أحدث المشاركات

مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: صدمة الوجود

  1. #1
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 50
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي صدمة الوجود

    بين هذه التلاع المنبوذة في أعماق الروابي، وبين هذه البيوت المتهدلة في درج الوادي،
    ولدت رقية من أبوين قرويين، من قرى سيدي بوزيد الرملية، سافرت بهما الأحلام صوب هشيم الحياة، ووافقتهما الإرادة الطبيعية في رحلة الوجود.
    ومن بعدها هل مطلع ولادة أختها الصغيرة نعيمة التي عاشت في كنف أمها أياما قلائل قبل أن تودعهما إلى المقر الأخير بعد صراع مرير دام طويلا مع المرض الخبيث المسمى- سرطان الثدي-.
    كانت رقية ونعيمة تتشوفان إلى حلم جديد، وتنتظران مستقبلا رغيدا، وتأملان غدا يريحهما من شقاوة العناء، وشقاء البرحاء، لكن الأمل الذي راودهما تبخر سديما، فاستحال كابوسا شقيا يعذبهما في حياتهما.
    لم يستطع أبوهما أن يعارك الوحدة القاتلة التي ألمت به بعد فراق زوجته، ولم يطق أن يقوم وحده بواجبه تجاه بنتيه، لقد خشي من نائرة تعود بالشر على كريمتيه، وخاف أن تضاما تحت ظل جناحيه.
    استشار أصدقاءه أياما، فلم يهتد اختيارهم إلا على خالة بناته التي حدس أنها ستكون أما حنونة تحدب عليهن، وواحة وارفة يمتد ظلها إلى فيئهن، ولشد ما آلمه ذلك وهو يسبح بعقله إلى عشرات من النساء اللائي عرفهن في مسيرة الحياة، وهن يتقاسمن هم العنوسة مع فتيات تعج بهن دروب هذه القرية النائية في أدغال التاريخ والزمان، إنه أحس بجسامة الموقف، ووعورة الاختيار، وخشي أن يستيقظ على هول الفاجعة، وزهرتاه تتأكلهما النكداء، ويفترسهما الشقاء. فهل ستكون عزاءهما الوحيد من فقدان أمهما ؟؟؟ أم ستكون الألم العاصف بهما؟؟
    لم تك سعدية - خالتهما التي رقي إليها فكره- بهذا الحظ الوافر من الجمال، ولم تعرف بين لداتها بأناقتها ووسامتها، ولم تبرح في يوم دائرة فلك غرورها، محدودة في علاقاتها، خافتة في لمعانها، تحيى بطريقة مخالفة لأخواتها.
    فتاة عاشت انطوائية في حضن أسرتها، لا تواصل بوشيجة سواها، ولا تأوي إلى مضمات غيرها، ولا تلتقي بهم في أفراح، ولا تبرز معهم في أتراح.
    هصرت من الحياة أشواطا، وقضت على ثلاث عقود من الزمن، لا تعرف كثيرا من مشاكسات الحياة وألاعيبها،
    ولاتدرك قيم الحركة في دارة الوجود.
    لم يك قرار (الطاهر) سهلا، بل كان موقفا جريئا من أب حرص على تقاليد المجتمع وعاداته، يغار للشرف، وينتفض للكرامة، ويزأر للقيم، ويؤمن بوجوب مراعاة وضعه، فلا الرغبة الجنسية ستكون الدافع له، ولا الإسفاف بمركزية إنسانيته سيهضمه حقه، فلم يرض بانتقالها إلى فراشه، إلا بعدما أحس بغربة تنتاب صدره، وشعر بمسؤولية في حماية عرضه، ورعاية لبنتيه، وصيانة لبيته... فاختار سعادتهما على رغباته، واقتنع بحسم عقله على قرار عاطفته، فعلكها مرارة، ومضغها كرها.
    إنه يعرف سعدية شرسة لا يفارقها عبوس موشوم على جبينها، ولا تبرحها غضبة تعلنها عيناها، ولا تتشتبك الهشاشة إلا نادرا على وجهها.
    مضت أيام، وأهازيج العرس ترن في الآذان، ودموع الفرح تمتزح بحمى الذكريات، ومواويل الحزن تعزف أنشودة الآلام.... وتحتضر العصافير على هذه الأيكة التي برقت عليها نغمات الحزن، وهتفت على أفنانها زغرودة خلعت عذار النفوس فانتشت بحميا الوعد المنشود... والقلب مرتعش بين رياح تعصف من هنا بالشقاء، وآمال تتشظى هناك بين يدي الانهيار.
    طريق طويل تظهر فيه الآفاق مظلمة، يخترقها خيط نور يمتد صفاء من هذه السهول، ورونقا يسرق الأنظار، وجمالا تغرسه الأقدار ذرة في رمال هذا الوادي الذي تلتصق بسهله أرواحنا، وبهائمنا، ومصائرنا، و وجودنا، فبين عرضه وطوله ترعى ماشيتنا، وبين تلابيبه تسقى زروعنا، ومن أخاديده تسيل قطرات النور التي تجود بالحبق الذي نهديه لعرائسنا في ليالي زفافها.

