني كثيرا

    إعذريني فقلمي يعجز عن وصف روعة القصة ؛فالصمت في حرم الجمال جمال

    بإنتظار جديد دوما

    تقبلي خالص ودي وتقديري وباقة ياسمين نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    الصورة الرمزية الصباح الخالدي قلم متميز
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : InMyHome
    المشاركات : 5,766
    المواضيع : 83
    الردود : 5766
    المعدل اليومي : 0.86

    افتراضي

    الحبك جميل جدا متعوب عليه
    اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

المواضيع المتشابهه

  1. ذاكــرة الأنين ..
    بواسطة احسان مصطفى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 09-12-2010, 03:52 PM
  2. مجرد""""كلمة"""""ترفع فيك أو تحطمك........!
    بواسطة أحمد محمد الفوال في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28-05-2009, 11:27 AM
  3. وانتصر الحب مرة أخرى "قصة قصيرة"
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 23
    آخر مشاركة: 26-05-2006, 02:00 PM
  4. " بيت الدمى" قصة قصيرة
    بواسطة فاطمة المزروعي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 28-10-2005, 08:57 PM
  5. "حماران"قصة قصيرة جدا للمبدعة نجلاء مِحْرِم
    بواسطة عبد الوهاب القطب في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30-12-2004, 05:26 PM