محســن الخيــَّاط في صـــور
( ذكرى ووفاء )
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بقلم
محمد عبد الله الهادي
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
صورة أولى ( انبطاح )
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
" عن الجد الذي يختبر مواطن القوَّة في أحفاده بعين ماكرة " .. كتبت هذه الفكرة في قصَّة ، وتركتها مع بعض قصص البدايات الأخرى لدى " بلدياتي " السياسي الراحل لطفي واكـد ، نائب رئيس حزب التجمع ورئيس تحرير صحيفة " الأهالي " آنذاك ، كنت علي أول عتبات النشر ، لا أحد يعرفني ولا أعرف أحداً ، واصطحبني الرجل الذي كان واحداً من الضباط الأحرار ، وكان ناصرياً ويسارياً كبيرا ، والذي كان يبدو مظهره لمن لا يعرفه كباشا عظيم من باشوات العهد الملكي السابق .. اصطحبني ليعرفني بالأستاذة فريدة النقاش كي تشملني بعنايتها في مجلتها الأدبية " أدب ونقد " ، واستقبلتني الناقدة الأدبية الكبيرة المفعمة بالحيوية بالود والترحاب ..
لا أدري كم من الوقت مضى ، لكني رأيت القصة منشورة في المجلة بباب " أقلام جديدة " ، وكانت المقدمة التي احتفت بالقصَّة ، وظللت أقرأها حتى حفظتها عن ظهر قلب ، ومنحتني الثقة كي أواصل الكتابة ، كانت للأديب " محسن الخيَّاط " .

صورة ثانية ( لوحة من الجنوب )
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
" كان الإسرائيليون يجتاحون أرض لبنان ، يدكُّون قرى الجنوب ، ويقتلون الشيوخ والنساء والأطفال ، ويطأون بأحذيتهم الثقيلة تراب الوطن المقدس ، ومن بين الدمار والأشلاء والدماء والكآبة والحزن ، انبثق ضوءٌ فأضاء اللوحة التي يرسمها الفنَّان للواقع المرير .. كان هذا الضوء هو وجه " سناء محيدلي " ، العروس الشابة التي فجَّرت سيَّارتها في قافلة الأعداء وهي تردد : " هذا هو عرسي وزفافي يا أمي " ..
كتبت القصة وأرسلتها لصفحة نادي أدباء الأقاليم بالجمهورية ، ونشرها " محسن الخياط " بمقدمة أخرى لا يكتبها إلاَّ ثائر مسكون بحب الوطن .

صورة ثالثة ( فلاَّح ليس إلاّ )
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
أقلقتني صورة الفلاَّح التي تذوي وتبهت وتتلاشى ، الفلاَّح القراري الذي لا يعرف من دنياه وأخرته سوى أرضه وداره وزوجته وعياله ، يقلق طول الليل من دودة تتسلق نبات قطنه ، وتجرده ثوبه الأخضر ، فيخالها وقد جردته هو من ثوبه وعرته أمام الخلق ..
القصة فازت بالمركز الأول في مسابقة أدبية ، وأرسلتها لمجلة شهرية فأهملها المحرر ، ولمَّا عاتبته كان ردُّه قاسياً ، ولمَّا أرسلتها لمحسن الخيَّاط نشرها في نصف صفحة .

وتكررت هذه الصور بيني ( أنا القابع في إحدى قرى الشرقية البعيدة ) وبينه ( هو القابع في القاهرة ) ، ولم تكن هناك من صلة سوى الخطاب وطابع البريد .

صورة قبل الأخيرة ( مطار القاهرة )
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
كانت صالة مطار القاهرة تغص بالعشرات من الأدباء والإعلاميين في انتظار الطائرة التي تقلهم إلي أسوان لحضور مؤتمر أدباء مصر الخامس ، في المطار رحت أبحث عنه ، لم أكن قد التقيت به من قبل ، رغم أنه كان قد نشر لي العديد من القصص ، بل ورشحني لحضور هذا المؤتمر متجاوزاً ثقافة الشرقية التي لا تعرفني آنذاك ، وعندما وجدته وعرفته بنفسي احتضنني بأبوة دافئة ، وصاحبته طول أيام المؤتمر ، كان هو أحد الروَّاد الذين أسسوا للمؤتمر وجعلوه يعقد بصفة سنوية ، واكتشفت أنني لست إلاّ واحد من عشرات الأدباء الشبان الذين يحتضنهم قلب هذا المبدع الكبير ، كان هذا أول مؤتمر أحضره ، بل وأفضل ما حضرته من مؤتمرات بعد ذلك ، ما زال الوجه الباسم لشاعر أسوان الراحل حجاج الباي يخايلني وهو يحتضننا بمطار أسوان وقت الغروب ، والصديق الراحل القاص إبراهيم فهمي الذي هرب منا عندما عرف إصرارنا علي مصاحبته لقرى النوبة التي جاء منها ، والمذيع اللامع والأديب والممثل الراحل عبد الرحمن علي الذي كان يسجل اللقاءات مع الأدباء ، والقرية السياحية الرائعة التي أقمنا فيها علي ضفاف بحيرة ناصر، والسد العالي والنصب التذكاري ، ومعابد فيلة ، وجزيرة النباتات والنيل وأسواق البلح وأكياس الكركديه والأسماك النيلية ..
كانت هذه أول وآخر مرَّة التقي به فيها بمحسن الخيَّاط .

صورة أخيرة
ـــــــــــــــــــ
عم محمد بائع الصحف الكفيف ، تقوده ابنته الصغيرة ، وهو يجوب شوارع فاقوس منادياً علي بضاعته ..
اشتري الجريدة منه ، وما أن أطل علي صفحتها الأولى حتى يفاجئني الخبر :
( ومات محسن الخياط )
ـــــــــــــــــ