    وتخرج الرعاة بمزيج من وقع الحوافر، وزفير يصدح من وراء الشرايين، وحدو يرسله الصدى لحنا شجيا، وتتحرك هذه المجموعات لترتاد وطيء هذه الوهاد، وتسيح في عمق هذه النجاد، وتنقذف في هذا المنبسط الأخضر، حزام دبجته يد الطبيعة، وأبرزته القدرة، تستسلم الأرواح لخيلائه المتجبر، وتذهل الأرواح لروحه المتحرر، فتراه منظرا بهيا يرسم في ذكرياتها صورا تذكرها بميراث الآباء، وتحرك فيها رغبة تطوف كالطائر حول الأرجاء، لترفع إلى عقولنا تقريرا عن الكون والإنسان.
    وتنطلق نعيمة بصوتها الشجي، وأسمالها البالية، وركوتها الشحيحة، ومنطقتها العجفاء، وبين يديها شويهات تتيه في دلال، ترعاها بين هذه الجبال، وتناجيها بصوت يطبق الأرجاء، ويفتق الفضاء.
    ارتبطت نعيمة بعبادة شياهها، لا تفتر عن تصورها عرائس من عهن تلامسها بيد حنونة، تستبقيها للغد، وتحنو عليها في مناجاة تنسيها ارتباطا بالإنسان.
    أغان حزينة تولول بها في عمق الوادي، تمسح بها ما في داخلها من دموع الفقد والحرمان، ومراسيم يرددها الكون شكاة على عناء الحياة، ووجوم يحكي رجوع الذات الى عالمها الباطني استحضارا للحظة الهاربة بين أمل مفقود في غد مجهول، واستذكارا للاعج الشوق الذي يقهر بغلوه كل الآملين بالحرية، وتترك نعيمة محراب عبوديتها، ومرقص أحلام شويهاتها، لتخلد إلى هذه الصخرة التي جالس فيها الهم مئات من الرعيان الحزنى، وتتأمل بفراستها حكاية الحياة، وتتشظى بين تلابيب فكرها لحظات كثيفة تهيم في جزر الصمت والإستيحاش، وتعود إلى ذاتها المقعرة في خيالها لتحكي قصتها لقربتها، ومصرور منطقتها.
    إنه ماء قراح تقرى ببطن الأرض، تسخو به الطبيعة، ولا تجود به القرب، وخبز مهشم في رشفة شاي، يرافق سبحات اللهاث في طول النهار، وأنفاس غرثى تتصرم في جؤجؤ الزمان، وحكايات تنسج في باحة النهار.
    وحين تندر الشمس بالمغيب، تؤوب البراءة إلى أوكار شقائها، مطأطأة رأسها، خانعة بجسمها، حانية بقلبها، ومراسيل البكاء تتعنعن في شؤونها، وخفقات قلبها تتسلسل في نقر أعواد حزنها، ومظاهر الهلع تظلل جمال ملامحها.
    تقترب رقية من أختها المسكينة، وتمد إليها يدا متهالكة، تستلطفها بنظرات الغريق، فتجذبها إلى حضنها بشهيق، وتضمها إلى صدرها في شوق حزين، وتمتص من شرايينها حرقة تظهر أماراتها على المحيا في أوقات البأساء، وتناديها بكلمات الاستعطاف.
    لا عليك، غدا ستكبرين، وتنسين الماضي.
    حارت جوابا، فلم تنطق بكلمة، ولم تخاطبها برد، أحست بنفسها تدخل إلى جحيم لا تلفى فيه نفسها إلا مشاهدة لمظاهر العناء، تشاهد فيه رقية تحتطب حطبا، وتخبز خبزا، وتوقد تنورا، وتطهو طعاما، وتغسل أوانيا، وتورد بهائما، وتغلق الأبواب في حضور العتمة، و تقم هذا البيت العريض صباحا.
