من بديع نظم ابن الرومي
قال ابن الرومي من الكامل :
وإِذا امْرؤٌ مدح امرَءاً لنوالِهِ وَأطالَ فيه فقد أرادَ هِجاءهُ لوْ لم يُقدّرْ فيه بُعد المستقَى عِندَ الورودِ لما أطالَ رِشاءهُ
وقد كرر المعنى فقال من المتقارب:
إِذا عَزَّ رِفدٌ لُمسترْفِدٍ أطالَ المديحَ له المادحُ وَقِدْماً إذا استُبعدَ المُستقَى أطالَ الرشاءَ لهُ الماتحُ
كلما قرأت لكبار شعراء العربية وجدت عبقرية كل منهم تتمثل في تطويع اللغة وتصيد الشوارد وسعة الخيال , وكنت أقول ولا أزال أنَّ ثمَّة معانيَ لا تأتي إلا إلهاماً وهي ما يتفرد بها الشعراء والحكماء عن غيرهم , وللقاري الكريم أن يتأمل معنى ابن الرومي وبراعتَه في التأكيد عليه بأسلوب مثيرٍ وتفسيرَ ما ذهب إليه بالتشبيه ليقرب معنى بعيدا بملمحٍ حسي بيئي قريب يعرفه كل أحد . فالاستقاء وأطرافه ( الماتح -البئر- الرشاء - الماء ) والاستجداء وأطرافه ( مادح - ممدوح - القصيدة - الرفد ) بينهما تشابه كبير من حيث العناصر ومن حيث تفاعلها مع بعض فالماتح يرد الماء وعلى حسب قرب الماء يكون الحبل وكلما كان الماء قريبا غمرا كان البئر محمودًا مورودًا والعكس بالعكس ولذا قال في من أطال " أراد هجاءه " , فالمادح يريد الرفد وكلما كان الممدوح جواد كريما كان رفده قريبَ منالٍ لا يحتاج إلى كثيرِ مقالٍ لذا قال من أحد قصائده مادحا بذلك :
عجبي أطلتُ لك الرشاءَ ولم أجدْ جَدواكَ غَوْراً بل مَعينا عائنا
وكأنه بهذا البيت يستدرك على نفسه ما ظنه في الممدوحين متعجبا من إطالته القصيدة والجدوى( الرفد ) قريبٌ مُنالٌ لا يحتاج إلى هذه الإطالة وقد علل إطالته القصيدة في غير هذا البيت من القصيدة بكثرة مناقب الممدوح ومواهبه .
ولعلي أضيف فأقول إن ابن الرومي ألقى التبعة على الممدوح وحمّله إطالة المادح من اقصاره بصورة فنية بديعة وفكرة ذكية مغفلاً بذلك جودة القصيدة وقدرة تأثيرها على الممدوح فرب بيت أرفد من قصيدة , وإن كان نيل الماء بطول الرشاء فالرفد بجودة القصد , وخلاصة القول أنَّ الممدوحين على تعبير ابن الرومي من حيث الرفد كالآبار منها ما ماؤه معينٌ غمر ومنها ما هو غور ومنها ما هو طامٍ لا يحتاج إلى رشاء منها ما هو خرِب نش معدوم الماء ... فما أبدعها من صورة وأدقه من توظيف .
أخوكم/ بندر الصاعدي