تيه


يضغط ويضغط ..ترعبه فكرة التوقف .
" أسرع يا غبي ..لا تتوقف ..لا تستدر ..لا تُخفض من سرعتك و إلا سيتلقفك الوقت"
كان يردد بصوت مسموع كأنه يكلم شخصا آخر .
الأشجار تعبره في دهشة ، الطريق ينزلق من تحته ،يتخطفه هدير الريح المتسربة من شق الزجاج شبه المغلق .
يداه على المقود ، عيناه صوب الأمام، أذناه خلفه،قدماه مرتبطتان برأسه .
أطياف تمر بجانبه ، يلتقطها ولا يراها..وحده التنصل من الوقت كان يشغل رأسه و قدميه.
ثعبان ذلك الذي يلتف حول جسده ويضغط ، يضغط
يعصره يكاد يفرقع عظامه و يخرج زبده من كل منافذ كتلته المتشنجة.
المزارات و الألوان و الضجيج ..
الأضرحة العتيقة و صوت النشيج والترتيل والصخب الحزين
القبب و الزاويا والستائر الخضراء سيدي فلان وسيدي فلتان و الماء المعتق ببركات الصالحين .
رائحة بخور عنيفة تخرب حواسه، تبعثر طاقته في الهروب من تلك الأمكنة المسكونة بالرهبة .. يتقيؤها على التراب المبارك في غرفة الولي /س

قرب الكتلة المرتفعة على الأرض، المغطاة بأقمشة من حرير تنسدل متراخية بتعب قرونٍ، على أطراف الضريح ..الأخضر الغامق
و الأحمر و ألوان لم يعد يذكر إلا قبحها وبلادتها ..
حارس الأمكنة المبجلة يصرخ : ويحك ..ويحك .الضريح طهر..سامحه يا سيدي /س ..اشفه ببركاتك ."
نساء تزغردن و تتمايلن ، تحمن حول الغرفة ، تتمتمن في تذرع وخشوع ..تبسطن نقودا على حجر أبيض ، و تنتظرن أن يحل الفرج ذات وقت..
الوقت وقت ..
" أسرع ..أسرع ..يا غبي .
لم يعد ينفع ولي ولا ماجن .ضريح ولا حانة ."
المسألة فكرة وقت، من يوقف الوقت حتى لا يلحق به ، من يحمله خارج حدود الوقت ؟
من شهور يرعبه هاجس الزمن .تتابع رقاصي الساعة القاتلين في غرفة نومه.
البندول ..في غرفة الجلوس .
أرقام ساعة رسغه الالكترونية .
صوت الآذان الذي ينخر أذنيه في كل وقت .
ساعات باحات المدن الكبيرة .
أجراس المدارس والمصانع وقت..
صوت الباعة المتجولين وقت..
صراخ ذلك الرضيع اللعين خلف جدار بيته ، وقت.
وشوشة العصافير في حديقته ،ديك الجيران ..حيوانات الأرض التي تتزاوج أمامه وخلفه ، وجوه الناس ، أجسادهم ، حركاتهم ،السماء من فوق رأسه ، الشمس ، القمر ..
كل شيء و ..ق...ت..

الخلق وقت..الوقت خلق.
الوقت موت أيضا .
فكر في التربة التي خلقها الله يوم السبت ..
والجبال يوم الأحد ..
والأشجار الاثنين ..
كل ما حاول الإفلات اعترضته فكرة الوقت .
البعض قالوا أصابه مس و أن جسده تسكنه كائنات تسابق الوقت .لها سرعة الضوء أو أكثر .
تسري بروحه وتعرج .تحمله إلى عوالم النار و الأذى ..
الله خصص يوما كاملا لخلق الأذى كما يظل يردد دائما كلما حل الثلاثاء و تصر أمه أن المارد الذي يسكنه والذي يدعى (بلحمر ) ، تخطف روحه ذات ثلاثاء أغبر ساعة عصر. يملي عليه أشياء غريبة و يجعله يتقن لغة لا يفهمها أحد و يذكر تفاصيل مدن لم يزرها أبدا .و يعلمه شيئا من الغيب.
كل ما تعلمه بعد بحث وتنقيب وتأمل و صار يحدث نفسه به بصوت مسموع يصعب على الآخرين إدراك معناه..شيء من الحكمة أو التيه .

" التسليم بالمصيبة نصف الطريق إلى هضمها "
الطريق يطول يطول و المصيبة تستوي ثابتة الشكل
تكرر ظلالها على جنباته و روحه تعاني الإمساك
منذ ذلك الجمعة "المبجل" .
آدم ..عصر جمعة وآخر الخلق
مصيبته ..عصر جمعة وأول الرحيل إلى عوالم الخطيئة .
أمه لا تعرف ذلك ولا احد يعرف متى او كيف حدث له ما حدث أو حتى ماذا يحدث معه تحديدا.
الكل يصنع تأويلات تناسب إدراكه.
هو ..مازال يسرع ويفكر في خلق آدم الذي أعقب المكروه بيومين
يومان..في عمر الكون لا أحد يعرف كم يعادلان نسبة الى عمره هو .وكم يمددان في عمر الخطيئة .
الوقت يتسلل إلى جسده بعبع يرعب العالم
VIH/maladies opportunistes/
الداء الفضيحة ..
يركض و الوقت زاحف .
يكتم سره و الموت قادم ..
حتما سينفضح.. بغرائزه .
اعلانات كبيرة تذكره أنه مغفل و معتوه أيضا :
ادماج التربية الجنسية في حياة المواطنين وفئة الشباب خاصة .
اتخاذ الحيطة ..ساعة الخطيئة دائما .
المرض العار الذي يستوطن خلاياه رويدا ولا أحد غيره يعلم
كم من الوقت بقي عليه لينكشف جرمه ؟"
يظل يردد ويده على المقود والشريط الأحمر الذي يقابله في كل مكان دالا على ذلك الشيطان ( بلحمر ) الذي يزحف داخله ويحتل مساحات جسده كجيوش التتار وحروب الجماجم والنار.
أرقام ..جماجم بشرية تتساقط من مدونة منظمات الصحة و الشريط الجميل الأحمر يذكره بالنار يذكره بالعار أيضا و بمنديل أمه و أغطية الولي الطاهر .
يده على المقود و الوقت ندم .. الوقت ألم ..الوقت ثعبان تقطر أنيابه في كيانه سائلا أسود ا ينساب بلؤم.

آسيا علي موسى
قصة