    عمل روتني تعتاده رقية ونعيمة، وحين يطرحان جسميهما، تئن الصغيرة، وتبكي دموعا مدرارة، تتذكر الأيام الخوالي. أيام أن كانت تنام إلى جنب أمها، ويدها معلقة بصدرها، فتشعر بدفء العاطفة، وحنان الأمومة، وهي توشحها بقبل التوديع،
    تصبحي على خير أأمي
    وتقول: صباحك مبروك ابنتي.
    ارتسمت بذاكرتها هذه الصور، وهي تحس بأعواد القش توخزها بشراسة، وتقرضها بخشونة، ولذعات البرد تقرصها من وراء اللحاف البالي، وتلسعها في رطوبة الجو، وبرودة المكان.
    طفلة صغيرة لم تتجاوز إحدى عشر سنة، تعاني من ضرب مبرح، وشغل مقرح، فما أقساها من لحظات يهجر النوم فيها هذا الجسد المتعب، ليعقبه الألم وريثا في رحلة الليل. جسم منهك يستر وشوما نقشت بكعب حذاء تستعمل آلة للتربية والتهذيب!!! وذكريات تترى ببؤسها إلى جرداء تفكير لا يرى الوجود إلا قتاما من الظلام، تفكير كالهوام يأتي بلواعج الهم النكد، وهمهمات الشقاء تطلب جيوش الأرق، وحين تضع تعبها على ملاءة من مشاقة الكتان، تسمع صوتا يناديها بأسامي لم تعرفها إلا في غاب الوحوش، ونسمعها في حدائق الحيوانات، يطالبها بحقير من الأغراض، وتافه من الأشغال، تقابله إحداهما بتأفف يشهد بلظى يحرق الأكباد.... كوب ماء يحمل من المطبخ القريب، أو إزار من الدولاب، أو إغلاق نافذة البيت، وتذرف الصغيرة قطرات كالجمان، فلا تجد رحيما لمصابها إلا غمغمات تسمعها تصبيرا من أختها المتمالكة، لم تك حصتها من الألم قليلة، ولم تك حظوتها من الشر ببعيدة، بل كانت قسوات الخالة عليها مضاعفة، لكنها ألفت الألم فصار شقاء لا يثير هما، واعتادت رؤية الكون متجهما، فما رأت من حنوها على نفسها ألما، وما عاشت قانعة بالضرب إلا لتأنف الصغيرة بإشفاقها المتواتر.
    أدركت رقية أحاسيس خالتها، فحاولت أن لا تثير كامنها، ولا أن تزعج مزاجها المتغير، فتارة تناديها خالتها باسمها وكأنها ملاك وديع، وطورا تراها في صورة حية رقطاء تلسع بنابها المتوحش، فإذا آنست منها خفة روح أسرعت الخطى إلى صديقاتها، وإذا تجهمت أغلقت دونها باب وكرها، وأسندت رأسها إلى جدار تفكيرها، وأقبلت على ترانيم بكائها.
    لم يك خروجها إلى السكك منتظما، ولا ارتباطها بعلاقات كثيرة مهما.... وحين تخرج يبدو على وجهها ارتباك مبهم، ويظهر من كلامها ذعر جائر، وكأنها تخافت الزمان بكلام ترسله رسما إلى صويحبات أمها.... وتخاطبها الحاجة فطومة بكلام عذب شفاف تستظهر فيه شبهها بأمها الحنونة،
    لا تبك بنيتي، تجلدي، المستقبل أمامك، لقد كانت أمك راضية قانعة، ما أسعدها بصبرها وجلدها!!!...عاشت فترة عصيبة في رياض الشيخ (بكسر الشين) علي، وذاقت من ضرتها الآفنة صنوفا من الألم، وحين تطلقت قاست من جدتك للا رقية - التي سميت باسمها - بعد لحوقها ببيت أبيك، لكنها تحملت وشاياتها، وتعودت على ظلمها، وحين توفيت بكت بكاء مريرا، واحتدت عليها شهورا، وأنت يا بنيتي سترتاضين لهذا الشقاء، وستتقبلين غمرته برباطة جأش تستبيح لك راحة تشعرين بها أختك الصغيرة، وتنغمر رقية في لجة البكاء، وتنطبع صورتها في قلب الحاجة فطومة وتقبلها بحنان زائد ينساب كرائحة الياسمين في أعماق الفضاء، وتجدها رقية بين دفات قلبها مسلاة توحي إلى القلوب الشفيقة، وتدل على الأرحام الرحيمة، وتحس لها ببرد تنتشي به في حارات رزءها، وتشعرها بخفة عبء المعاناة عندها.
    وينسل من وراء الجدر صخب يردفه صراخ لنعيمة.
    وتهرول في خفة لتستبرأ الخبر.
    وهي تقول: بغات تقتلها عاود، أو الله يالا بقات فيها، ( أرادت أن تقتلها، والله لن اتركها بدون انتقام)
    حاولت أن تنقذها من ضمة قلب يخفي دنانا مسدودة من الكره، حاولت أن تنتشلها من يد يابسة لا تطيق إلا الخشونة، استعطفتها بكل ما براه الحشا من لطيف الكلام، فلم تفلح في طي أمراس ذات فتلت من الغلظة والجفاء.
    فماذا تطيقه رقية بين رغبات تحشى بها بقع ذات خالتها؟؟ أهل تترك الأمر يسري في دجى الكتمان؟؟ أم تتحدى تهديدات خالتها فتصارح أباها بتفاصيل جزيرة بؤسهما؟؟ أم ترتاح للقمع المستبد حذرا من السقطة في عراك مجنون؟؟
    تجللت عيناها بالدموع، وجالته بجلية الأمور،
    أحس بالحقد يضايقه، وشعر بالكراهية تحاصره، وضاق ذرعا بالبيت الذي يسكنه، وفاض حنقا مما رأى من إيذاء حبيبتيه، وعاد شريدا بعدما رأى إيواءه ينبو عنه، فلحا الزمان الذي قرب إليه شقاءه، ولعن الحظ الذي جمعه ببؤسه، فلم ينظر بمبالاة إلى أعصابها المتوترة، ولم ينظر إلى ما يرسله من صواعق الكلم القاذع، وما يلفظه من لهيب سياط التقريع والتهويل، ولم يخش على جنينها المتكون في أحشائها، ولم يعطف على اختلاط وحمها.
    ألله يابنت الحرام أو تمسيهوم مرا خرا حتى نشوف آش ندير معاك، ( والله إن مسست إحداهن مرة أخرى، لترين ما سأفعله بك)
    إلى مساتكم قولوها ليا، أوغادي تفرجو( إذا مستكم بأذى فأخبروني، وستتفرجن في ردة فعلي تجاهها)
    قبل الصغيرة بين عينيها وهو يقرأ بين عينيها ألف كلمة، وآوى الكبيرة إليه، وضمهما إلى صدره، وهو يحنو على فلذتين من كبده، وكأنهما خلقتا من جديد.
    بكاء ونحيب وزفير.
    انتزح عن فراشه، وهجر منامته، واختار الخيال أنيسا، وانبت في قمقم الليل مستوحشا.
    وينظر من وراء الظلام عقارب الساعة المشعة تتحرك برنينها في قاع عقله، تناديه بالرحيل إلى المنام، ويغيب في سعة الليل وطوله، والأمطار تتهاطل في طلاسيم الكون، والرعد يبرق في سماء الحدوث، ورموز كثيرة يدركها ولا يلفى لها حلا إلا في محاجر طواياها، لم يعجبه أن يرى النوم يهجره في ليل يتوسده معينا على الغد الكادح، فيستنجد بدهاء جفونه لعله ينال منها حصة بئيسة، لكنها تأبت عليه فاستكان للأرق الذي يعده خدرا يقابله عند برك العمل، واستجاب لنغمات مواويله التي تخرق هدوء الليل.
    وينقضي الليل ويستقبل عوارض النهار بنفس مزلزلة، وجناح مهيض، ويحيص بيومه الذي يراه نحسا بغيضا في قرارته، مشؤوما في قراره.
    ترقبت سعدية غيابه لتعلن فرض حالة الطوارئ في هدوءه، وتبدع قرار تغيير مزاجه، فاستحال سكونه إلى جلبة وضرب ورفس وركل، وانتقلت رحباؤه إلى سجن يكبح عن فرصة التفكه بأريحية الحياة، وقن تشقى به نفوس نزعت لطف الحياة، ونبل الجمال.
    صور موحشة تنتزع نحو البقاء في مستنقع الإرادات القميئة، وسرب عريض من الأرواح المهجنة لا ترضى الحياة إلا بؤرا سوداء، وفضاء موحلا بمخادع الرقاعة والجبن والخداع، وآلاف من الزمنى تدمن شم هذه الروائح المنتنة، وعيون عديدة لاهثة تنتظر يوم المعاد، وتأمل القضاء، وترضى بالحكم.
    مسكينة هذه الفتاة رقية، تحمل بين ليها نبرة يسمع لها نغم حزين يجعلها ترنيمة خاصة في الوجود، لكنها تتجاهل واقعها بابتسامة ترتسم على وجهها، وظلام الهم يجلل خيالها، ويقف حيالها جدارا يقيها من الشعور بالسعادة، التفت على نفسها وهي تكابد قصة جديدة، نظرت حولها وهي واقفة على مصطبة الحياة، فلم تر إلا أرضا مخضرة يانعة، تخطها أشجار اللوز بنوارها الأبيض، وأوراق الزيتون في اخضرارها تتحدث عن القوم الذين كانوا هنا زمانا، ألوان ممتزجة على وجه الطبيعة، تسبل على الأرض إزارا من الجمال.
    خافت رقية من غمغمات هذا الوافد الجديد، فراقبته بعين تتلظى، واحتارت فيه تولها واشتياقا، وظنت أنها قد فقدت معه صوابها، رأت فيه مخلصها من خطيئة الأيام، وتخمنت فيه فكاكا من أصر العناء.
    بكت كثيرا حين رأت يدها تشتبك مع يده في عناق حار، وكلمات الدعاء بالرفاء والبنين تتصاعد من المكان، لم تصدق بأن الأمر قد تحقق فصار جزءا كبيرا من القرار الذي لن تتجاوزه، لقد تيقنت حين رأت المأذون الشرعي يضع الأسود على الأبيض، ويقرأ الفاتحة، ونعيمة تهنئها بالقبل الحرى، وكأنها تودعها إلى حين، آوت إلى ركن قصي من أعماق باطنها، فحزنت لحقيبتها التي تغادر مهد تلادها، ومرتع طفولتها، تثاقلت خطاها لتستلم الأرض التي ضمتها أشطرا من حياتها ، وأنى لها أن تبقى، لقد ودعت أباها، وخالتها، وحمارها، وعربتها، وودعت طموحا تهاوى، وأملا تنفش فصار بعبعا.
    وينطلق القطار، ويداها تلوحان من الطاقة، ومرامي صوتها يصل إلى الأذان، وداعا أختي، وداعا أختي، صبرا، صبرا، إن رحبة الوجود كبيرة، فكما فقدنا أمنا، فقدت أختك، فهل سيعرف الزمان أن البؤساء لهم يوم جديد؟؟
    وهل ستزور السعادة قلوبا حرمتها، أم بيوتا تركتها، أم كونا فقدها؟؟؟
    لن يذهب طموح الناس بعيدا، ولو رحلوا في أعماق التنكر للمبدإ فإنهم سيعودون، إنهم محكومون لمعايير خاصة، لا يمكن لهم تجاهلها، إنها تعيش معهم مفردات تتمتع بالحياة، قفص الآدمية، فلك الحياة، فلسفة الوجود، صراع البقاء، جنون العظمة، غموض الذات، ضبابية القصد، أبعاد المعتقد، حيرة المتلقي.........

  2. #2
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الفاضل الاديب ابراهيم الوراق

    صدمة الوجود , قصة من الطراز الحرفي , كتبت بمفردات وعبارات ادبية قوية , واستخدمت فيها صور عالية التاثير , ترسم صورا من البيئة , بنجاح واضح , وجاء السرد ليصيغ تشكيلات وبنى ادبية , رفعت من المستوى الادبي والحرفي للنص , وافادت في بناء النص , والقصة وجّهت الضوء إلى مشكلة اجتماعية , وفلسفات اجتماعية محلية , لتقدم في النهاية رسالة , تستحق العرض والنقاش .
    بوركت ايها الاديب , وبورك نفسك الادبي .

    اخوكم
    السمان

  3. #3
    الصورة الرمزية ابراهيم الوراق قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2006
    العمر : 50
    المشاركات : 158
    المواضيع : 38
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    أهلا بك سيدي ، شكرا لك على التعليق، أتمنى أن تكون بخير.
    سيدي لقد حاولت أن أنفض جراب هذه القصة من واقع نعيشه بين تضاريس هذا الوجود الذي نحيا فيه طوعا أو كرها، وهذه القصة جزء يسير من خبايا هذه الكائنات التي تترنح لبقائها على هذا المسرح ولو لمدة وجيزة، بل تكابد من أجل السيطرة والسلطة التي تعدل بها من قوانين ونواميس الكون، ويا للغرابة حين نرى هذه المظاهر المشوهة من اناس نسمع حسيسهم وهسيسهم بالليل والنهار في محاريب العبادة، وقل أن تجد هذه التشوهات بدون أن تجد من ورائها نفسية معقدة تحاول أن تظهر من وراء أقنعة معينة، وقد يكون الدين ذلك القناع السهل الذي يمكن لأي واحد أن يتستر من ورائه ليلغي إرادة الكون التي أرادت أن تعيش المخلوقات في أجواء من الراحة والهدوء، وهذا الحال يذكرني دائما بمقولة عبد الرحمن منيف وهو يقول: المجتمع العربي يمارس الأشياء في السرية، فهذه السرية هي التي تخفي كثيرا من أمراضنا الإجتماعية ، وتوفوقات الذات علينا، ولا أدل على هذا من جرائم أراها ترتكب بين عيني جهارا تكون المرأة المستهدف الأول فيها، أو تكون طبيعة الكون الفطرية هي المستهدفة فيها، فعلى ما يدل خلق سعدية في القصة، لا أراها إلا أنموذجا لهؤلاء الذين يضربون نساءهم ويزاحمون في الصف الأول ، ولهؤلاء الذين يخونون زوجاتهم ، ولهؤلاء الذين ينتهبون المال العام ليؤسسوا به مخابئ سرية في أوكار الليل ، إنها مظاهر مقززة منفرة تتركني أتعجب لهذا الإنسان الأوربي كيف استحال حاله إلى سلوك مستقيم ، وكيف ضاعت قيمنا الأخلاقية في مجتمعات تفرض من نفسها أنها تمتلك الخيرية ، وتعيش للخير المستقبلي، أتمنى أن تسلط الأضواء من قبل الكتاب على هذه الجلطات الدموية التي نفخت أوداج الحقيقة عندنا ، لكم التوفيق والسداد .

  4. #4

  5. #5
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    فهل سيعرف الزمان أن البؤساء لهم يوم جديد؟؟
    \

    هذه مهمة النجباء
    أن يحركوا الجبال الرواسي القابعة في جماجمنا


    \


    صديقي الرائع أبراهيم والحقيقة أني أتمنى صداقتك

    فخورأنا بوجودك هنا في واحتنا الغناء
    الإنسان : موقف

  6. #6

  7. #7

  8. #8

المواضيع المتشابهه

  1. صدمة - قصة قصيرة جدا
    بواسطة عبير النحاس في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 26
    آخر مشاركة: 05-06-2018, 02:02 AM
  2. صدمة
    بواسطة وفاء شوكت خضر في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 10-08-2007, 03:50 AM
  3. صدمة
    بواسطة سارة محمد الهاملي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 15-06-2007, 03:23 PM
  4. صدمة لقاء!!! !!!
    بواسطة شاطئ سلام في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 10-10-2006, 01:48 PM
  5. صدمة ...!!
    بواسطة يوسف الحربي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 03-01-2004, 02:56 AM